في مكالمة وصفتها موسكو بالمهمة، تلقى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف اتصالًا هاتفيًّا أمس 1 يونيو 2025 من نظيره الأمريكي ماركو روبيو. المكالمة جاءت بالطبع على خلفية تصعيد واستهداف غير مسبوق في العمق الروسي تمثل في تفجيرات البنية التحتية المدنية والعسكرية، في مقاطعتي بريانسك وكورسك، وبالتزامن مع ضربات المسيرات الانتحارية الأوكرانية للقواعد الجوية الروسية في إيركوتسك ومورمانسك، وهو تناولته بالتفصيل في مقال آخر.
بالطبع نحن لا نعرف كل تفاصيل ما دار عبر الهاتف بين لافروف وروبيو، ولا اللهجة التي دار بها حديثهما، لكن بيان وزارة الخارجية الروسية الذي صدر بعد المكالمة قال إن روبيو عبّر للافروف عن تعازيه في ضحايا الهجمات الأوكرانية من المدنيين الروس، وأنه أكد مجددًا دعوة رئيسه ترمب إلى استئناف الحوار المباشر بين موسكو وكييف.
هذه الدعوة الأمريكية، رغم كون ظاهرها دبلوماسيًّا، فإن توقيتها يدفعنا -نحن المراقبين- إلى النظر إليها على أنها ليست سوى محاولة لاحتواء أو امتصاص الغضب الروسي، دون أي التزام أمريكي فعليّ بكبح التصعيد الأوكراني، وهو ما لم ينص عليه بيان الخارجية الروسية، ولم تصدر بشأنه أي تصريحات أمريكية.
وأعتقد -من واقع فهمي للموقف الروسي- أن وجهة النظر الروسية ترى أن التناقض في نبرة الاتصال الأمريكي وتوقيت الضربات الأوكرانية الموجعة يفتح باب الشك واسعًا بشأن وجود تنسيق ضمني، أو لنقل تغاضٍ متعمد من جانب واشنطن عن الهجمات الأوكرانية الأخيرة.
والأمر هنا واضح للعميان، فبينما يتحدث الوزير الأمريكي عن سلام ومفاوضات، كانت المسيرات الأوكرانية الانتحارية، المصنوعة بجهد الخبراء والتكنولوجيا الناتوية، تخرق المجال الجوي الروسي، بل تُطلق من داخل الأراضي الروسية نفسها، وهذا ما كشفته التحقيقات المبدئية، وليس رأيي الشخصي.
التقارير الروسية تشير إلى استخدام كييف تكتيكًا جديدًا تمثل في إطلاق المسيرات من شاحنات مدنية مزودة بحاويات خاصة تم تحضيرها وتجهيزها مسبقًا، ووُضِعت داخل الأراضي الروسية نفسها بالقرب من المطارات التي استُهدفت، وقد تكررت مشاهد مثيرة أظهرتها مقاطع فيديو، يحاول خلالها السكان المحليون في سيبريا التصدي لهذه المسيرات بأيديهم، مستخدمين الحجارة والعصي، في غياب واضح لوسائل الحماية الفعالة، وهو ما يستدعي ضرورة مساءلة من يتحمل المسؤولية.
على المستوى الإستراتيجي، أعتقد أن هذه الهجمات الأوكرانية النوعية تمثل لحظة فارقة في هذه الحرب، فهي -من وجهة نظري- تسقط نهائيًّا فرضية “العمق الآمن” داخل روسيا؛ فقد استُهدفت منشآت جوية إستراتيجية، يحتضن بعضها قاذفات نووية، وهو ما يشير إلى أن أوكرانيا، أو -لأكون أكثر دقة- حلفاءها الغربيين تجاوزوا مرحلة الدفاع إلى الهجوم الوقائي في قلب المجال الروسي.
وزارة الدفاع الروسية لم تتأخر طويلًا في الاعتراف بأن بعض طائراتها قد تضررت، ومنها قاذفات بعيدة المدى من طراز “تو-95 إم إس”، و”تو-22 إم 3″، وكذلك طائرات نقل عسكري. لكن مع ذلك، شدد الكرملين -على لسان بيسكوف- على أن الأضرار الحقيقية لا تتطابق مع ما أعلنه الجانب الأوكراني من حيث عدد الطائرات المدمرة، وهو ما أشرت إليه في مقالي السابق نقلًا عن المصادر الرسمية الأوكرانية. الرئيس زيلينسكي نفسه صرح أن الضربات الجوية الأوكرانية أصابت نحو 35% من القوة الجوية البعيدة المدى الروسية، لكن الكرملين اعتبر هذه التصريحات دعاية مضخمة.
إن خطورة هذه الضربات ليست في نتائجها المباشرة -في رأيي- بل في طبيعة تنفيذها، فإطلاق المسيرات من داخل روسيا يعد دليلًا على وجود بنية سرية داخل البلاد، مدعومة -على الأرجح- من شبكات استخبارية غربية.
ومن واقع ما قرأته من تحليلات، صادفني استخدام بعض المحللين مصطلحًا جديدًا، هو “خلايا هجومية مدنية”؛ لتوصيف الحاويات المزروعة التي كانت تحوي وتحمل مسيرات متصلة بأنظمة تحكم عن بُعد، وأنا لا أستطيع تصديق فرضية أن الأوكرانيين بمفردهم لديهم هذه القدرات الفنية والاستخباراتية.
ويعزز هذا التحليل ما نقلته وسائل إعلام غربية، مثل The Independent، من أن الهجمات الأوكرانية لم تُبلغ بها واشنطن مسبقًا، لكن موقع Axios الأمريكي تراجع عن فقرة نشرها، تشير إلى وجود إبلاغ مسبق، ثم استبدل بها صياغة تفيد بأن أوكرانيا لم تُخطر إدارة ترمب، وهو ما لا يمكن فهمه إلا أنها محاولة أمريكية للمناورة وإزالة أثر التورط، وهي أصلًا لم تقدم إنكارًا كاملًا للضلوع غير المباشر.
لكن السؤال المطروح الآن: كيف سيكون الرد الروسي العسكري؟ فحتى كتابة هذه السطور لم يتجاوز الموقف الروسي التصريحات الحذرة، ولم يصدر حتى أي وعيد مباشر، ولم تعلن ضربات انتقامية نوعية، ويعود ذلك -حسب فهمي لعقلية صانع القرار في الكرملين- إلى قناعته بضرورة الرد المتأني، فالهجمات الأخيرة كشفت وجود فجوات واسعة في المنظومة الأمنية، ومن غير المجدي سياسيًّا أو عسكريًّا إصدار رد فعل عاطفي أو انفعالي..
بالطبع يقلل الكرملين من حجم الخسائر، وأنها كان من الممكن أن تكون أكبر لولا تداخلات محلية، لكن مع ذلك فإن هيبة روسيا بوصفها دولة عظمى، وقوة نووية كبرى، ضربت ضربة موجعة.. في المرات السابقة انتظر الجميع الرد، لكن هذه المرة إن لم يأتِ الرد قاسيًا، بل قاصمًا، وليس لأوكرانيا وحدها، فإن تجرؤ الغرب الأوروبي تحديدًا عليها لن يوقفه شيء؛ لذلك لا أستبعد أن يكون خيار الرد غير تقليدي.. قد يكون مركبًا، ويشمل مراكز القيادة والسيطرة الأوكرانية، ولكنه سيكون -بكل تأكيد- مصحوبًا بإجراءات أمنية داخلية صارمة، خاصة بشأن تأمين المنشآت الحيوية للردع النووي.
وقد تكون قواعد عسكرية أوروبية وغربية مسرحًا لاستخدام النووي التكتيكي الروسي للمرة الأولى، إعلانًا لقواعد اشتباك جديدة، وتوضيحًا على نحو لا لبس فيها لخطوط الدولة النووية.. الصبورة.. الحمراء.. وإلا فالهيبة إن كُسرت تمامًا، فخطر التفكيك الداخلي أكبر من الخارجي.
أما مفاوضات إسطنبول التي انعقدت جولتها الثانية منذ ساعة تقريبًا، فلم تخرج كما توقعت، بعد خبر الضربة، بأي نتائج.. ويبدو أن موسكو ذهبت إليها اليوم على خلاف بعض التوقعات بأن ترفض المشاركة بعد ضربة الأمس؛ من أجل استخدام الهجمات الأوكرانية دليلًا على خرق أوكرانيا للخطوط الحمراء، لكنها لم تدخلها -في رأيي- من موقع الضحية الميدانية.
لكن من ناحية أخرى، وعلى الرغم من المشاركة الروسية، فإن حجم الخرق الأمني سوف يجعل الكرملين أكثر حذرًا مع أي مقترحات للتسوية، خاصة إذا تأكد لديه أن الولايات المتحدة ليست شريكًا صادقًا في مسار خفض التصعيد؛ وإنما طرف يدير المعركة من الخلف عبر أدوات الحرب التكنولوجية.
وختامًا أقول إن الهجمات الأوكرانية الخطيرة الأخيرة هي نقطة انعطاف حقيقية في مسار الحرب، فهي لا تعني فقط تغيرًا ميدانيًّا؛ بل إعادة رسم للمفاهيم الأمنية، وتحولًا في إدراك روسيا لطبيعة التهديد.
فنحن الآن -كما يقول المفكرون العسكريون الروس- أمام جغرافيا أمنية جديدة، تتطلب -بلا شك- تحديثًا شاملًا في الرؤية الدفاعية، بل اختبارًا فعليًّا لمفهوم الردع غير النووي.. على الأقل حتى الآن.
الرسالة التي تلقاها بوتين، وتلقتها موسكو واضحة: لم يعد بوسعها اعتبار أراضيها الخلفية خارج نطاق النار، وإن الردع التقليدي وحده لم يعد كافيًا لحماية أصولها الإستراتيجية.
أما واشنطن، فأعتقد أن عليها أن تدرك أن صمت موسكو، أو صمت بوتين، ليس علامة ضعف؛ وإنما مؤشرٌ أن الرد قد يأتي بأدوات مختلفة.. وفي توقيت غير متوقع.. وربما في ساحة ثالثة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.