مقالات المركز

هل نحن أمام حرب استنزاف ستطول؟

في الذكرى الثالثة لضم الأقاليم الأربعة.. هل من مخرج في الأفق في أوكرانيا؟


  • 1 أكتوبر 2025

شارك الموضوع

حلت أمس، الثلاثاء 30 سبتمبر (أيلول) 2025، الذكرى الثالثة لقرار بوتين التاريخي ضم الأقاليم الأوكرانية الأربعة، لوغانسك ودونيتسك، في كامل حدودهما الإدارية لعام 2014، وزابوروجيا وخيرسون في حدودهما الإدارية لحظة إجراء استفتاء الضم.

وتقول لنا القراءة العسكرية للميدان الأوكراني بعد مرور هذه السنوات الثلاث، إن الحرب تحولت في واقع الحال إلى حرب خنادق، على غرار معارك الخنادق في الحرب العالمية الأولى، التي لا يحدث بها تقدم أو اختراق يقلب موازين القتال؛ فلا روسيا استطاعت إحكام السيطرة على الأقاليم الأربعة، ولا أوكرانيا -مع كل الدعم العسكري والمالي والسياسي الغربي- تمكنت من كسر الآلة العسكرية الروسية، أو استرداد شيء مما فقدته، بل فقدت أكثر بكثير من أبنائها، وأجيالها التالية، وفقدت معهم أرضًا جديدة.

في الميدان البري، تخبرنا تقارير الجبهة العسكرية أن القوات الروسية تواصل التقدم والضرب، فاليوم استخدم الجيش الروسي راجمات أوراغان الشهيرة والمدفعية الثقيلة لتدمير تجمعات عسكرية أوكرانية في لوغانسك، ولإرباك مسارات الإمداد للقوات الأوكرانية المدافعة في دونيتسك، إلى جانب ضغط تدريجي متواصل في محوري سومي وخاركوف، وهذا هو جوهر إستراتيجية “القضم البطيء” التي لجأ إليها الجيش الروسي لتقليل خسائره البشرية، بعدما وعى درس الأشهر الأولى للحرب، وكذلك لكونها إستراتيجية ممتازة في ظل متغيرات هذه الحرب من أجل تراكم مكاسب تكتيكية دون اندفاعات واسعة. كما أنها تحقق هدف استنزاف احتياطيات كييف وقدراتها المضادة للمسيرات.

لكن هذه الذكرى الثالثة، ومع هذه الأوضاع الميدانية، تحل ومعها بعد استخباراتي وأمني جديد، بعد سلسلة من الحوادث في أجواء دول البلطيق ودول أوروبا الشرقية، وتوجيه هذه الدول إصبع الاتهام لموسكو، ومساعيها لتشكيل تحالفات أمنية جديدة، وبناء “جدر” جديدة، على غرار الستار الحديدي، وأقصد جدار المسيرات لحماية أوروبا من اختراقات روسيا.

في هذا السياق يأتي تحذير الاستخبارات الخارجية الروسية اليوم في بيان رسمي من أن “كييف تجهز استفزازًا رنانًا على الأراضي البولندية. والسيناريو المفترض لذلك يتضمن إدخال مجموعة تخريبية تُنسب زيفًا إلى القوات الروسية أو البيلاروسية، مع محاكاة استهداف منشآت بنية تحتية حيوية، وهو ما يدفعنا إلى الإقرار بأن ساحة الحرب لم تعد محكومة بحدود أوكرانيا، هذا أولًا، وثانيًا: يتعاظم خلالها دور العمليات الاستخباراتية التخريبية بهدف توسيع نطاقها، لا البحث عن حلول لها.

كما أن هذا التحذير يأتي متزامنًا مع إشارات أوروبية إلى دفع ملف انضمام أوكرانيا ومولدوفا إلى الاتحاد الأوروبي، بعدما شهدت مولدوفا انتخابات برلمانية مثيرة للجدال، تنافست فيها روسيا والاتحاد الأوروبي، إذا سمينا الأشياء بأسمائها، وجرى خلالها ما لو حدث في روسيا لاتُّهم بوتين بالتزييف والقمع. وهي على العموم خطوة سياسية رمزية أكثر منها إجراءً عمليًّا في المدى القريب.

لذلك، من الحري بنا ونحن نقدم عرضًا للأوضاع الميدانية السياسية في الحرب الأوكرانية، تزامنًا مع هذه المناسبة، أي مناسبة ضم الأقاليم الأوكرانية الأربعة، التي لم أتوقع أن تحدث مع انطلاق شرارة الحرب، ولا أعتقد أن الكثيرين غيري توقعوا هذه السيناريوهات لتطوراتها، أقول من الحري الإشارة إلى أهمية الرمزية السياسية الروسية، والبوتينية خصوصًا، لهذه الذكرى.

فيوم إعلان انضمام المناطق الأربع إلى إقليم الاتحاد الروسي لا يمكن أبدًا -بأي حال من الأحوال- أن ننظر إليه كأحد تفاصيلها العابرة، بل في رأيي كان هذا القرار إعلانًا من بوتين بألا رجعة، ولا اتفاق وفق قواعد اللعبة القديمة. لقد كان تحديًا كبيرًا، لا أبالغ إن وصفته بأنه يتساوى مع قرار الدخول عسكريًّا إلى أوكرانيا.

بوتين كان حريصًا وهو يوجه خطاب التهنئة بهذه المناسبة على إبراز “قدسية” هذا القرار الذي اتخذه في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات. وتأكيده هذه القدسية يرسخ -في رأيي- سقفًا تفاوضيًّا ثابتًا له وللكرملين ولموسكو ونخبها، سياسية وعسكرية، وهو أن أي تسوية مقبلة محتملة لا يمكن أن تتجاوز واقع هذه الأقاليم تحت السيادة الروسية. وهذه الرسالة من بوتين تعيد مجددًا ضبط أي نقاش دولي بشأن حدود الممكن لروسيا في مسار التسوية.

وختامًا أقول إن المشهد الذي قدمناه في الأسطر القليلة أعلاه يختزل ملامح هذه المرحلة؛ فميدانيًّا، يبدو أن الحرب تحولت إلى حرب استنزاف متبادل من خلال المسيرات والضربات الصاروخية على المنشآت الحيوية والحساسة، مع تساؤلات روسية داخلية عن سبب امتناع الجيش -مع قدرته- حتى الآن على إنزال ضربات أكثر إيلامًا، لن يتعافى منها الداخل الأوكراني، مع ضرورة الإشارة بالطبع إلى تفوق روسي في الحفاظ على المبادرة البرية.

سياسيًّا وأمنيًّا، فإن استخدام أداة التحذير الاستخباري -وفق ما نقلته أعلاه عن بيان جهاز الاستخبارات الخارجية- يبدو كآلية استباقية لاحتواء أي تصعيد عبر الحدود، خصوصًا في الساحة البولندية.

وفي البعد الرمزي طبعا، يبقى تأكيد بوتين قدسية قرار ضم المناطق الأربع ذات الأغلبية الناطقة بالروسية قبل ثلاث سنوات عنوانًا ثابتًا، لا يقبل الجدال، والأهم أنه لا يقبل التراجع.

إن ما يتبلور عن هذه الصورة -على الأقل على حد فهمي- هو صراع طويل النفس، سيظل يراوح بين ضربات محدودة التأثير التكتيكي ورسائل سياسية عالية الصوت والسقف.

موسكو تراهن على أن الاستنزاف المتواصل، مقرونًا بتوازن الردع، سيقودها في نهاية المطاف إلى إجبار الطرف الآخر على فتح باب التفاوض على أرضية جديدة، عنوانها: تثبيت المكاسب الروسية هو أمر واقع غير قابل للانتقاص.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع