إستراتيجيات عسكريةمقالات المركز

عسكرة الكاريبي.. عودة إلى “مبدأ مونرو”


  • 28 سبتمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: radioangulo

تدق الولايات المتحدة الأمريكية “طبول الحرب” من جديد في الحديقة الخلفية لحدودها الجنوبية، عندما أرسلت عشرات الطائرات من طراز “إف- 35″، والمدمرات الحربية والغواصات النووية إلى بورتوريكو؛ استعدادًا لقصف أي أهداف في فنزويلا. وتحت شعار محاربة تجار المخدرات والسموم البيضاء، حشدت الولايات المتحدة نحو 4500 جندي في الكاريبي، مع أن اعتراض مراكب المخدرات كان يتم في السابق من خلال خفر السواحل لولاية فلوريدا، وليس عن طريق الجيش الأمريكي.

فنزويلا -من ناحيتها- رأت في قتل 11 شخصًا من مواطنيها كانوا على ظهر إحدى السفن، ثم الاعتداء على سفن فنزويلية صغيرة داخل المياه الدولية، عدوانًا أمريكيًّا على سيادتها، وأن هدف واشنطن -في المقام الأول- هو “إسقاط نظام الرئيس نيكولاس مادورو”، الذي تنظر إليه الولايات المتحدة بوصفه رئيسًا غير شرعي، ومغتصبًا للسلطة منذ العام الماضي بعد أن رفضت الولايات المتحدة و10 دول في أمريكا اللاتينية نتائج الانتخابات الرئاسية التي أعلنتها المحكمة العليا الفنزويلية في يوليو (تموز) 2024. وردًا على الخطوات الأمريكية التصعيدية، بدأت كاراكاس في حشد نحو 5 ملايين من عناصر الدفاع الشعبي في مختلف الولايات الفنزويلية لصد أي هجوم أمريكي محتمل.

المخاوف لا تقتصر على تداعيات ونتائج أي صراع ثنائي بين واشنطن وكاراكاس؛ بل هناك هواجس جدية من تكرار سيناريو “خليج الخنازير وعملية النمس” عندما فشلت الخطة الأمريكية عام 1961 في إسقاط حكم الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، وقرار الاتحاد السوفيتي السابق في أكتوبر (تشرين الأول) 1962 إرسال صواريخ باليستية تحمل رؤوسًا نووية إلى كوبا، وهو ما أدى إلى أزمة كادت تتطور إلى حرب نووية، ونزع فتيلها فقط عقد صفقة أمريكية سوفيتية أعاد الاتحاد السوفيتي السابق بمقتضاها الصواريخ النووية التي وصلت إلى المحيط الأطلنطي مقابل سحب الولايات المتحدة أنواعًا من الصواريخ التي نصبتها آنذاك في تركيا وإيطاليا.

التهديدات الأمريكية لفنزويلا تعود إلى أسباب كثيرة، أبرزها أن ماركو روبيو، وزير الخارجية الأمريكية -الذي جاء والده إلى الولايات المتحدة هربًا من كوبا الشيوعية- يقود السياسة الخارجية الأمريكية نحو مزيد من التشدد تجاه الدول الاشتراكية في أمريكا الجنوبية، مثل كوبا، وفنزويلا، ونيكاراغوا، وبوليفيا، ولا تتزامن “عسكرة الخلافات” في الكاريبي فقط مع رفع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب شعار “السلام القائم على القوة”، الذي تجسد في إجبار بنما على الانسحاب من مبادرة الحزام والطريق الصينية؛ بل مع الانزعاج الأمريكي الواضح من زيادة النفوذ والمقبولية الروسية والصينية في أمريكا اللاتينية، حيث يرى البيت الأبيض أن حماية الحدود الجنوبية للولايات المتحدة لا تبدأ من الحدود المكسيكية فقط؛ بل تمتد إلى كل بقعة وشبر في الكاريبي وأمريكا اللاتينية، وهو ما يقول إن فنزويلا تحولت -في نظر الأمريكيين- إلى “عقدة جيوسياسية ثلاثية الأبعاد”، تتمثل في خطر المخدرات، وزيادة النفوذ الروسي، والاختراق الاقتصادي الصيني، فهل نحن أمام حرب جديدة في أمريكا اللاتينية بعد نحو 36 عامًا من الغزو الأمريكي لبنما عام 1989، والإطاحة بحكم الرئيس مانويل نوريجا؟ وما خيارات حكومة الرئيس مادورو لمنع الغزو الأمريكي أو إسقاط النظام؟ وإلى أي مدى تسعى الولايات المتحدة إلى العودة مرة أخرى إلى “مبدأ مونرو”، والتخلص من أي حكومة اشتراكية يسارية في أمريكا الجنوبية في ظل العداء الشديد بين الرئيس ترمب واليساريين داخل الولايات المتحدة نفسها؟ وما علاقة “النفط الفنزويلي” بالصراع الجديد بين الرئيسين ترمب ومادورو؟

معادلة شافيز

كانت العلاقة بين الولايات المتحدة وفنزويلا تقوم على التعاون والصداقة، خصوصًا في ظل الإمكانات النفطية الضخمة لفنزويلا، التي لديها أكبر احتياطيات نفطية في العالم تقدر بنحو 330 مليار برميل، وكانت فنزويلا بمنزلة الشريك المثالي للولايات المتحدة ضد الشيوعية خلال الحرب الباردة، ووصل الأمر إلى التحالف الإستراتيجي بين واشنطن وكاراكاس، خصوصًا بعد عام 1958، عندما تخلصت واشنطن من أنظمة حاكمة كانت تراها “غير صديقة” لها في فنزويلا، التي أصبحت شريكًا عسكريًّا موثوقًا به للولايات المتحدة الأمريكية في كل أمريكا الجنوبية، وهو ما دفع واشنطن إلى تزويد كاراكاس بطائرات “إف- 16″، لتصبح فنزويلا هي الدولة الوحيدة في أمريكا اللاتينية التي تملك هذه الطائرات المتقدمة، فضلًا عن دور المستشارين العسكريين الأمريكيين الذين كانوا يزودون القوات الفنزويلية بالتدريب والخبرة القتالية لمواجهة أي تحديات أمنية داخلية في فنزويلا، أو في المحيط الإقليمي المضطرب، ووصل الأمر إلى وجود دائم لضباط وجنود أمريكيين على الأراضي الفنزويلية بهدف محاربة تجار المخدرات، والمساعدة على بسط الأمن، ومحاصرة الشيوعيين خلال فترة الحرب الباردة.

لكن لم يكن الشعب الفنزويلي راضيًا عن التغلغل الأمريكي في مفاصل الحياة الفنزويلية، خاصةً سيطرة شركات النفط الأمريكية واستحواذها على عائدات النفط في فنزويلا؛ لذلك انتخب الشعب الرئيس هوغو شافيز عام 1998، الذي كانت له رؤية مخالفة تمامًا للتعاون مع الولايات المتحدة، حيث اتجه إلى توثيق العلاقة مع روسيا والصين وإيران، ومن هذا المنطق قام شافيز بخطوتين رأت فيهما واشنطن بداية العداء مع كاراكاس؛ برفض الرئيس الراحل شافيز تلقي مساعدة أمريكية عندما وقعت كارثة الفيضانات عام 1999، ثم طرد شافيز البعثة العسكرية الأمريكية عام 2001. واتهم شافيز الحكومة الأمريكية بالوقوف وراء انقلاب للإطاحة به عام 2002، وهو ما دفع العلاقات الأمريكية الفنزويلية إلى مرحلة بعيدة من العداء تجسدت في وقف البيت الأبيض لصيانة طائرات “إف- 16” الفنزويلية، وعدم التنسيق فيما يتعلق بمكافحة تجارة المخدرات، وفي كل خطوة كان شافيز يبتعد فيها عن واشنطن كان يقترب أكثر من موسكو وبكين.

ولم تؤدِّ وفاة الرئيس هوغو شافيز، وانتخاب خليفته نيكولاس مادورو، إلى أي تحسن في العلاقات الأمريكية الفنزويلية، حيث دعم الرئيس ترمب في ولايته الأولى خوان غوايدو -المعارض الفنزويلي- ضد الرئيس مادورو، وحاول ترمب حشد العالم للاعتراف بغوايدو رئيسًا بدلًا من مادورو، لكنه فشل في هذا الهدف، وهرب خوان غوايدو إلى مدينة ميامي الأمريكية، واليوم ضاعفت الولايات المتحدة المكافأة إلى 50 مليون دولار لمن يقدم معلومات تسهم في القبض على الرئيس مادورو، وهو ما يقول إن الولايات المتحدة تحولت من دعم المعارضة إلى العمل المباشر لإسقاط النظام الحالي في فنزويلا.

5  أسباب

مع أن العداء بين الولايات المتحدة وفنزويلا بدأ منذ عام 1998، فإن هناك أسبابًا جديدة تسهم في تعميق العداء بين الولايات المتحدة وفنزويلا، منها:

أولًا- رسالة لليساريين

ترى الولايات المتحدة أن الضغط على فنزويلا يرسل رسالة حازمة ليس فقط للدول التي يحكمها اليساريون في الوقت الحالي، مثل بوليفيا، ونيكاراغوا، وكوبا؛، بل رسالة إلى الشعوب في أمريكا اللاتينية بعدم انتخاب الأحزاب اليسارية القريبة من روسيا والصين خلال الشهور المقبلة، حيث ستُعقد الانتخابات الرئاسية في 7 دول بأمريكا اللاتينية والكاريبي خلال الـ15 شهرًا المقبلة؛ ولهذا يعتقد الرئيس ترمب أن التصعيد العسكري مع فنزويلا سوف يسهم في تغيير المشهد السياسي في الدول السبع لصالح الأحزاب والقوى السياسية القريبة من واشنطن، وليس المتحالفة مع موسكو وبكين، ومن شأن كل هذا أن يعزز مكانة المحافظين داخل الولايات المتحدة، وحتى في الدول الأوروبية، بما يسهم -على المدى البعيد- في بقاء “الترمبية” وتعمقها في الحياة السياسية الأمريكية.

ثانيًا- المهاجرين

يعتقد الجمهوريون أن الضغط على الأنظمة الحاكمة في أمريكا الجنوبية والكاريبي يمكن أن يقود هذه الدول إلى تعاون أكثر عمقًا مع الرئيس ترمب، ليس فقط في منع المهاجرين من التدفق على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة؛ بل أيضًا في استقبال الطائرات الأمريكية التي تحمل مهاجرين دخلوا الولايات المتحدة دخولًا غير شرعي، وهذه قضية لها أهمية كبيرة لدى الجمهوريين وداعمي رؤية “2025” التي تقول إن الرئيسين باراك أوباما وجو بايدن سمحا بدخول نحو 20 مليون مهاجر صوتوا جميعًا ضد الجمهوريين، ويهددون الرجل الأبيض من وجهة نظر حركة “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” (ماجا)، وينظر هؤلاء إلى التهديدات الموجهة إلى الرئيس مادورو بوصفها وسيلة ضغط قوية على كل الأنظمة الأخرى في أمريكا اللاتينية التي ترفض التعاون مع الرئيس ترمب في ملف المهاجرين.

ثالثًا- مبدأ مونرو

تحليل السلوك العسكري والأمني الأمريكي يقول إن الولايات المتحدة تخفف من مسؤولياتها تجاه تحالفاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية في أوروبا، وإفريقيا، والشرق الأوسط، ونصف الكرة الشرقي، والعالم القديم، لصالح العودة مرة أخرى إلى “مبدأ مونرو”، وإعادة التركيز السياسي والاقتصادي على نصف الكرة الغربي بما يشمل منطقة الكاريبي وأمريكا اللاتينية، حيث كان يقوم “مبدأ مونرو” -الذي وضعه الرئيس جيمس مونرو عام 1823- على عدم اقتراب القوى الأوروبية من أمريكا الجنوبية، وأن يكون كل النصف الغربي من الكرة الأرضية نفوذًا خاصًا للولايات المتحدة.

رابعًا- الشعبوية الأمنية

يراهن الرئيس ترمب والحزب الجمهوري على أن الضغط السياسي والعسكري على حكومة مادورو، وتهديدها بإسقاط الحكم، سوف يدفع الجميع في أمريكا الجنوبية والكاريبي إلى التعاون في القضاء على تجارة المخدرات، وقد هدد الرئيس ترمب باستخدام الجيش والطائرات لاستهداف تجار المخدرات من المكسيك حتى آخر دولة في جنوب أمريكا اللاتينية، ويأمل البيت الأبيض أن يسهم هذا الضغط العسكري في توسيع القاعدة المؤيدة للجمهوريين، خاصةً هؤلاء الذين عانوا زيادة تدفق المخدرات على الولايات المتحدة خلال العقدين الماضيين.

خامسًا- الصين وروسيا

كما نجحت الولايات المتحدة في إجبار بنما على الانسحاب من “مبادرة الحزام والطريق” الصينية، وإجبار الحكومة البنمية على فك الارتباط بالشركات الصينية التي كانت تدير المواني على جانبي قناة بنما، تأمل واشنطن أن يقود الضغط العسكري على كاراكاس إلى إقناع الدول في أمريكا اللاتينية والكاريبي للتخفيف من اندفاعها الاقتصادي نحو الصين، وانجذابها العسكري نحو روسيا، بعد أن باتت الصين هي الشريك التجاري لأمريكا الجنوبية منذ عام 2019، وأصبحت العلاقات العسكرية بين روسيا ودول الحديقة الخلفية للولايات المتحدة أكثر قوة وعمقًا من أي وقت مضى.

3  سيناريوهات

في ظل الحشد العسكري الأمريكي، والخطوات المضادة التي تقوم بها الحكومة الفنزويلية، يمكن تصور 3 سيناريوهات، هي:

الأول- السيناريو البنمي:

ويقوم على الغزو الكامل، كما جرى مع بنما عام 1989، لكن هذا السيناريو مستبعد؛ لأن عدد القوات البرية الأمريكية التي حُشِدت حتى الآن لا يزيد على 4500 جندي أمريكي، وهذا العدد لا يمكن أن تحتل أو تغزو به الولايات المتحدة دولة كبيرة وذات تضاريس معقدة مثل فنزويلا.

الثاني- ضربات جوية:

ويعتمد على أن الحشد الجوي والبحري الأمريكي كبير جدًّا، ويتكون من غواصة نووية، ومدمرات بحرية عملاقة، بالإضافة إلى تمركز طائرات “إف- 35” في بورتوريكو. وتحت غطاء الاتهامات الأمريكية بأن نظام الرئيس مادورو نفسه متورط في تهريب آلاف الأطنان من الكوكايين إلى الداخل الأمريكي، يمكن استهداف قوات النخبة والحرس الوطني الفنزويلي؛ بما يدفع إلى خلق فوضى، وهروب الرئيس الفنزويلي والدائرة المقربة منه إلى كوبا، وبوليفيا، ونيكاراغوا.

الثالث- شد الأطراف:

تأمل الولايات المتحدة أن يشجع الحشد العسكري الحالي على أطراف فنزويلا المعارضة السياسية على التحرك في الشارع، وانضمام قادة من الجيش إليهم بما يسهم في إسقاط النظام وتغييره دون تدخل مباشر من البيت الأبيض.
الواضح أن ولاية الرئيس دونالد ترمب سوف تكون حافلة بالخلافات والمشاحنات ليس فقط مع روسيا والصين، بل مع أقرب جيران واشنطن في حديقتها الخلفية، وهي دول الكاريبي وأمريكا اللاتينية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع