تاريخمقالات المركز

عيد النصر الروسي بين الذاكرة العسكرية وظلال الحرب الأوكرانية


  • 9 مايو 2025

شارك الموضوع

في التاسع من مايو (أيار) من كل عام، يتجاوز الروس حدود الاحتفال بعطلة وطنية ليخوضوا طقسًا جامعيًّا تستحضر فيه الأمة روايتها الكبرى عن النصر والتضحيات، والشعور بالاستمرارية التاريخية. على وقع موسيقى المارشات، وصدى مدافع التحية، تتحول الساحة الحمراء إلى مسرح رمزي يجمع بين ذاكرة الحرب العالمية الثانية وسردية الدولة الحديثة عن مكانتها في النظام الدولي. غير أن هذه الذكرى التي ولدت من رماد برلين لا تعيش في فراغ تاريخي؛ إذ تلتقي اليوم مع حرب دائرة في الجوار الأوكراني، لتضع إرث 1945 في مواجهة اختبار ميداني جديد يجري تحت أعين العالم، وشبكات الأقمار الصناعية، والطائرات المسيّرة.

تبدو موسكو عازمة على توظيف هذه الذكرى بوصفها رسالة متعددة الطبقات؛ أولًا: ترسيخ الوعي الداخلي بأن روسيا قادرة على حماية سرديتها التاريخية حتى في أصعب الظروف الأمنية. ثانيًا: تأكيد وجود شبكة علاقات خارجية ترفض منطق العزلة مهما اشتدت العقوبات، وثالثًا: تحويل منصّة العرض العسكري إلى فضاء تفاوضي غير معلن تدور فيه حوارات مكثفة مع ضيوف من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية بشأن الطاقة، والأمن، والغذاء. في المقابل، يراقب الغرب وكييف المشهد من زاوية مغايرة؛ إذ يرون في كل خطوة بروتوكولية فرصة لاختبار فاعلية الدفاعات الجوية الروسية، وحجم الاصطفاف الدولي الحقيقي خلف الكرملين.

بهذا المعنى يصبح عيد النصر معادلة معقدة يتداخل فيها البعد الاحتفالي مع حسابات الردع والردع المضاد، فالمنصات المضيئة بالرايات الحمراء تحيط بها دوائر حماية إلكترونية مضادة للمسيرات، ومسؤولون يتبادلون الابتسامات أمام عدسات الكاميرات، فيما يجري خلف الكواليس شد حبال دبلوماسي بشأن صيغة لوقف النار، أو توسيع منطقة عازلة على خط التماس. وسط هذا التوتر يقف المراقب أمام مشهد فريد: دولة تحاول تثبيت رواية ماضيها المجيد في لحظة يسودها عدم اليقين الإستراتيجي، في حين يستحضر خصومها الدرس نفسه ليؤكدوا أن اختبار القوة الحقيقي لم يحسم بعد. هكذا يتجدد الجدل القديم بين التاريخ والواقع، بين الاستعراض العسكري والعمليات الجارية على الجبهات، ليترك السؤال مفتوحًا: هل تستطيع ذاكرة النصر أن تشكل خريطة طريق للخروج من دوامة الصراع، أم أن الحرب الحالية ستعيد تشكيل الذاكرة نفسها لدى الأجيال القادمة؟

ترتبط الذاكرة الروسية بالحرب الوطنية العظمى على نحو يتجاوز سردية الانتصار العسكري البسيط، فمعارك ستالينغراد ولينينغراد وكورسك لا تُستعاد بوصفها وقائع ماضية؛ بل بوصفها مشاهد تؤسّس لتصوّر جمعي عن الصمود في وجه “الخطر الوجودي”، تصوّر يغذّي خطوط السياسات الدفاعية الراهنة؛ لهذا لا تُدرَّس وقائع 1941- 1945 في المدارس الروسية لتخليد ذكرى الشهداء فحسب؛ بل لترسيخ فكرة مفادها أن الاختبار المصيري قد يتكرّر، وأن الدولة تحتاج دومًا إلى جاهزية مجتمعية كاملة. النتيجة أن الماضي والحاضر يتداخلان ضمن “منظومة ذاكرة”، حيث تُجسّر الرموز العسكرية التاريخية فجوةَ الوقت، فتبدو الحرب الدائرة اليوم على تخوم أوكرانيا امتدادًا لسلسلة طويلة من الصراعات التي تُعرَّف رسميًّا باسم معارك الدفاع عن الوطن

في هذا السياق تُوظَّف الشعائر الرسمية ـ من مسيرة “الفوج الخالد” التي يحمل فيها المواطنون صورَ أجدادهم المقاتلين، إلى زيارة القادة الأجانب لضريح الجندي المجهول ـ بوصفها أدوات لإعادة إنتاج الهوية الوطنية، فالذاكرة هنا ليست أرشيفًا ساكنًا؛ بل هي مورد تعبوي يُستحضر كلما برزت حاجة إلى تماسك داخلي. وبقدر ما يُقوّي ذلك الرابطُ وحدةَ الشارع الروسي خلف القيادة، يثير أيضًا أسئلة عن حدود القدرة على مراجعة التاريخ بصورة نقدية؛ إذ يرى بعض الباحثين أن “قداسة النصر” تجعل أي نقاش بشأن كلفة الحرب، أو تعقيداتها الأخلاقية، أقل قبولًا في الفضاء العام.

تاريخيًّا، كل احتفال كبير بعيد النصر أتى مقترنًا بتحوّل إستراتيجي ما. في الذكرى الخمسين سنة 1995، كان الهدف طمأنة الداخل بعد صدمة تفكّك الاتحاد السوفيتي. وفي الذكرى الستين سنة 2005، سعى الكرملين إلى إبراز عودة روسيا فاعلًا دوليًّا وازنًا. أما استعراض 2015 فجاء بعد ضمّ شبه جزيرة القرم، ليعطي شرعية رمزية لذلك التحوّل الجيوسياسي. انطلاقًا من هذا النمط، يُنظر إلى احتفال اليوم على أنه حلقة أخرى في سلسلة “ربط الأحداث المفصلية”؛ إذ يضع الحكومة أمام تحدّي ترجمة الرسائل الرمزية إلى مكاسب سياسية واقتصادية ملموسة، في وقت يراقب فيه العالم قدرة موسكو على استيعاب ضغط العقوبات المستمر.

ربما تبدو المفارقة الأوضح في أنّ الشعور الجماعي بالقوة القائم على إرث الانتصار يتعايش مع إدراك متزايد لتغيّر طبيعة الحرب، فانتقال المواجهة من ساحات الدبابات إلى فضاء المسيّرات والحرب السيبرانية يفرض تحديثًا للطرائق التي تُروى بها القصة الوطنية: من رواية خنادق ستالينغراد إلى حكاية “قبة إلكترونية” تحمي موسكو من ضربات دقيقة. بعبارة أخرى، إن سرديات الماضي ليست قيودًا؛ بل خامة مرنة يُعاد تشكيلها لتناسب بيئة تكنولوجية وأمنية متغيرة، مع الحفاظ على قلب الرسالة: روسيا تنتصر عندما توحّد ذاكرتها وقدراتها. ويبقى السؤال مفتوحًا عن كيفية موازنة الاعتزاز التاريخي مع الانفتاح على مقاربات أمنية جديدة لا تعتمد على الرمزية فقط؛ بل على تطوير أدوات الردع والمفاوضة أيضًا في عالم سريع التحول.

ذاكرة الخطر الوجودي

يُعاد إنتاج مفهوم “الخطر الوجودي” في كل حقبة تمر بها روسيا، من اجتياح نابليون عام 1812 إلى عملية بربروسا عام 1941 وصولًا إلى النزاع الأوكراني الحالي. في المخيلة الشعبية يُصوَّر أي تهديد خارجي على أنه حلقة جديدة في سلسلة واحدة طويلة، وهو ما يُعطي صانعي القرار مساحة أوسع للتعبئة السياسية والاقتصادية. هذه الاستمرارية الإدراكية تجعل المواطنين يقيسون الحدث الراهن بمعايير تاريخية، لا بمعايير ظرفية، فتتحول المقارنات مع ستالينغراد إلى آلية معيارية لتقدير حجم التضحية الضرورية، وما يُنتظَر من الدولة توفيره في المقابل.

ذاكرة العائلة والنسيج الاجتماعي

لا تنحصر الذاكرة في المؤسسات؛ بل تتجذّر داخل العائلة الروسية: ألبومات الصور، وأوسمة الأجداد، وحتى وصفات الطعام التي انبثقت من اقتصاد الحرب. عندما يحمل حفيد صورة جده في مسيرة “الفوج الخالد”، فهو يربط ذاته الحاضرة بسردية جماعية عمرها ثمانون عامًا. هذه الذاكرة العائلية تدعم شبكات التضامن المجتمعية خلال الأزمات، إذ يستدعي الأفراد قصص الصبر على الحصار في لينينغراد لتفسير كيفية التعامل مع النقص الحالي في بعض السلع، أو مع القيود الاقتصادية.

ثنائية الانتصار والضحية

ثمة توتر دائم بين سردية النصر وسردية الخسائر البشرية الكبيرة. الخطاب الرسمي يركز على الانتصار باعتباره “إنجازًا حضاريًّا”، في حين يذكّر الأدب والفن بعدد الضحايا الضخم الذي تحمّله المجتمع السوفيتي. هذه الثنائية تُسهم في تشكيل وعي نقدي لدى شريحة من الأكاديميين الروس الذين يدافعون عن ضرورة الحفاظ على “منطقة رمادية” تسمح بالمراجعة الأخلاقية من دون تقويض الأساس الرمزي للدولة. في المقابل يرى آخرون أنّ طرح الأسئلة القاسية يمكن أن يُستَثمر خارجيًّا لتقويض التماسك الداخلي، ما يفسر حساسية النقاش بشأن بعض جوانب الحرب الوطنية العظمى.

الاقتصاد السياسي للذاكرة

تُعدّ مشروعات حفظ الذاكرة جزءًا من الاقتصاد الروسي نفسه: متاحف الحرب، والأفلام التاريخية الضخمة، ومبادرات رقمنة الأرشيف تجذب استثمارات عامة وخاصة. كما توظَّف الذكرى في الدبلوماسية الاقتصادية؛ إذ يستخدم المسؤولون خطاب “الشراكة أيام الحرب” لاستحضار مساهمات الحلفاء الغربيين سابقًا، حين يروّجون لمشروعات مشتركة حالية في مجالات الطاقة أو الفضاء. هذا التداخل بين الرمزي والمادي يجعل الذاكرة موردًا قابلًا للتسييل اقتصاديًّا، لكنه يضعها أيضًا تحت ضغط السوق، وآليات الربح.

مستقبل الذاكرة بين التكنولوجيا والأجيال

التحدي الأبرز يكمن في نقل رواية الحرب إلى جيل رقمي يستهلك المحتوى عبر الفيديو القصير، والألعاب التفاعلية. وزارة التعليم الروسية، بالتعاون مع شركات تقنية محلية، تطوّر محاكيات واقع افتراضي تعيد تمثيل معارك تاريخية بهدف ترسيخ الدرس الوطني بطريقة تتلاءم مع طرق التعلّم الجديدة. نجاح هذه المبادرات سيحدد ما إذا كانت الذاكرة ستظل ركيزة جامعة، أم ستتحول إلى مادة متحفية منفصلة عن حياة الشباب. في النهاية، يظل سؤال التوازن مطروحًا: كيف تحافظ روسيا على قوة سرديتها التاريخية وهي تدخل حقبة تتطلب فهمًا مرنًا للأمن والهوية في عالم متصل رقميًّا ومتسارع التغيير؟

الذاكرة سلاحًا دبلوماسيًّا

في اللحظة التي تصطفّ فيها المدافعُ لإطلاق طلقات التحية، يتجاوز وقعُ الانفجار حدودَ البروتوكول، ويصل إلى دوائر التفاوض الدولية، فالجانب الروسي يُلوِّح برمزية “هزيمة النازية” كلغة مشتركة يمكن لكل عاصمة أن تفهمها، لغة تؤكد أنّ من انتصر في معركة القرن العشرين يمتلك إرادة الصمود في أزمات القرن الحادي والعشرين. وبينما تُقاس القوة عادة بمعدلات النمو والاحتياطي النقدي، تُدرج موسكو ذاكرة 1945 في حساب الردع الناعم، فتستحضرها في جلسات مجلس الأمن، وتضيفها إلى خطابات الطاقة والحبوب، لتنتج مزيجًا من التاريخ والواقعية السياسية.

بين النار والتفاوض

غير أنّ الرموز وحدها لا يمكنها إخماد نيران المدفعية على جبهة دونيتسك، أو وقف دوران مسيّرات الدلتا فوق سماء بيلغورود؛ لذلك يقف صانع القرار الروسي أمام معادلة حادة: تثبيت سردية النصر، وفي الوقت عينه إدارة تكلفة الصراع المتصاعد. من هنا ينبثق خيار “الهدنة الاحتفالية”؛ إذ تُستَخدم مناسبة وطنية راسخة كنافذة اختبار لإمكانات التفاوض. وإذا كان الماضي يقول إنّ الحروب الكبرى انتهت على طاولة باريس أو يالطا، فإنّ الحاضر يضيف أن التفاهمات الحديثة تحتاج أيضًا إلى بروتوكولات سيبرانية، وضمانات لممرّات الحبوب، وأُطر رقابة للمسيّرات البعيدة المدى.

الخاتمة

إنّ ذاكرة النصر في روسيا ليست تمثالًا من حجر؛ بل هي نهرٌ متدفّق يغذّي السياسة والثقافة والأمن معًا. قوّتها في قدرتها على إعادة تشكيل نفسها مع كل جيل، وضعفها في احتمال تحوّلها إلى أسطورة صلبة لا تتكيّف مع عالم يتغيّر كل لحظة. وإذ يعلو هدير العرض العسكري فوق الساحة الحمراء، يبقى الصدى الأهم في عقول المواطنين: هل تعلّمنا من التاريخ ما يكفي لنحمي حاضرنا من دورته القاسية؟ وهل يمكن للذاكرة -بكل وهجها- أن تصبح جسرًا إلى تسوية حقيقية، لا وقودًا يمدّ النزاع بأعصاب رمزية جديدة؟

الجواب لم يُكتب بعد، لكنه سيتشكّل عند تقاطع الدبابات القديمة والتكنولوجيا الفائقة، في مزيجٍ يذكّر الجميع بأنّ مَن يملك سردية الماضي قد يملك أيضًا خريطة المستقبل إذا استطاع أن يجمع بين القوة والحكمة، بين رمزية النصر وصوت الواقعية الذي يفرضه ميدانٌ لا يعترف إلا بميزان القوى والفرص.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع