تمثل رواية “المعلم ومارغريتا”، المعروفة أيضًا باسم “الشيطان يزور موسكو”، للكاتب الروسي “ميخائيل بولغاكوف”، علامة فارقة في الأدب الروسي والعالمي، وهي تختلف عن النسق العام للروايات الروسية، فهي رواية مثيرة للجدل، يصعب تصنيفها إلى أي نوع من الأدب تنتمي، فلا يوجد في نظريات الأدب وتعريفاته توصيفًا لها حتى الآن، هل ملحمة؟ أم أدب خيال وفانتازيا؟ أم أدب أسود لكونها ترتبط بالسحر؟ إذ تعد مزيجًا يجمع بين الملموس والمتخيل، وبين الواقعية والفانتازيا على نحو متجانس وجذاب، وبين السخرية العنيفة والهجاء القاسي. كما أنها ليست من الروايات التي تتناول حياة النبلاء والأثرياء، أو الريف والفلاحين، أو تتناول سيرة بطل شيوعي، لكن بعض النقاد يعتبرونها تحفة المؤلف.
مع أن بولغاكوف يتميز بسرعة الإنتاج الأدبي، فإنه استغرق 12 عامًا للانتهاء من هذه الرواية. مرت هذه الرواية بظروف كثيرة قبل طباعتها وصدورها لأول مرة عام 1967 بعد موت مؤلفها بأكثر من 26 عامًا، فقد طالها مقص الرقيب، ومنعت من النشر مدة طويلة.
بدأ بولغاكوف كتابة “المعلم ومارغريتا” عام 1928، لكنه أحرق المخطوطة الأولى عام 1930؛ لتيقنه من عدم نشرها، ولإدراكه عدم وجود مكان له ككاتب في الأوساط الأدبية بالاتحاد السوفيتي في فترة من أعتى فترات القمع السياسي.
في تلك الفترة طلب بولغاكوف من ستالين السماح له بالهجرة خارج روسيا، حيث أشيع عنه في الأوساط الأدبية أن أعماله تنتقد النظام الشيوعي، لكن لم تتم الموافقة على ذلك؛ كنوع من فرض الإقامة الجبرية والقهر والإذلال؛ مما أثر تأثيرًا كبيرًا في نفسيته وكتاباته.
أعاد بولغاكوف كتابة مخطوطة الرواية من ذاكرته عام 1931، وأكمل المخطوطة الثانية عام 1936، ثم الثالثة عام 1937، وحملت مخطوطات هذا العمل عناوين مختلفة، مثل “البهلوان”، و”الساحر الأسود”، و”جولة وولاند الفنية”، و”المشعوذ ذو الحافر”.
أطلق بولغاكوف عام 1937 عنوان “المعلم ومارغريتا “على الرواية، وفي عام 1938 أعدّ المخطوطة الرابعة وأدخل بعض التعديلات عليها في ظل انتقادات شديدة لأعماله الأخرى، وفي هذه المرحلة وضع اللمسات والخطوط الرئيسة للنسخة النهائية.
توقف بولغاكوف عن الكتابة قبل أربعة أسابيع من وفاته عام 1940؛ نظرًا إلى تدهور حالته الصحية. ورغم اضطهاده، دفن في مقبرة العظماء بموسكو.
ترك بولغاكوف الرواية وهي تفتقر إلى دمج النهايات، واكتمال بعض الجمل بالنسخة الأخيرة، فتولت أرملته “يلينا” إكمال الفصول الأخيرة من المخطوطات السابقة إلى المخطوطة الأخيرة.
لم تجد الرواية طريقها إلى النور إلا بعد ستة وعشرين عامًا، عندما نشرتها أرملته في مجلة موسكو الأدبية على عدة حلقات من نوفمبر (تشرين الثاني) 1966 حتى يناير (كانون الثاني) 1967، وقد خضعت تلك النسخة للرقابة، فحذفت منها عدة أجزاء قدرت بنسبة 12% من جملة الرواية، كالأجزاء التي يعلق فيها بولغاكوف على الفساد الأخلاقي والحكومي السوفيتي، مثل ممارسات الشرطة السرية في موسكو، خاصة فترة حكم ستالين.
وهُرِّبت نسخ من المخطوطات بالنص الكامل إلى باريس عام 1967، ونشرت باللغة الروسية في إيطاليا في العام نفسه. نشرت الرواية لأول مرة كاملة في شكل كتاب، وباللغة الروسية عام 1973 بعدما حررتها الباحثة الروسية آنا ساهاكيانتس Anna Sahakyants، واعتمدت نسختها على آخر مخطوطة كتبها بولغاكوف عام 1940، وظلت النسخة المعتمدة للباحثين حتى سنة 1989، حتى أعدت الأديبة ليديا يانوفسكايا Lidiya Yanovskaya نسخة أخيرة استنادًا إلى جميع المخطوطات المتاحة من قبل، وأصبحت طبعة 1989 هي الطبعة الرسمية من الرواية، ومع ذلك لا يعرف إلى أي مدى تأثرت هذه النسخة بإضافات يلينا زوجة بولجاكوف الثالثة والأخيرة، حيث كان في حوزتها ملاحظات المخطوطات المتبقية. ونظرًا إلى الكم الكبير من المخطوطات والمسودات، فمن الصعوبة تقريبًا تحديد النسخة الرسمية من الرواية التي ترجمت إلى عدة لغات، وترجمها إلى العربية أول مرة الأديب والمترجم السوري يوسف حلاق. إلى جانب ترجمتها إلى لغات أخرى، ولأهميتها الأدبية؛ تحوّلت إلى عدة أعمال سينمائية، ومسرحية، وتليفزيونية.
تحتاج قراءة هذه الرواية إلى التحلي بالصبر؛ فالرواية منذ بدايتها ستشعرك بالتعقيد والتشابك، كما تحتاج إلى إلمام بالملابسات والظروف السياسية والأحداث التاريخية التي مرت بالإمبراطورية الروسية قبل الثورة البلشيفية 1917 وبعدها، حتى يتفهم الإشارات والإسقاطات التي يشير إليها المؤلف بين ثنايا السطور.
ولد ميخائيل بولغاكوف في 15 مايو (آذار) عام 1891، في مدينة كييف بأوكرانيا، التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية الروسية، وكان والده أفاناسي إيفانوفيتش بولغاكوف، أستاذًا في أكاديمية اللاهوت في كييف.
درس بولغاكوف الطب في جامعة كييف، وبعد تخرجه عمل جراحًا في مستشفى تشيرنوفيستي، وبعد ذلك عُين طبيبًا في مقاطعة سمولينسك. مارس بولغاكوف الطب سنوات قليلة قبل أن يتركه للتفرغ للكتابة، وأتاحت له وظيفته في المستشفيات، ورؤية الجرحى بالميدان في أتون الثورة الروسية والحرب الأهلية، كثيرًا من التجارب والخبرات التي نقلها للقارئ.
عرف عن بولغاكوف أسلوبه المميز في الكتابة الذي يربط فيه بين حياته وأعماله، فقد شكّلت حياته الشخصية مصدرًا لكتاباته، سواء أكان أمرًا واقعيًّا أو خياليًّا، فهي تجسد تجاربه الحياتية. كذلك تتميز كتاباته بالدعابة والهجاء الساخر للأوضاع الروسية النابعة من تجارب إنسانية؛ مما جعله عرضة للانتقاد. هيأت له ظروف عمله على الجبهة كتابة رواية “مذكرات طبيب شاب”، وربما تكون هذه أول أعماله، ولم تسلم رواية “الحرس الأبيض”، عام 1925، من النقد؛ لتناوله دوافع الضباط البيض وسلوكهم بعد الحرب الأهلية، ولافتقارها إلى رمز وبطل شيوعي، ومثّل ذلك النقد دافعًا وتحديًا لبولغاكوف، فترك وظيفته، وتفرغ للكتابة، وأضاف أعمالًا أخرى لاقت انتقادات حادة، ومنها روايته الغريبة والفانتازية “قلب كلب”، التي قدّمها على نحو هجاء هزلى للعلوم الزائفة، وأسقط أحداثها على الطبقة الاجتماعية الجديدة، التي ظهرت بعد الثورة، من الجهلاء والرعاع المتعصبين للوطن، والمسيطرين على السلطة والمؤسسات؛ ومن ثم تراجع دور العلم والثقافة لصالح قرارات هذه الطبقة وسلطويتها.
تكالبت على بولغاكوف الأزمات، فمُنعت أعماله من النشر، وصودرت أحيانًا، ورُفض طلب هجرته، فضلًا عن عدم تأييد الوسط الأدبي له تزلفًا للسلطة، بل وصل الأمر إلى الوشاية به عند السلطات الروسية. تحت وطأة هذه الظروف، فكر بولغاكوف في كتابة رواية بأسلوب مختلف، يستعرض فيها واقع الحياة في الاتحاد السوفيتي بعد الثورة البلشفية، والمساوئ الاجتماعية للثورة من انتشار الوشاية؛ ومن ثم التعرض للاعتقالات والاختفاء القسري، والريبة والشك في الوافدين إلى البلاد، وذلك من خلال غطاء من الخيال لتوفير الحماية لنفسه.
كانت هذه الرواية روايتين عبر المكان والزمان، تقع أحداث الرواية الأولى في موسكو في ثلاثينيات القرن الماضي، في حين تقع أحداث الأخرى فى أورشليم قبل نحو 2000 عام، حيث تصور يسوع (المسيح) وهو يحاكم ويُنفذ فيه حكم الإعدام بالصلب.
وظّف بولغاكوف البعد الأسطوري والميثولوجيا الدينية، ليسقط رموزها على الواقع السوفيتي، فربط بين الوشاية بالمسيح وتخلي أنصاره عنه وبين واقعه الحالي بفساد المؤسسات السوفيتية، وانتشار الوشاية والفساد بها، وتخلي زملائه ورؤسائه عنه، فينتقم فيها (كتابيًّا ورمزيًّا) ممن تخلوا عنه ولم يناصروه من الفاسدين بالمؤسسات الأدبية، حيث يقتص له الشيطان منهم، فتحل عليهم الكوارث، وزيادة في إبراز فسادهم وشرهم، جعل في الشيطان ملامح خير مقارنةً بهم.
تبدأ الرواية بمشهد في أحد شوارع موسكو، حيث يدور نقاش بين اثنين من الرجال: ميخائيل برليوز، رئيس رابطة أدبية تتألف من مجموعة من المتسلقين الفاسدين والبيروقراطيين المستغلين؛ وإيفان بونيريوف، وهو شاعر ينشر أعماله تحت اسم “المتشرد”.
يتناقش الرجلان بشأن إحدى قصائد إيفان التي تصور المسيح على أنه حقيقي، لكن برليوز ينكر ذلك. يقتحم الحديث رجل أجنبي غامض يدعى فولند، ويكتشف القارئ بعد ذلك أنه الشيطان متخفيًا، ويؤكد الوافد الجديد أن يسوع كان رجلًا حقيقيًّا، وإثباتًا لذلك يقدم فولاند وصفًا تفصيليًّا لمسرح إعدام يسوع بعد أن أصدر عليه بيلاطس البنطي- القائد الروماني- حكمًا بالقتل صلبًا في أورشليم.
ينتقل مسرح الأحداث إلى القدس مكانًا وزمانًا بالرجوع إلى ألفي عام من الزمن لمشاهد الرواية الثانية، وفيها يسرد فولاند مشاهد بيلاطس ويسوع، حيث يظهر الحراس وهم يجرون يسوع أمام بيلاطس متهمًا بالتآمر على الإمبراطور، ويدرك بيلاطس أنه أمام فيلسوف متجول، بل يشعر بحاجته الروحية إليه، ويهتم بما يقوله من تعاليم ويتعاطف معه، ومع أنه لا يريد الحكم عليه بالإعدام، فإنه يضطر إلى ذلك للحفاظ على السلام في المدينة، وخوفًا من وشاية يهود أورشليم به لدى الإمبراطور الروماني.
في عودة سريعة إلى موسكو، لا يصدق الكاتبان ما يقوله فولاند، فيخبرهما بنبوءة غريبة عن مقتل أحدهما (رئيس رابطة الأدباء)، وبتفصيل دقيق جدًّا، وبالفعل، في مشهد مرعب، يشهد الشاعر الشاب فصل رأس رفيقه عن جسده إثر انزلاقه وارتطامه بقطار تقوده امرأة شابة، فيضطرب الشاعر ويهيم على وجه في شوارع موسكو بعد فشله في تتبع فولاند. يفشل الشاعر في إقناع أحد أن ذلك الرجل الأجنبي تسبب في موت رئيس الرابطة، وأنه الشيطان نفسه، فيُودَع في مصحة عقلية تحت رعاية الدكتور سترافنسكى Stravinsky، وهناك يقابل إيفان شخصًا يدعى المعلم، ويخبره عن مقابلته مع فولاند الشيطان، فيصدقه المعلم، ويتضح أن المعلم ألّف رواية عن بيلاطس البنطي، ورُفض نشرها، واضطهدته الصحافة، وواجه انتقادات شديدة من المؤسسات الأدبية عن الرواية، فأحرقها في المدفئة، ولم يتحمل الضغط، فانتهت به الحال إلى المصحة العقلية، ويخبر إيفان عن حبيبته وزوجته السرية مارغريتا.
ما زالت الأحداث في موسكو، فيزور فولاند مدير مسرح حكومي، يحمل هذا المدير اسم “ستيبا ليخودييف”، الذي يتقاسم الشقة مع الكاتب برليوز المقتول، ويخبره فولاند عن موافقته على إقامة حفلات للسحر الأسود في المسرح، على الرغم من عدم تذكر ستيبا لذلك، فيقدم له فولاند عقدًا بموافقته سابقًا، ثم يُرسل ليخدييف بطريقة سحرية إلى مدينة يالطا على البحر الأسود، ويستولي فولاند على الشقة المعروفة برقم 50، مع حاشيته التي ترافقه، وهي: مساعده كوروفيف”Koroviev، وقاتل متسلسل يدعى عزازيلو Azazello، وقطة سوداء عملاقة تدعى بيهموث Behemoth، ومصاصة دماء تسمى هيلا Hella.
يستفسر موظفو المسرح الآخرون عن مديرهم ستيبا، وسبب إقامة حفلات للسحر الأسود، ويدهشون لوصول برقيات من ستيبا في يالطا، التي تقع على مسافة بعيدة، يخبرهم فيها بسفره، مع أنهم شاهدوه قريبًا، فكيف وصل هناك في ذلك الوقت القصير؟ وتقام حفلة عرض سحري أمام حشد كبير من سكان موسكو، ويحيي كوروفيف وبهيموث الحفلة التي تمتلئ بالأمور المرعبة والغريبة من السحر الأسود، فضلًا عن إغراق الجمهور بالمال، وتوزيع هدايا فاخرة من العطور والملابس يتناحر عليها الجميع، في مشهد فوضوي ومحرج، لا يليق بسكان مدينة كبيرة مثل موسكو، لكن ذلك ما كان يريد فولاند أن يراه في المجتمع، حيث يفتقر إلى التقدم الأخلاقي الذي تحقق في المجتمع السوفيتي. ورغم التغير الذي حدث بعد الثورة، وإدخال التكنولوجيا، فإن سكان موسكو، وخاصة النساء، مثلهم مثل أي شعب آخر، يتهافتون على المال، ويفعلون أي شيء من أجل الحصول عليه، وعلى أي شيء مجاني.
تظهر مارغريتا التي تفتقد زوجها المعلم في وقت متأخر في الرواية. فحينما كانت تقرأ تجد نفسها بالمصادفة في جنازة برليوز الذي أخذ شخص ما رأسه المقطوع. قبلها، وذات يوم، اعترفت لنفسها بأنها مستعدة لتسليم روحها للشيطان لمعرفة ما إذا كان المعلم على قيد الحياة أم لا، فيقرأ فولاند أفكارها، وفي العزاء تلتقي بعزازيلو الذي يلمح لها بلم شملها مع زوجها، وتقبل دعوته لزيارة فولاند، فتستسلم له، ويحولها إلى ساحرة، وتحلق فوق المدينة للقاء فولاند، وخلال الرحلة تدمر بعض الأشخاص من معارفها، وتصطحب ناتاشا خادمتها التي مُنحت قوة سحرية هي أيضًا، فتركب ناتاشا خنزيرًا عملاقًا كان في الأصل أحد جيران مارغريتا.
يوجه فولاند مارغريتا مع خادمتها لتولي وظيفة المضيفة في حفل اكتمال القمر، أو كما يطلق عليه حفل الشيطان. في الحفلة تقتل عدة شخصيات، منها البارون مايغل؛ إحدى الشخصيات البارزة بموسكو. وفي نهاية الحفلة، يتشارك الشيطان ومارغريتا مشروبًا من دم رأس برليوز، ويعرض عليها فولاند أمنية، فتختار إنقاذ إحدى السيدات الحاضرات في الحفلة، وفي الأمنية الثانية تطلب مارغريتا حضور المعلم، فيستحضره لها، ويشيد فولاند بكتاب المعلم، ويعيد إليه روايته المحترقة قائلًا: “المخطوطات لا تحترق”، ويسمح لهما بالعودة إلى بيتهما وحياتهما السابقة الفقيرة، وتعود حاشية الشيطان جميعًا إلى الشقة، ويواصلون حيلهم وألاعيبهم بالسحر الأسود، فتنقلب مدينة موسكو رأسًا على عقب. تأتى الشرطة إلى الشقة المشتبه في سكانها، فيستعدون للمغادرة برفقة فولاند، مودعين موسكو بعد أن أحرقوها.
تعزو سلطات موسكو الأحداث الغريبة إلى الهستيريا، والتنويم المغناطيسي الجماعي، وتعود المدينة هادئة، ويترك إيفان الشعر، ويصبح أستاذًا للفلسفة!
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.