مقالات المركز

بين مبادرة الاثني عشر بندًا وإعادة تعريف لافروف لمعنى التسوية في أوكرانيا

سلام بلا اعتراف بالواقع.. جوهر الخطة الأوروبية في أوكرانيا


  • 23 أكتوبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: ndtv.com

تشير تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، يوم 21 أكتوبر (تشرين الأول) 2025، التي قالها تعليقًا على آفاق عقد لقائه المرتقب مع نظيره الأمريكي ماركو روبيو، تحضيرًا لقمة بوتين- ترمب، تشير إلى أن موسكو لم تعد تنظر إلى الحرب في أوكرانيا من زاوية عسكرية بحتة؛ بل من منظور أعمق يتعلق بضرورة إعادة صياغة قواعد الأمن الأوروبي.

شيخ الدبلوماسيين الروس، الذي نادرًا ما يتحدث بعبارات انفعالية، وإن كان يسمح لنفسه بذلك أحيانًا، استخدم لغة دقيقة جدًّا، ومباشرة جدًّا، عندما قال إن الدعوات الغربية لوقف إطلاق النار “الآن” تتناقض مع ما تم التفاهم عليه بين بوتين وترمب في ألاسكا. وأضاف موضحًا قصده بهذا التناقض، أن أي هدنة تُفرض الآن دون معالجة الأسباب الجذرية للنزاع ستكون مجرد “استراحة تكتيكية” تسمح “ببقاء سلطة النازيين في كييف على جزء كبير من الأراضي الأوكرانية”، وأنا هنا أقتبس بالنص من كلام الوزير الروسي.

وأنا أفهم هذا الكلام على أنه تغيّر نوعي في لهجة كبير الدبلوماسيين الروس، وإن كان التغيّر في كلامه هنا طفيفًا عما سبق، لكنَّ له وزنًا ثقيلًا في تحديد شكل الفعل الروسي التالي في رأيي؛ لأن ما قاله لافروف، عندما نقرؤه في السياق الروسي، نستطيع القول بثقة إنه ليس توصيفًا دعائيًّا؛ بل هو تحديد لهوية الخصم السياسي.

ما أقصده أن تعبير لافروف الذي حملته الألفاظ التي استخدمها لتوصيف النظام الأوكراني الحالي، يعني -حسب فهمي- أن الكرملين وبوتين يريان أنه نظام نازي، والأهم أنهما يريانه امتدادًا فعليًّا للناتو داخل الفضاء السوفيتي السابق، والأخطر أنه في الفناء الخلفي لإقليم روسيا، وهنا يتبادر إلى ذهني سؤال: كيف يُفترض أن يُوقَّع اتفاق سلام مع نظام هذا هو تصنيفه من طرف الاتفاق الثاني، وهل سنصل فعلًا لهذه المرحلة؟ لأنه بهذه الصياغة الجديدة يعيد وزير الخارجية الروسي تعريف وظيفة المفاوضات ذاتها؛ فوقف إطلاق النار في رأيه، ومن ثم من وجهة النظر الروسية الرسمية، ليس هدفًا إنسانيًّا، ولا حتى مظهرًا من مظاهر “الاستقرار الأوروبي”، بل يجب أن يكون نتيجة لمعادلة أمنية جديدة تكرس حياد أوكرانيا، وتنزع عنها أي إمكان لامتلاك سلاح نووي، أو الدخول في تحالفات معادية لموسكو؛ لذلك يبدو أن الخلاف بين موسكو وبروكسل على هذا النحو لن يكون خلافًا على تفاصيل الخطة الأوروبية ذات الاثني عشر بندًا التي سرّبتها “بلومبرغ”، مساء 21 أكتوبر (تشرين الأول) 2025؛ بل على مفهوم السلام نفسه، هل هو نهاية الحرب أم إعادة تنظيم لموازين القوى داخلها؟

فأوروبا أخذت تتحرك بسرعة لتثبيت موقعها طرفًا ثالثًا في المعادلة، بعدما فوجئت باتصال بوتين وترمب، واتفاقهما على اللقاء في بودابست، وفعلت كل ما تستطيع، بالطرق المباشرة وغير المباشرة، من أجل تعليق التحضيرات لهذه القمة الروسية الأمريكية في المجر، التي كان من المتوقع أن تُعقد قبل نهاية الشهر الجاري.

ومع انكشاف أن واشنطن وموسكو لم تتوصلا بعد إلى تصور مشترك لمسار التسوية حتى تُعقد القمة، اعتبرت بروكسل أن هذا فراغ دبلوماسي بإمكانها استغلاله كفرصة لطرح مبادراتها الجديدة التي تنص في خلاصتها على تجميد القتال عند خطوط التماس الحالية، وتربط رفع العقوبات عن روسيا بإطلاق عملية إعادة إعمار بإشراف دولي، وبأموال روسيا، مع تسريع انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي،

لكنها في الوقت نفسه، الذي تطالب فيه وتحدد أمن أوكرانيا بوصفه أولوية الأولويات، تغفل بندًا جوهريًّا، ولم تشر إليه من قريب أو من بعيد، وهو بند ضمانات الأمن الروسي، وهو سبب كل ما نحن فيه، إذا عدنا إلى أربع سنين مضت تقريبًا، وأقصد وثيقة مقترحات موسكو للضمانات الأمنية، التي دار بها لافروف على الأمريكان والأوروبيين حتى يتم تلافي الحرب نهاية عام 2021؛ لذلك فإن وثيقة الأوروبيين الجديدة، التي تتكون من اثني عشر بندًا، هي وثيقة أحادية الجانب، تستهدف تجميد الصراع لا حله، ولا أعتقد أن موسكو أو الكرملين أو بوتين سوف يقبل بها.

في الإطار نفسه، تكشف تحركات كييف الأخيرة عن تحول واضح في محور الرهان الغربي؛ فبعد فشل محاولات الأوروبيين، على الأقل حتى لحظة كتابة هذه السطور، لإنزال زيلينسكي في بودابست طرفًا ثالثًا في لقاء بوتين وترمب، أعلن الرئيس الأوكراني أنه سيتوجه إلى لندن للمشاركة في اجتماع “تحالف الراغبين”، الذي يُفترض أن يعقد الخميس 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2025؛ بهدف الحصول على ضمانات أمنية جديدة.

لندن بالطبع لم تفوت الفرصة، وسارعت إلى إعلان تخصيص 135 مليون دولار لنشر وحدات عسكرية بريطانية على الأراضي الأوكرانية (بعد انتهاء العمليات القتالية). والسؤال المنطقي هنا: كيف يمكن للكرملين تفسير هذه الخطوة سوى أنها إشارة واضحة إلى رغبة لندن في تقويض أي مسار تفاوضي جدّي؟

الاتحاد الأوروبي نفسه ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث أعلن أنه يعد قرضًا ضخمًا بقيمة 140 مليار يورو، مضمونًا بالأصول الروسية المجمدة في أوروبا، مع حديث متزايد عن رفع المبلغ إلى 180 مليارًا، وهو ما وصفته كايا كالاس بأنه “رسالة إلى موسكو بأنها لن تصمد أكثر منا!”. وهذه -في رأيي- عبارة كاشفة عن أن لغة الحرب هي التي تحكم منطق السلام الأوروبي.

على الجانب الأمريكي، لا يبدو المشهد أكثر انسجامًا؛ فبعد تسريب خبر تأجيل اللقاء المقرر بين لافروف ووزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، لا تزال موسكو تصرح أن “التحضيرات مستمرة”، وأن القمة المنتظرة بين بوتين وترمب سوف تعقد، لكنها “تحتاج إلى وقت وإعداد جدّي”، في حين يكتفي الكرملين بالتلميح على لسان المتحدث الرئاسي بيسكوف إلى أن الحديث عن مشاركة قادة أوروبيين في هذه القمة أمر سابق لأوانه. وهنا تحافظ موسكو على لهجة الانفتاح، لكن الانفتاح المشروط، من دون أن تخفي مع ذلك استياءها من محاولة بروكسل الالتفاف على المسار الروسي- الأمريكي المباشر.

في التحليل السياسي الأوسع، أو القراءة السياسية البحتة، إذا تناولنا خطة الاثني عشر بندًا، من واقع ما تسرب عن مضمونها بالطبع، فسنرى أنها في جوهرها ما هي إلا نسخة معدلة من “صيغة زيلينسكي” السابقة، مع بعض التعديلات الشكلية التكتيكية التي أملتها واقعية الميدان، فهي -من واقع فهمي لها- محاولة أوروبية لإنتاج “سلام بلا اعتراف بالواقع”، بمعنى أن الأوروبيين يرغبون في وقف إطلاق نار فوري يجمد القتال دون اعتراف بواقع الميدان، أو دون المساس العلني بمبدأ وحدة الأراضي الأوكرانية، وهو أحد المطالب الروسية الرئيسة الثلاثة لوقف الحرب، وهي في الوقت نفسه تقدم للغرب مخرجًا تفاوضيًّا يتيح له تبرير الدعوة إلى وقف النار دون أن يبدو متراجعًا عن التزامه السياسي بدعم كييف.

أما موسكو فترى أن أي تسوية لا تترجم سيادتها ميدانيًّا على المناطق الأربع الجديدة، ولا تضمن حياد أوكرانيا الدائم -وأضع تحت كلمة الدائم عدة خطوط- ستكون مجرد نسخة جديدة من اتفاقات مينسك التي ضرب بها الأوروبيون والأوكران عرض الحائط، فانتهت إلى طريق مسدود؛ لذلك يصر لافروف في آخر تصريحاته التي أشرت إليها أعلاه على أن التفاوض، نعم ممكن، لكن فقط بشأن ما تم التفاهم عليه في ألاسكا، لا بشأن تعديله، وهو ما يبدو أن الأوروبيين يحاولون فعله.

في المقابل، وكما هو واضح من هذا التطور، أقصد خطة الاثني عشر بندًا، تراهن أوروبا على عامل الزمن؛ فهي تبحث هدنة سياسية تخفف الضغط الاقتصادي الداخلي في بلدانها التي تعاني -بلا شك- من كل تكاليف الحرب، وكذلك تحاول إظهار قدرتها على الفعل المستقل عن البيت الأبيض الأمريكي، لكن دون تغيير جذري في سياسة العقوبات، أو في بنية التحالف الغربي نفسه، فهي من دون الولايات المتحدة الآن لا تساوي شيئًا تقريبًا؛ لذلك جاءت مبادرتها محملة بلغة أخلاقية لا تقدم ولا تؤخر، أكثر من كونها هندسة أمنية واقعية؛ لذلك تبدو هذه الخطة -من وجهة النظر الموضوعية- خطة لإدارة الحرب والأزمة تحت السقف الأوروبي المستهدف، وليس لإنهائها.

الغرب -الأوروبي تحديدًا- يريد احتواء الحرب دون الاعتراف بنتائجها، وكييف تبحث عن حماية جديدة بعد اهتزاز الدعم الأمريكي على يد ترمب، فيما تواصل روسيا تثبيت مكاسبها الميدانية بهدوء، مع إدراك تام -من وجهة نظري طبعًا- أن أي تسوية متسرعة ستعيد إنتاج الاضطراب بدلًا من حله.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع