
تقول تغطيات وكالات الأنباء الدولية، قبل القنوات والمواقع العربية، إن سقوط نظام بشار الأسد تم خلال هجوم معارضات مسلحة، أي مجموعات معارضة مسلحة متعددة، بقيادة أحمد الشرع (المنتمي سابقًا إلى هيئة تحرير الشام)، وانتهى ذلك الهجوم يوم 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، أي منذ عام بالتمام والكمال، بسيطرة هذه القوى على دمشق، وإجبار الرئيس السابق على الفرار إلى روسيا، حيث حصل على اللجوء السياسي الإنساني بموجب قرار من الكرملين.
وخلال عام واحد منذ لحظة السقوط المدوي، تشكلت في سوريا سلطة انتقالية ذات جذور إسلامية سنية تسعى إلى تثبيت شرعيتها داخليًا من خلال وعود بإعادة البناء والمصالحة، وخارجيًا عن طريق الانفتاح، بوساطة تركيا، على الولايات المتحدة، ودول الخليج، ورفع العقوبات، وإعادة دمج سوريا في النظامين الإقليمي والدولي.
لكن هذا التحول كانت له أبعاد أخرى تتجاوز سوريا والمنطقة، فقد أنهى عمليًا نموذج الدولة الحليفة لروسيا وإيران، الذي ميّز مرحلة ما قبل 2024، وفتح مرحلة جديدة يمكننا أن نضع لها العنوان التالي: كيف ستتكيف موسكو مع سوريا ما بعد الأسد؟
والاجابة عن هذا السؤال تحتاج منا إلى تقديم تحليل موضوعي، بعيدًا عن العواطف والانفعالات لوضع روسيا بعد تغير السلطة، أي بعد خسارة الحليف، وهذه مسألة لا جدال عليها بين المراقبين الموضوعيين.
وما الذي تتبناه موسكو والكرملين وبوتين من أجل محاولة تثبيت الأوراق؟
بعد سقوط دمشق، أعلنت موسكو رسميًا قبول “استقالة” الأسد واحتضانه لاجئا سياسيًا لأغراض إنسانية، وهذه تفصيلة لها مدلولها في القانون الدولي، وبهذا أصبح وجود الأسد اللاجئ في روسيا عنصرًا جديدًا في معادلة العلاقات مع الحكم السوري الانتقالي، وهنا تتشكل صورة سوريالية، فمن جهة تحاول المعارضة التي أصبحت الفئة الحاكمة استخدام ملف محاسبة الأسد كورقة تفاوضية مع روسيا، ومن جهة أخرى، يحتفظ الكرملين بهذه الورقة كأداة تأثير محتملة على البيئات العلوية والموالية السابقة داخل سوريا.
هذا الوجود الرمزي والسياسي للأسد ومحيطه الأمني والمالي (هناك جزء معتبر من الدائرة الضيقة السابقة يتحرك اليوم من موسكو، بحسب تحقيقات صحفية طبعًا) يجعل روسيا -بلا شك- طرفًا لا يمكن فصله عن مسألة العدالة الانتقالية في سوريا الجديدة.
أما القواعد العسكرية الروسية في طرطوس وحميم، فقد تعرض وضعها لهزة جدية بعد سقوط النظام السابق، وأنا أعتمد هنا على تقارير مفتوحة المصدر، تحدثت عن انسحاب بحري واسع من طرطوس في نهاية عام 2024، تلاه قرار للحكومة السورية الجديدة بإنهاء الاتفاق القديم الذي منح موسكو حق استخدام الميناء 49 عامًا.
لكن مع ذلك، لا يمكن بحال أن نقول -حسب معطيات اليوم- إن الوجود العسكري الروسي انتهى في سوريا، فالواقع يقول إنه لم ينته؛ ولكن انتقل إلى مرحلة إعادة تفاوض.
مصادر روسية وغربية متقاطعة تشير إلى أن روسيا حافظت على حضور في حميميم، وعلى قدر من الاستخدام لطرطوس، مع استمرار المفاوضات بشأن الشروط القانونية والسياسية لهذا الوجود.
ومراعاة لموضوعية المراقب، أقول إن ذلك يحدث في ظل حاجة موسكو والكرملين وبوتين الشديدة إلى نقطة ارتكاز في شرق المتوسط، مع استحالة أو لنقل صعوبة تعويضها سريعًا في ليبيا أو البحر الأحمر، على الرغم من تسريبات “وول ستريت جورنال” عن المفاوضات الروسية مع السودان بهذا الخصوص.
في مقابلات وتصريحات لاحقة، ومنها تصريحاته خلال زيارته الأولى لموسكو، واستقبال بوتين له في أهم قاعات قصر الكرملين الكبير، حرص أحمد الشرع -في رأيي بذكاء وحنكة- على طمأنة موسكو بأن الاتفاقات السابقة “لن تُرمى بالكامل”، وأن سوريا الجديدة “تعيد تعريف” -وهذا الاقتباس من نص كلامه- علاقتها بروسيا، لا قطعها، لكنه -وللموضوعية أيضًا- طالب روسيا في الوقت نفسه بمراجعة دورها خلال الحرب، وتعويض الضحايا.
لكن ما المصالح الروسية في سوريا بعد الأسد؟
يقول الواقع إن لروسيا مصالح متنوعة في سوريا الجديدة، لكنني هنا أود تأكيد تصحيح مفاهيمي يتعلق بروسيا الجديدة، أي روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، حتى يفهم الناس دوافع الفعل الروسي البوتيني، وهي حقيقة مفاهيمية مهمة لمن يرغب فهم سياسة روسيا الخارجية: هذه السياسة مبنية على النظرة الواقعية في العلاقات الدولية، وتحكمها البراغماتية بمعناها المحايد والموضوعي والايجابي، وأقصد أنها تبني علاقاتها مع الدول مع مَن في الحكم ويسيطر عليه، لا يهم كيف وصل إليه، والأهم في كل ذلك هو اعتبارات المصالح المتبادلة مع أقل حد أو قدر من التدخل في الشؤون الداخلية.
إذن لروسيا مصالح عسكرية إستراتيجية في سوريا الجديدة، والمصلحة الأولى تتمثل -في رأيي- في الحفاظ على قدرة إسقاط بحرية وجوية في شرق المتوسط عبر طرطوس وحميميم، بوصفهما الامتداد الوحيد خارج الفضاء السوفيتي السابق.
إن فقدان هاتين القاعدتين أو تقييدهما على نحو جذري سيضعف قدرة روسيا على المناورة في ملفات أوكرانيا والبحر الأسود والشرق الأوسط معًا؛ ولذلك يصبح الحد الأدنى من الوجود العسكري في الساحل السوري أولوية بنيوية للسياسة الروسية.
ولا يقل أهمية عن ذلك المصلحة الأمنية، ولو كانت تأتي -في رأيي- في المرحلة التالية، فمسألة مكافحة الجهاديين هي من أولويات الأمن الروسي، وصعود قيادة انتقالية ذات خلفية جهادية، وأقصد بالطبع أحمد الشرع القادم من هيئة تحرير الشام، يثير في موسكو هواجس أمنية مرتبطة بإمكانية أو احتمالية تحول سوريا إلى منصة استقطاب جديدة للمقاتلين القوقازيين والآسيويين من آسيا الوسطى، وهذا الاستنتاج ليس من فراغ؛ بل هو من واقع متابعتي الشخصية للمستويين الرسمي والتحليلي في هذا الشأن؛ ومن هنا تسعى روسيا إلى الحفاظ على قنوات عمل أمنية مع دمشق الجديدة، لتأمين مشاركتها في ترتيبات مكافحة الإرهاب، ومنع تشكل ملاذات آمنة لمعارضي موسكو المسلحين.
المصلحة الاقتصادية والطاقوية أيضًا لها حضور، فالاستمرار في عقود الطاقة والفوسفات والمواني التي أُبرِمَت في زمن الأسد -ولو بعد إعادة تفاوض على نسب الربح أو مدة الامتياز- مسألة مهمة للشركات الروسية، وهذه العقود توفر للشركات الروسية العاملة في مجالات النفط والغاز والفوسفات وإدارة المواني منفذًا مهمًا في اقتصاد شرق المتوسط.
كما أن الشركات الروسية مهتمة بالحصول على حصتها في مشروعات إعادة الإعمار، خصوصًا في ضوء تقديرات تتحدث عن مئات مليارات الدولارات المطلوبة لإعادة بناء سوريا؛ ولهذا تسعى الشركات الروسية -رغم العقوبات وحرب أوكرانيا- إلى ضمان موطئ قدم في مشروعات الإسكان والطاقة والبنية التحتية، ولو بدرجة حضور أقل من الحضور التركي والغربي والخليجي.
فضلًا عن ذلك، تبقى مسألة إدارة ملف ديون سوريا لروسيا من الملفات المهمة، فديون سوريا الخارجية تشكل حصة روسيا منها نحو 15%، ومع ذلك لم يعد هذا الملف أولوية تحصيل نقدي -في رأيي- بقدر ما هو أداة تفاوض لربط أي شطب إضافي، أو إعادة هيكلة، أو جدولة بضمانات استثمارية وسياسية من السلطة الجديدة.
وانطلاقًا من كل ما قدمت له أعلاه، أستطيع تقديم توصيفي الخاص لطبيعة العلاقة الروسية السورية بعد التغيير؛ فهي -في رأيي- تحولت من تحالف شمولي إلى شراكة مشروطة، بمعنى أن العلاقة التي كانت تقوم سابقًا على تحالف شبه مطلق مع نظام الأسد تحولت بعد عام 2024 إلى علاقة شراكة تحكمها شروط محددة مع سلطة انتقالية تسعى إلى تنويع حلفائها، وهذا أمر تفهمه موسكو، ويدركه الكرملين جيدًا.
دمشق الجديدة نفسها تحتاج إلى روسيا كفاعل دولي قوي، فهي عضو دائم العضوية، وفاعل نشط في مجلس الأمن الدولي، كما أنها تستطيع أداء دور الضامن المحتمل في مواجهة التحديات الإسرائيلية والتركية والكردية، لكنها في الوقت نفسه -أي دمشق- تحتاج أيضًا إلى واشنطن والعواصم الخليجية لإطلاق عملية إعادة الاعمار، وإنهاء العزلة. وهذا الطرح الذي أقدمه يضع روسيا في موقع الشريك المهم، لكن ليس الحصري، بعكس السنوات السابقة التي تمتع فيها الكرملين بموقع المزود شبه الوحيد للحماية الدولية، والغطاء العسكري للنظام.
وهناك نقطة أخرى مهمة عليّ أن أشير إليها، حيث يظهر في الخطاب الرسمي والإعلامي المقرب من القيادة الجديدة في دمشق اتجاه إلى مطالبة موسكو بمراجعة دورها في الحرب السابقة، من خلال الحديث عن “أخطاء الماضي”، و”حقوق الضحايا”، فضلًا عن طرح مسألة محاسبة الأسد نفسه.
لكن في المقابل، وحسبما أفهم الموقف الروسي في هذا الخصوص، تفضّل موسكو تجنب أي سابقة قانونية أو سياسية يمكن أن تستخدم لاحقًا ضد تدخلاتها في أوكرانيا أو غيرها؛ لذلك تبقى النتيجة المؤقتة في هذا الملف هي تأجيل حسم مسالة ملف الأسد ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، مقابل استمرار تعاون أمني وسياسي وعسكري محدود مع احتفاظ كل طرف بأوراق ضغطه.
وختامًا أقول إن سوريا ما بعد الأسد لم تعد مساحة نفوذ روسي حصري، لكنها لم تتحول أيضًا إلى ساحة إقصاء كامل لموسكو.
ما تحاول روسيا فعله اليوم هو الحفاظ على الحد الأدنى من مكاسبها الإستراتيجية، سواء القواعد، أو النفوذ الأمني، أو العقود التجارية والاقتصادية الأساسية، في بيئة سياسية جديدة لا تشبه النظام الذي دافعت عنه طيلة عقد من الزمن.
في موسكو يتزايد الإدراك أن تكلفة البقاء الضروري والمطلوب في سوريا بعد 2024 ستكون أعلى سياسيًا واقتصاديًا مما كانت عليه قبل سقوط الأسد.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير