تاريخ

صعود القوة البولندية


  • 12 يونيو 2025

شارك الموضوع

يمتد تاريخ العلاقات البولندية- الروسية عبر قرون من التنافس، والحروب، والصراعات السياسية، حيث شكلت هذه العلاقة جزءًا أساسيًّا من هوية بولندا الوطنية وموقفها الجيوسياسي في أوروبا الشرقية. منذ العصور الوسطى حتى الصدامات الحديثة المرتبطة النزاع الروسي-الأوكراني الذي بدأ عام 2014 وتصاعد عام 2022، كانت بولندا وروسيا في حالة من التوتر المستمر، تتخللها لحظات نادرة من التعاون. يعكس هذا التاريخ صراعًا على النفوذ الإقليمي، والهوية الثقافية، والسيادة الوطنية، مع تداعيات واضحة في السياق الجيوسياسي الحالي.

بدأت العلاقات البولندية- الروسية تأخذ طابعًا تنافسيًّا خلال فترة الكومنولث البولندي- الليتواني (1569- 1795)، وهو اتحاد سياسي بين بولندا وليتوانيا شكّل واحدة من أكبر القوى في أوروبا. في أوائل القرن السابع عشر، استغلت بولندا فترة الفوضى في روسيا، المعروفة بـ”زمن الاضطرابات” (1598- 1613)، لتوسيع نفوذها. في عام 1605، شنت بولندا حملة عسكرية أدت إلى احتلال موسكو مؤقتًا بين عامي 1610و1612، وهي الفترة التي يُشار إليها بـ”الحرب الموسكوية”. هذا الاحتلال، وإن كان قصير الأمد، ترك أثرًا عميقًا في الذاكرة الروسية، حيث اعتبرت بولندا تهديدًا مباشرًا لسيادتها. وكانت هذه الحروب جزءًا من سلسلة صراعات بين الكومنولث وإمارة موسكو، حيث تنافس الطرفان على السيطرة على الأراضي في بيلاروس وأوكرانيا الحاليتين.

ومع ذلك، فإن الكومنولث بدأ يضعف في القرن السابع عشر بسبب الصراعات الداخلية، والحروب المتكررة، ونظام “الليبروم فيتو” الذي شلّ البرلمان. في المقابل، بدأت روسيا بالتعافي والتوسع تحت حكم القياصرة، مما قلب موازين القوى. بحلول القرن الثامن عشر، أصبحت روسيا القوة المهيمنة في المنطقة، واستغلت ضعف الكومنولث للتدخل في شؤونه الداخلية. هذا التدخل مهّد الطريق لتقسيم بولندا، وهي واحدة من أكثر الفترات مأساوية في تاريخها.

في الفترة بين عامي 1772 و1765، تعرضت بولندا لثلاثة تقسيمات بين روسيا، وبروسيا، والنمسا، أدت إلى اختفائها من الخريطة السياسية (123) عامًا. روسيا أدّت الدور الأكبر في هذه العملية، حيث استولت على الأجزاء الشرقية من الكومنولث، بما في ذلك أراضٍ في بيلاروس وأوكرانيا، وكانت هذه التقسيمات نتيجة ضعف بولندا الداخلي، وطموحات القوى المجاورة، خاصة روسيا، التي رأت في بولندا منطقة عازلة ضد الغرب. خلال هذه الفترة، حاول البولنديون المقاومة، أبرزها من خلال دستور عام 1791، الذي كان محاولة لإصلاح النظام السياسي، وانتفاضة كوسيوسكو عام 1794، لكن روسيا قمعت هذه الجهود بوحشية.

تحت الحكم الروسي، واجه البولنديون سياسات الترويس (Russification) التي هدفت إلى محو الهوية البولندية من خلال فرض اللغة الروسية، والأرثوذكسية، والثقافة الروسية. هذه السياسات أثارت انتفاضتين كبيرتين: انتفاضة نوفمبر/ تشرين الأول (1830- 1831) وانتفاضة يناير/ كانون الثاني (1863- 1864)، لكنهما فشلتا بسبب التفوق العسكري الروسي. وكانت هذه الانتفاضات محاولات يائسة لاستعادة الاستقلال، لكنها عززت الرواية الروسية التي تصور بولندا منطقة فوضوية تحتاج إلى “الاستنارة” الروسية. وهذه الفترة غرست في البولنديين شعورًا عميقًا بالعداء تجاه روسيا، استمر في تشكيل سياساتهم في القرن العشرين.

بعد الحرب العالمية الأولى، استعادت بولندا استقلالها عام 1918 بموجب معاهدة فرساي، لكن الصراع مع روسيا استمر. الحرب البولندية- السوفيتية (1919- 1921) كانت صراعًا حاسمًا، حيث حاولت بولندا، بقيادة يوزف بيوسودسكي، توسيع حدودها شرقًا، في حين سعى البلاشفة بقيادة لينين إلى نشر الثورة الشيوعية إلى أوروبا عبر بولندا. انتصرت بولندا في معركة وارسو (1920)، التي أوقفت تقدم الجيش الأحمر، وأُبرمت معاهدة ريغا (1921) التي منحت بولندا أراضي في غرب أوكرانيا وبيلاروس، وكانت هذه الحرب نتيجة تصادم الطموحات الإقليمية والأيديولوجية، حيث رأت بولندا نفسها حاجزًا ضد الشيوعية.

ومع ذلك، عادت روسيا (الاتحاد السوفيتي) لتؤدي دورًا مدمرًا في مصير بولندا خلال الحرب العالمية الثانية. عام 1939، غزت ألمانيا النازية بولندا من الغرب، وتبعتها القوات السوفيتية من الشرق بموجب البروتوكولات السرية لاتفاق مولوتوف- ريبنتروب. تقاسمت ألمانيا والاتحاد السوفيتي الأراضي البولندية، مما أدى إلى اختفاء بولندا من الخريطة مرة أخرى. خلال السيطرة السوفيتية، ارتُكبت مذبحة كاتين (1940)، حيث أعدمت القوات السوفيتية نحو (22,000) ضابط ومثقف بولندي. وكان هذا الغزو المزدوج كارثة سياسية وعسكرية لبولندا، حيث فقدت سيادتها، وتعرضت لانتهاكات جسيمة. بعد الحرب، فرض الاتحاد السوفيتي نظامًا شيوعيًّا في بولندا (1945- 1989)؛ مما أدى إلى قمع سياسي واقتصادي، على الرغم من حدوث مقاومة شعبية، مثل حركة التضامن في الثمانينيات بقيادة ليخ فاونسا.

مع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، دخلت العلاقات البولندية- الروسية مرحلة جديدة؛ حيث سعت بولندا إلى تعزيز علاقاتها مع الغرب، فانضمت إلى حلف الناتو عام 1999، والاتحاد الأوروبي عام 2004. هذا التوجه أثار قلق روسيا، التي رأت في توسع الناتو تهديدًا لأمنها. واعتبرت بولندا روسيا “حجر عثرة تاريخيًّا” أمام طموحاتها، واستغلت انهيار الاتحاد السوفيتي لتعزيز نفوذها في أوروبا الشرقية. تفاقم التوتر بسبب قضايا مثل كارثة طائرة سمولينسك (2010)، التي قُتل فيها الرئيس البولندي ليخ كاتشينسكي، واتهامات بولندية لروسيا بالتلاعب بالتحقيقات.

تصاعدت التوترات كثيرًا مع ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، ورأت بولندا في هذه الأحداث تهديدًا مباشرًا لأمنها، خاصة أنها تشترك بحدود طويلة مع أوكرانيا. دعمت بولندا أوكرانيا سياسيًّا وعسكريًّا، واستقبلت ملايين اللاجئين الأوكرانيين، وكانت بولندا من أوائل الدول التي قدمت مساعدات عسكرية لأوكرانيا، معتبرة أن دعم كييف ضروري لمنع أي عدوان روسي مستقبلي ضد بولندا نفسها.

مع إنطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) 2022، أصبحت بولندا من أبرز الداعمين لأوكرانيا. قدمت وارسو أسلحة ثقيلة، منها دبابات وطائرات مقاتلة، وأصبحت قناة رئيسة لنقل المساعدات العسكرية الغربية إلى أوكرانيا، وتسببت الحرب في أزمة إنسانية غير مسبوقة؛ مما دفع بولندا إلى استقبال أكثر من 8 ملايين لاجئ أوكراني بحلول 2023. كما قادت بولندا جهودًا دبلوماسية لعزل روسيا، منها دعم العقوبات الاقتصادية، وفصل البنوك الروسية عن نظام سويفت.

دفعت الحرب الروسية- الأوكرانية بولندا إلى تسريع جهودها لتحديث جيشها وتعزيز قدراتها الدفاعية، بهدف ردع أي تهديدات محتملة من روسيا أو بيلاروس، الحليفة الوثيقة لموسكو. عام 2023، زادت بولندا ميزانيتها الدفاعية لتصل إلى نحو (4%) من الناتج المحلي الإجمالي، متجاوزة بذلك هدف الناتو البالغ (2%). هذا الارتفاع الكبير في الإنفاق مكّن وارسو من إبرام صفقات تسليح ضخمة، منها شراء (250) دبابة أبرامز (M1A2) من الولايات المتحدة، و(32) طائرة مقاتلة من طراز (F-35)، ونظام صواريخ هيمارس. كما وقّعت بولندا عقودًا مع كوريا الجنوبية لشراء 180 دبابة (K2 Black Panther) و672 مدفع هاوتزر (K9)، في صفقة تُعد من أكبر صفقات الأسلحة في أوروبا منذ الحرب الباردة.

هذه الاستثمارات البولندية تهدف إلى بناء جيش حديث قادر على مواجهة التهديدات التقليدية والهجينة، خاصة في ضوء التكتيكات الروسية في أوكرانيا، التي شملت الحرب السيبرانية والهجمات الصاروخية البعيدة المدى. بالإضافة إلى ذلك، أعلنت بولندا خططًا لزيادة عدد قواتها المسلحة من نحو (150,000) إلى (300,000) جندي بحلول عام 2030؛ مما يجعلها من أكبر الجيوش في أوروبا. هذا التحديث يعكس إدراك بولندا لضرورة الاعتماد على الذات في الدفاع، خاصة في ظل الشكوك بشأن استجابة الناتو السريعة في حالة وقوع هجوم روسي مباشر. كما استثمرت بولندا في تعزيز دفاعاتها الحدودية، بما في ذلك بناء جدار بطول 186 كيلومترًا على حدودها مع بيلاروس لمواجهة التهديدات الهجينة مثل الهجرة غير النظامية، التي اتهمت وارسو موسكو ومينسك بتدبيرها.

استغلت بولندا الحرب لتعزيز دورها كقوة إقليمية ضمن إطار حلف الناتو، مقدمة نفسها حصنًا دفاعيًّا ضد روسيا في أوروبا الشرقية. وبرزت بولندا صوتًا رئيسًا في الدعوة إلى تعزيز الوجود العسكري للناتو في الجناح الشرقي للحلف، حيث استضافت قوات إضافية من الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى. على سبيل المثال، زاد عدد القوات الأمريكية في بولندا من نحو (4,500) عام 2021 إلى أكثر من (10,000) منتصف عام 2022، كما استضافت بولندا القمة الاستثنائية للناتو في وارسو في يوليو (تموز) 2022، حيث دعت إلى نشر قوات دائمة بدلًا من القوات الدورية في دول البلطيق وبولندا، وهو ما تحقق جزئيًّا مع إعلان الناتو تعزيز مجموعاته القتالية في المنطقة. هذا الدور القيادي عزز مكانة بولندا بوصفها شريكًا إستراتيجيًّا للولايات المتحدة.

في الوقت نفسه، سعت بولندا إلى بناء تحالفات إقليمية، مثل مبادرة الثلاثة بحار (Three Seas Initiative)، التي تهدف إلى تعزيز التعاون العسكري والاقتصادي بين دول أوروبا الشرقية. هذه الجهود تعكس طموح بولندا لتكون قوة موازنة في المنطقة، مستفيدة من الفراغ الإستراتيجي الناتج عن تراجع النفوذ الروسي، وانشغال أوروبا الغربية بتحديات داخلية. ومع ذلك، أثارت سياسات بولندا العسكرية الطموحة مخاوف بعض الحلفاء الأوروبيين، خاصة ألمانيا، التي رأت في تحركات وارسو محاولة لتجاوز دور برلين في قيادة السياسة الأمنية الأوروبية.

على الرغم من نجاحات بولندا العسكرية، فإن سياساتها لم تخلُ من التحديات والتوترات، خاصة في علاقتها مع أوكرانيا والحلفاء الغربيين. في أواخر عام 2023، شهدت العلاقات البولندية- الأوكرانية توترًا بسبب نزاع على صادرات الحبوب الأوكرانية، التي أثرت سلبًا في المزارعين البولنديين؛ مما دفع وارسو إلى فرض حظر على الواردات الزراعية الأوكرانية، وأدت هذه الأزمة إلى تصريحات حادة من رئيس الوزراء البولندي آنذاك ماتيوس مورافيتسكي، الذي هدد بتقليص الدعم العسكري لأوكرانيا، قبل أن تتراجع الحكومة عن هذه التصريحات لتجنب تصدع التحالف. هذا التوتر كشف عن التحديات الداخلية التي تواجهها بولندا، حيث تضطر الحكومة إلى موازنة بين الدعم الإستراتيجي لأوكرانيا والضغوط الاقتصادية والسياسية المحلية.

على الصعيد الدولي، أثارت السياسات العسكرية البولندية العدوانية انتقادات من بعض الدول الأوروبية، التي رأت في إنفاق وارسو العسكري الضخم أخطار التسلح الإقليمي. كما واجهت بولندا تحديات تقنية تتعلق بدمج الأنظمة العسكرية الجديدة، مثل دبابات أبرامز و(K2)، في بنيتها العسكرية الحالية، التي لا تزال تعتمد جزئيًّا على معدات سوفيتية قديمة. على الرغم من هذه التحديات، تظل بولندا ملتزمة بسياساتها العسكرية الطموحة، معتبرة أن الحرب في أوكرانيا فرصة لإعادة تشكيل الأمن الأوروبي بما يتفق مع مصالحها.

في النهاية، يعكس تاريخ بولندا وصراعها مع روسيا قصة طويلة من التنافس على النفوذ والسيادة، بدءًا من احتلال موسكو في القرن السابع عشر، مرورًا بالتقسيمات المدمرة، والاحتلال السوفيتي، وصولًا إلى الصدام الحالي في سياق الحرب الروسية- الأوكرانية. ترى بولندا في روسيا تهديدًا تاريخيًّا وجيوسياسيًّا؛ مما دفعها إلى تبني موقف صلب بوصفها حليفًا رئيسًا لأوكرانيا، وحاجزًا ضد التوسع الروسي. في الوقت نفسه، تسعى بولندا إلى تعزيز دورها بوصفها قوة إقليمية ضمن الناتو والاتحاد الأوروبي، مستفيدة من الصراع لتحقيق مكاسب إستراتيجية. ومع استمرار الحرب في أوكرانيا، تظل بولندا في صدارة المواجهة مع روسيا، مدفوعة بذكريات تاريخية، ومخاوف أمنية مشروعة؛ مما يجعل هذا الصراع جزءًا من هويتها الوطنية. وفي ضوء الحرب الروسية- الأوكرانية، أصبحت بولندا مركزًا لوجستيًّا وعسكريًّا حاسمًا، في حين عزّز إنفاقها الدفاعي قدرتها على ردع أي تهديدات مستقبلية. كما استغلت وارسو الصراع لإعادة تموضع نفسها بوصفها قوة إقليمية، معززة تحالفاتها مع الولايات المتحدة، ودول أوروبا الشرقية. ومع ذلك، تواجه بولندا تحديات داخلية وخارجية، منها التوترات مع أوكرانيا، والمخاوف الأوروبية من سياساتها العسكرية الطموحة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع