تقدير موقف

عقوبات بلا أثر.. أم مبرر للتصعيد؟


  • 19 يوليو 2025

شارك الموضوع

في 17 يوليو (تموز) 2025، أقر سفراء الاتحاد الأوروبي -بالإجماع- الحزمة الثامنة عشرة من العقوبات على روسيا، بعد تجاوز تحفظات تقدمت بها سلوفاكيا، أو تقديم إغراءات ووعود لها، جعلتها تنصاع وتوافق في نهاية المطاف.

وتشمل هذه الحزمة الجديدة -وفق ما أعلنه مجلس الاتحاد الأوروبي- توسيع القيود على صادرات النفط الروسي عبر خفض سقف السعر إلى نحو 47.5 دولار للبرميل، بدلًا من 60 دولارا، وهو السقف السابق، وفرض عقوبات على سفن أسطول الظل الروسي، وكذلك على خطي أنابيب السيل الشمالي، بالإضافة إلى إدراج عدد من الشركات والأفراد الذين يراهم الأوروبيون داعمين “للآلة الحربية الروسية”، فضلًا عن استهداف عدد من البنوك والمؤسسات المالية الروسية، وهذا هو البند الأخطر في رأيي.

هذه الخطوة بالطبع هي تصعيد أوروبي، يأتي في سياق استمرار القتال على الجبهات داخل أوكرانيا، وإن كان ببطء، رغم توقع هجوم صيفي روسي واسع، قد يبدأ خلال الأيام القليلة المقبلة.

كما أنها تأتي في سياق تزايد الضغوط الغربية لإرغام موسكو على تعديل سلوكها السياسي والاقتصادي، حسبما يقول أو يفترض الأوروبيون أنفسهم.

لكن من داخل موسكو، حسبما أتابع وأراقب، لم يُقابل هذا التحرك برد فعل تقليدي، بل بوصفه خطوة إضافية من إستراتيجية غربية “معطوبة” تكرر استخدام أدوات فقدت فعاليتها من العام الأول للصراع.

وسأحاول في هذه السطور استعراض الموقف الروسي من الحزمة الجديدة كما يظهر في التصريحات الرسمية، والمقاربات الإستراتيجية التي تتبناها موسكو، والهدف طبعًا هو فهم كيف يُعيد الكرملين، وتُعيد القيادة الروسية، تفسير العقوبات الغربية، ليس بوصفها وسيلة ردع، بل بوصفها عاملًا محفزًا للتكيّف، بل مبررًا إضافيًّا لتوسيع حدود المواجهة.

فمن منظور المؤسسات الرسمية الروسية، وكما تجلى في تصريحات ألكسندر غروشكو، نائب وزير الخارجية الروسي، فإن هذه الحزمة الأخيرة لا تمثل تهديدًا حقيقيًّا، بقدر ما تعكس مأزقًا إستراتيجيًّا أوروبيًّا متزايدًا.

غروشكو يقول: “الأوروبيون يطلقون النار على أقدامهم”، وهذا التعبير ليس تعبيرًا دبلوماسيًّا عابرًا، بل يحمل -في رأيي- دلالة على إيمان القيادة الروسية واقتناعها بأن العقوبات باتت أداة استنزاف ذاتي للغرب -للأوروبيين تحديدًا- أكثر من كونها أداة ضغط مباشر على موسكو.

وهذه القراءة الروسية تعكس إدراكًا متزايدًا مبنيًّا على معلومات وتحليلات للوضع الأوروبي الداخلي، وهو ما نلمسه في تصريحات بوتين المتكررة في الفعاليات الكبرى عندما يتناول دائمًا حالة الاقتصادات الأوروبية تحديدًا وبالأرقام، بأن أوروبا  تخوض مواجهة مزدوجة: خارجية مع روسيا من خلال فرض هذه العقوبات، وداخلية مع ارتفاع تكاليف الطاقة؛ ومن ثم تآكل الاستقرار الاجتماعي.

ومن هذا المنطق لا تقرأ موسكو العقوبات على أنها مجرد أداة ضغط غربية عليها، بل بوصفها جزءًا من ديناميكيات انهيار النموذج الأوروبي التقليدي.

كما أن القراءة الروسية للحزمة الثامنة عشرة من العقوبات لا تنفصل بحال عن السيناريو العسكري الموازي، حيث تصاعدت الضربات الروسية على منشآت الطاقة والنقل في عمق أوكرانيا، بالتوازي مع صدور هذه العقوبات، وذلك باستخدام هذا التصعيد كرد وقائي عليها؛ ما يجعلنا نعتقد أن الكرملين يتعامل مع العقوبات الغربية على أنها سبب مشروع لتوسيع قواعد الاشتباك، دون الخروج عن الإطار القانوني الذي فرضه هو “للعملية العسكرية الخاصة”؛ ولهذا الوصف تفصيلاته الخاصة في القانون الروسي.

التقارير المنشورة في الصحف ووسائل الإعلام الروسية، إيزفيستيا وفزغلياد مثلًا، تعكس تصورًا متماسكًا في هذا السياق، ينص على ما يلي: ما دام الغرب يوسع العقوبات، فإن موسكو تحتفظ بالحق الكامل في توسيع نطاق الرد غير المتكافئ، سواء عن طريق استهداف مراكز ثقل مدنية، أو من خلال تعزيز الحضور الميداني على محاور معينة، مثل زابوروجيا، وخاركوف، ودنيبربتروفسك.

أما كيف سيتعامل الاقتصاد الروسي مع الحزمة الجديدة؟ فهو سؤال مكرر منذ بدأت سياسة العقوبات بوصفها مخرجًا للأوروبيين من ضرورة المواجهة العسكرية المباشرة مع الروس. والرد الروسي على العقوبات -من واقع متابعتي لهذا الملف- لا يتم من خلال المواجهة المباشرة، بل من خلال بناء نموذج اقتصادي بديل قائم على التكيف، والاستغناء المرحلي عن الأسواق الغربية.

وزير المالية أنطون سيلوانوف عبّر عن هذه الإستراتيجية الروسية بقوله إن الاقتصاد الروسي “اجتاز مرحلة الصدمة” وبدأ يدخل في “دورة نمو سيادية مستقلة”، وهذه الاقتباسات كلها له.

أما البيانات الرسمية فتشير بالفعل إلى نجاح موسكو في تنويع الشراكات التجارية مع دول مثل الصين والهند وتركيا، وكذلك إلى تحويل جزء كبير من التجارة الخارجية إلى عملات غير غربية، عن طريق استخدام زوج الروبل- يوان، فضلًا عن نجاحها كذلك في  تحصين القطاع المالي طوال هذه السنوات ضد العقوبات المصرفية الغربية عن طريق قنوات داخلية بديلة؛ وبذلك باتت موسكو ترى استمرار العقوبات عنصرًا من عناصر المعركة، لا عنصرًا من عناصر الردع، ومن هذا المنطلق أصبحت تنظر إليها بوصفها محفزًا لإعادة تعريف قواعد اللعبة.

لكن أحد أخطر المؤشرات في هذا السياق يتمثل في خطاب دميتري ميدفيديف، وهو نائب رئيس مجلس الأمن الروسي حاليًا، وشخصية مؤثرة في القيادة الروسية على الرغم من أسلوبه، فمدفيديف يرى أن “الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بالفعل”، ودعا إلى “الرد الاستباقي”.

وأنا من واقع معرفتي، أو لأكون أدق، فهمي، لتركيبة النخبة الروسية حاليًا، وطريقة صنع القرار، لا أفهم هذا التصريح على أنه مجرد انفعال سياسي؛ بل هو جزء من عملية إعادة صياغة خطاب الردع الإستراتيجي الروسي.

إن توظيف هذا النوع من الخطاب يأتي في سياق ما يمكن تسميته بـ”الردع بالمظلومية السيادية”، فموسكو الرسمية تُحمل الغرب مسؤولية كل تصعيد، ثم توظف ذلك مبررًا لتوسيع الخيارات التكتيكية -عسكرية كانت أو دبلوماسية- في الصراع المفتوح بشأن أوكرانيا.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع