مقالات المركز

عصر القادة التحريفيين.. كيف يتفكك النظام الدولي؟


  • 6 أبريل 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: theconversation

نحن إزاء لحظة تحوّل كبرى، تُعاد فيها صياغة موازين القوة العالمية، ليس من خلال تحالفات واسعة، أو سرديات كبرى؛ بل من خلال تدوير ماضٍ سلطوي قومي، متحرّر من الالتزام بأي سردية متماسكة، لكنه قادر على التأثير، بل على الهيمنة الرمزية، يجسده صعود أنماط جديدة من القيادة الكاريزمية، تُعيد إنتاج رموز السيادة الوطنية، ومفردات الهوية الحضارية، ضمن سياق دولي فقد بنيته المؤسسية.

نحن -ببساطة- نعيش في عصر القادة التحريفيين، حيث تُمارس السياسة الخارجية لا من موقع بناء النظام؛ بل من موقع رفضه أو تجاوزه، لا انطلاقًا من مبدأ تعدد الأقطاب؛ بل من منطق القوة والموقع والهوية المعرفة ذاتيًّا، لا تفاوضيًّا.

وصلت هيمنة العولمة إلى ذروتها في العقدين التاليين لانهيار الاتحاد السوفيتي. طغت المؤسسات فوق الوطنية على السيادة التقليدية، وتقلص الدور الفردي في السياسة الدولية لصالح شبكات معقدة من الأسواق والمؤسسات والمنتديات المتعددة الأطراف. غير أن هذه المرحلة، التي بدت لوهلة كأنها نهاية للتاريخ، بدأت تتآكل ببطء، ممهدة لصعود موجة جديدة من القادة: بوتين في روسيا، شي في الصين، مودي في الهند، وترمب في الولايات المتحدة.

أمر جوهري مشترك بين هؤلاء القادة، يتمثل في نزعة تحريفية ترفض التوازنات التي أرساها النظام الليبرالي بعد الحرب الباردة، وتسعى إلى إعادة تعريف مفاهيم مثل السيادة، والشرعية، والنظام، والقوة. ولا يجب أن نكون واهمين بأنهم يسعون إلى تأسيس نظام بديل. الافتقار إلى أطروحة مؤسسية متماسكة هو الأمر الثاني الذي يجمع بينهم، وما يقدمونه بديلًا هو خطاب مشبع بالرموز والمجازات، يستدعي الماضي ليُبرر الحاضر، ويُضفي على الزعامة بعدًا حضاريًّا، يكاد يكون رساليًّا في بعض السياقات.

بوتين -مثلًا- لا يطرح مشروعًا دوليًّا متكاملًا؛ بل يُعيد تأهيل روسيا كـ”دولة حضارية”، ذات تفويض تاريخي يربط بين القيصرية، والسوفيت، والاتحاد الروسي المعاصر. ينظر إلى الحدود بوصفها سائلة، ويُقارب فكرة السيادة من زاوية تاريخية لا قانونية. أما شي، فيستثمر في سردية “الاستمرارية الحضارية”، في حين تُقدم الصين نفسها على أنها أقدم دولة مستمرة، تُقاس شرعيتها السياسية بعراقتها الحضارية. مودي يُعيد صياغة الديمقراطية الهندية من خلال منظور هندوسي قومي، يُعيد الاعتبار للهوية الجمعية على حساب التعددية التاريخية للهند الحديثة.

في هذا الإطار، يبرز دونالد ترمب بوصفه النموذج الأمريكي لهذا النمط من القيادة، وإن بصيغة مغايرة؛ فهو يُدين النظام الليبرالي العالمي من موقف حدسي، لا من موقع أيديولوجي واضح. تحركه غرائزه بأن هذا النظام لا يخدم المصالح الأمريكية “الحقيقية”، كما يتصورها هو وأنصاره. ترمب لا يعارض فكرة القوة الأمريكية، بل يعارض استخدامها في بناء أنظمة لا تعود بفائدة مباشرة على الولايات المتحدة. في رؤيته، تتحول الولايات المتحدة من قائد للنظام إلى دولة مستقلة عن شروطه، تُحدد التزاماتها بحسب المصالح لا المبادئ.

ما يجعل هذا النمط من القيادة بالغ الخطورة هو تحوّله من دور تمثيلي إلى حالة سيادية مطلقة، حيث لا تخضع سلطة القائد لضوابط مؤسسية، ولا تُقيَّد بمنطق القواعد أو الأعراف. يُقدَّم الزعيم هنا بوصفه تجسيدًا لروح الأمة ومصيرها، لا مجرد ممثلٍ منتخب لها؛ وبهذا يغدو هو من يرسم حدود الدولة، ويُعرّف الحليف والخصم، ويقرر متى يكون النظام شرعيًّا، ومتى يصبح تهديدًا ينبغي تقويضه.

لكن هذا النمط من القيادة لا يقتصر على الخطاب، بل يترجم نفسه في طموحات جيوسياسية تتجاوز الأعراف المستقرة. خذ مثلًا إعلان دونالد ترمب المتكرر رغبته في شراء غرينلاند من الدنمارك. لم يكن هذا التصريح مجرد نكتة انتخابية أو استفزاز دبلوماسي، بل كشف عن منطق مختلف تمامًا في فهم السيادة، والجغرافيا، وشرعية التوسع. ترمب لا يرى في الجزر والحدود والمساحات المستقلة كيانات ذات وضع قانوني نهائي، بل يرى فيها أصولا إستراتيجية يمكن التفاوض عليها كما تُشترى الشركات، أو كما تُنقل العقارات بين المالكين.

هذا الطرح يعكس في جوهره انزلاقًا نحو رؤية “تحريفية” للعالم، لا تُلزم نفسها بالمبادئ الدولية المتفق عليها بشأن سيادة الدول وحدودها.

رغبة ترمب في غرينلاند لم تكن تعبيرًا عن طموح استعماري تقليدي؛ بل عن عقلية ترى النفوذ الإقليمي استثمارًا، والأرض أداة مساومة، والسيادة مفهومًا سائلًا. وهذه بالضبط هي روح اللحظة التحريفية: لا قواعد ثابتة، ولا مؤسسات حاكمة، بل زعماء يحددون حدود دولتهم، ومجالها الحيوي، وفق رؤيتهم الخاصة، لا وفق اتفاقيات دولية، أو أعراف قانونية مستقرة.

في هذا السياق، تتآكل الثقة بالتحالفات الغربية، ليس لأن حلف الناتو انهار؛ بل لأن فكرة الالتزام الجماعي نفسها باتت عرضة للتشكيك. حين يُطلق رئيس أمريكي رغبة علنية في ضمّ جزء من أراضي دولة حليفة، فإن ذلك لا يُثير فقط دهشة دبلوماسية، بل يضرب في عمق مبدأ السيادة بين الحلفاء. تصبح حدود الدول، حتى داخل الناتو، عرضة لإعادة التفاوض من دون مقدمات. وهكذا، يجد الحلفاء الأوروبيون أنفسهم أمام خيارات صعبة في بيئة من القلق الإستراتيجي العميق، لم تعد الضمانات التقليدية كافية لطمأنة الدول الصغيرة والمتوسطة بأن الحدود لا يعاد رسمها برغبة فردية.

بروح براغماتية متشائمة، يقترح مايكل كيميج تصورًا بديلًا لا يقوم على تفادي التحريفية، بل على إدارتها. ما يطرحه ليس مشروعًا لمواجهة القادة التحريفيين؛ بل مقاربة واقعية لعالم يعيش اضطرابًا طويل الأمد. الاستجابة الفعالة -في هذا السياق- تكمن في تحويل التحريفية إلى سلوك قابل للاحتواء، من خلال هندسة توازنات جديدة، وتحديد قواعد اشتباك مرنة، وإن كانت مؤقتة أو جزئية. الهدف ليس بناء اتفاقيات نهائية؛ بل تأجيل الانفجار. ولا يقوم الطرح على استبدال النظام القائم؛ بل على إبطاء تفككه الفوضوي.

من هذا المنظور، لا يبدو ترمب خارج الزمن، بل تجسيدًا له؛ فرفضه للعقيدة الويلسونية، ونفوره من المؤسسات المتعددة الأطراف، وعدم اكتراثه بالحلفاء التقليديين، لا يُعبر فقط عن فوضى شخصية؛ بل يعكس تحوّلا بنيويًّا في الثقافة الإستراتيجية الأمريكية. لأول مرة، تبدو واشنطن غير معنية بتصدير النظام، ولا بزعامات ملزمة؛ بل بتفوق تفاوضي يستند إلى المصلحة الذاتية.

لكن نقطة الضعف الجوهرية في تصور كيميج تكمن في افتراضه أن ترمب وفريقه يمتلكون القدرة على إدارة هذا التعقيد بحكمة، فهذا النهج يتطلب حسًّا دبلوماسيًّا عاليًا، واستعدادًا لتجنب الانفعالات، وهي صفات لا تُميّز الأداء السياسي لترمب.

بالمقابل، ما يبدو واضحًا هو أن إستراتيجية إدارة ترمب التحريفية غير منضبطة، ومن المحتمل أن تنقلب على ذاتها، وتُسرّع الفوضى بدلًا من احتوائها.

تهدد التحريفية غير المنضبطة بتوسيع مساحات الانفجار بدلًا من ضبطها. وإذا كانت حرب أوكرانيا هي المثال الصارخ، فإن خطر التوسّع إلى دول البلطيق أو بولندا يظل قائمًا، ليس فقط بسبب طموحات موسكو؛ بل أيضا بسبب تآكل الإيمان الأوروبي بالضمانات الأمريكية، وهكذا قد نجد أنفسنا في مواجهة لحظة انفجار لا نملك مفاتيح احتوائها.

تكمن المفارقة في أن النظم التي يقودها القادة التحريفيون لا تهدف إلى نيل الاعتراف بشرعيتها؛ بل تسعى إلى فرض رؤيتها كواقع مفروض، وهذا يجعل ما نعيشه اليوم ليس انتقالًا إلى عالم جديد، بل انسلاخًا من عالم قديم دون بديل جاهز. نظام لم يعد يشتغل، لكنّ أحدًا لا يقدر على دفنه. في هذا الفراغ، يبرز القادة التحريفيون، لا بوصفهم روادًا لمستقبل أفضل؛ بل بوصفهم أسيادًا للحظة، يملؤونها بخطابات القوة، ويُعيدون تعريف الممكن، ولكن من دون بوصلة. لم يكن القائد التحريفي انحرافًا عن القاعدة؛ بل أصبح هو القاعدة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع