تقدير موقف

قبل ألاسكا بيوم.. لماذا يتجاهل بوتين أوروبا ويراهن على ترمب؟


  • 14 أغسطس 2025

شارك الموضوع

غدًا يلتقي بوتين وترمب في ألاسكا، في قمة تراها موسكو الفرصة الحقيقية -وليس مجرد فرصة- لصياغة تسوية كبرى للأزمة الأوكرانية، على الرغم من كل الضغوط والشكوك التي تحيط بها.

قبل هذا الموعد، اجتمع القادة الأوروبيون في بروكسل، لكن التعليق الروسي على هذا اللقاء كان واضحًا: هذا الاجتماع الأوروبي غير ذي قيمة سياسية، أو عملية، وهدفه هو تقويض المسار المباشر مع واشنطن.

الكرملين يرى أن أوروبا تفتقر إلى استقلالية القرار، وأنها تتحرك على إيقاع الناتو، الذي تضبطه واشنطن كيفما تشاء، ووقتما تشاء. هذا فهمي لموقف موسكو الرسمي؛ لذلك فأوروبا في نظر بوتين هي طرف تابع، وليست وسيطًا فاعلًا، فمن يتابع اللهجة الرسمية الروسية في التعليق على اجتماع القادة، يوم 13 أغسطس (آب) يلمس بوضوح أنها لم تكن لغة مجاملة دبلوماسية؛ بل لغة تقييم جاف.

المتحدث باسم الخارجية الروسية ألكسي فادييف لم يتردد في وصف المشاورات الأوروبية بأنها مجرد ضوضاء إعلامية ليس لها قيمة، وفقط قد تستغل من أجل تقويض الحوار المباشر بين القادة في موسكو وواشنطن. وأعاد في السياق نفسه التأكيد أن روسيا تحتفظ بحقها في الرد على أي استخدام للأصول الروسية المجمدة في أوروبا لدعم كييف، ردًا على التلويح الأوروبي بالحزمة الـ19 من العقوبات.

الرهان الروسي ينصب على الحوار المباشر والواضح مع الولايات المتحدة، وينطلق من تصور إمكانية عقد صفقات إستراتيجية، خصوصًا الآن في ظل حكم إدارة ترمب الثانية، بعيدًا عن تدخلات وتعقيدات المؤسسات الأوروبية، الغارقة في بيروقراطية سياسية.

بوتين وموسكو يدركان أن بروكسل ليس بيدها أدوات كافية أو كفيلة لجعلها قادرة على الضغط أو الإقناع، وأن قرار الحرب والسلم في أوكرانيا لا يحسم على الطاولة الأوروبية.

في رأيي، ألاسكا هي الرهان الحقيقي، فعلى الرغم من تأكيد فادييف أن موقف روسيا من التسوية لم يتغير منذ مبادرة بوتين في يونيو (حزيران) 2024 (التي طرحها على عجل خلال لقاء مع كبار دبلوماسيي وزارة الخارجية ومسؤوليها)، يدخل بوتين ألاسكا غدًا بثلاثة أهداف واضحة:

1- ترسيم الوضع الميداني الحالي كأمر واقع، مع إجبار كييف على الانسحاب من باقي مناطق دونيتسك، على أن ينسحب الروس من خاركوف ودنيبروبتروفسك وسومي جزئيًّا.

2- انتزاع ضمانات مكتوبة بعدم توسع الناتو شرقًا، وإعادة صياغة الإطار الأمني في شرق أوروبا بما يحدّ البنية التحتية الأطلسية قرب الحدود الروسية.

3- فتح مسارات اقتصادية مع واشنطن ترمب لتقليل الاعتماد تمامًا على أوروبا.

ومن وحي قراءة الموقف الروسي الرسمي والتصريحات التمهيدية للقمة، أعتقد أن لغة بوتين التفاوضية ستظهر فيها مصطلحات مثل “ضمانات أمنية متبادلة”، و “إطار أو هيكل أمني أوروبي جديد”، و”الخطوط الحمراء”، وغيرها، وكلها مصطلحات ستحمل رسائل موجهة إلى ترمب وأوروبا، وكذلك الداخل الروسي.

والرسائل المخبَّأة في هذا الخطاب الروسي المتوقع، مثل المطالبة بضمانات أمنية متبادلة، ليست مجرد صياغة بروتوكولية؛ بل هي إشارة إلى مطلب موسكو التاريخي بتحويل أي تفاهم مع واشنطن إلى اتفاق مكتوب، وملزم قانونيًّا، يحصن المكاسب، ويمنع الانقلاب عليها في المستقبل.

أما مصطلح “تسوية عادلة ومستدامة”، الذي سوف يستخدمه بوتين أيضًا، فهو رفض صريح لأي عودة إلى ما قبل 24 فبراير (شباط) 2022، وتأكيد أن أي سلام يجب أن يعترف بالواقع الميداني الجديد، ولو حتى بحكم الواقع خلال المرحلة الحالية.

وفي الوقت نفسه، فإن مصطلح “هيكل أمني أوروبي جديد” هو توسيع متعمد لأجندة القمة ليشمل إعادة توزيع مناطق النفوذ والتأثير في القارة، وليس مجرد البحث في أزمة أوكرانيا.

والسيناريوهات المحتملة للقمة إذن -انطلاقا من هذا الموقف- تتراوح بين ما يلي:

1 – التوصل مع ترمب إلى اتفاق إطاري إستراتيجي، يوقف القتال بشروط تضمن مصالح موسكو، الدنيا على الأقل.

وهذا السيناريو سيكون ممكنًا إذا اتفق بوتين وترمب على وقف نار مشروط، مع ضمانات بعدم توسع الناتو، على أن تُجرى لاحقًا مفاوضات لترسيم الوضع الميداني.

وهنا بالطبع تحقق روسيا مكاسب كبيرة، أهمها تثبيت السيطرة الميدانية، والاعتراف الأمريكي بدورها المركزي، وإمكانية شق الصف الأوروبي، لكن يظل هناك خطر أن تتحول الهدنة إلى فرصة لإعادة تسليح أوكرانيا وتجهيزها لاستئناف القتال بوضعية أفضل عسكريًّا.

2 – فشل القمة، وهذا -بلا أدنى شك- سيترتب عليه تصعيد عسكري، وسياسي؛ لأن هذا السيناريو معناه أن كل طرف يتمسك بشروطه القصوى؛ ما قد يدفع موسكو إلى التصعيد العسكري لتغيير المعطيات قبل أي جولة تفاوضية جديدة. والمكاسب المحتملة هنا هي تعزيز الموقف التفاوضي من خلال فرض وقائع جديدة، لكن الخطر يتمثل في عقوبات أشد، وانخراط أمريكي أعمق في دعم كييف.

وهنا يأتي دور السؤال المنطقي، الذي عنونت به المقال، لماذا يراهن بوتين وموسكو على ترمب أكثر من أوروبا؟

في رأيي، وعلى الرغم من شخصية الرئيس ترمب نفسه، فإن الأمر يتجاوز شخص الرئيس الأمريكي إلى طبيعة النظام السياسي نفسه، فالولايات المتحدة -بخلاف أوروبا- قادرة على اتخاذ قرارات إستراتيجية منفردة إذا وُجدت الإرادة السياسية؛ وهنا يظهر بوضوح عامل الشخصية، فترمب -تحديدًا- يميل إلى الصفقات الثنائية التي تمنحه فرصة لتقديم نفسه كصانع سلام عالمي. وفيما يتعلق بالكرملين ولبوتين، فإن هذا النمط من الشخصيات يفتح الباب أمام تفاهمات بعيدة عن ضغوط المؤسسات الجماعية التي تعرقل أي مسار مرن.

أما ما بعد ألاسكا، فسواء انتهت القمة باتفاق إطار، أو بفشل يفتح الباب لمزيد من التصعيد (وأنا أستبعد أن تفشل، في كل الملفات على الأقل، لكن كل شيء جائز)، فإن ما سيحدث في ألاسكا سوف يترك أثرًا عميقًا في مسار الحرب بأوكرانيا، وفي النظام الأمني الأوروبي كله.

موسكو تدخل القمة وهي ترى فرصة سانحة لصياغة “سلام روسي الطابع”، قائم على تثبيت مكاسبها الميدانية بعد ثلاث سنوات ونصف السنة من الحرب، وتعديل قواعد الأمن الإقليمي لصالحها، لكن هذا الرهان محفوف بالمخاطر؛ فالإخفاق قد يعيد الصراع إلى مربع المواجهة المفتوحة، مع كل ما يحمله ذلك من تبعات عسكرية واقتصادية واجتماعية وسياسية.

في كل الأحوال، تبقى حقيقة ثابتة في الخطاب الروسي الذي أقرؤه وأسمعه كل يوم: أوروبا بكل ضجيجها وصخب اجتماعاتها ليست في نظر بوتين وموسكو سوى لاعب ثانوي في مباراة تُحسم قواعدها بين موسكو وواشنطن، وربما تحديدًا بين بوتين وترمب على طاولة صغيرة أنيقة في ألاسكا.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع