مقالات المركز

زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو


  • 2 أغسطس 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: skynewsarabia

تتجه العلاقات السورية الروسية إلى مرحلة اختبار جديدة مع وصول وزير الخارجية السوري، أسعد الحسن الشيباني، إلى موسكو في 31 يوليو (تموز) 2025 لعقد أول اجتماع رفيع المستوى بين الحكومتين بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024. تمثل الزيارة فرصة لتحديد طبيعة الشراكة الثنائية خلال المرحلة الانتقالية، في وقت تعمل فيه دمشق على إعادة تعريف سياستها الخارجية وتقليل اعتمادها على أي طرف منفرد. يعكس توقيت الزيارة انقضاء سبعة أشهر من الترتيبات الداخلية في سوريا، شملت تشكيل حكومة انتقالية، وإصدار إعلان دستوري مؤقت، وبحث مسارات إعادة الإعمار مع شركاء من دول الخليج، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي.

بالنسبة لموسكو، يهدف الاجتماع إلى الحفاظ على المصالح الإستراتيجية التي ترسخت منذ تدخلها العسكري عام 2015، مع القبول الضمني بأن الظروف التي سمحت بتلك الامتيازات تغيرت جذريًّا. تعمل روسيا حاليًّا بنهج موازنة بين استمرار الحضور العسكري (خاصة في قاعدتي حميميم وطرطوس) وتقديم حوافز اقتصادية وسياسية تضمن لها دورًا طويل الأجل في ملفات الطاقة والمواني السورية. في المقابل، تسعى الحكومة السورية إلى إعادة التفاوض بشأن شروط الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية السابقة، بما يشمل إعادة هيكلة الديون، وتحديد مساهمة الشركات الروسية في مشروعات النفط والغاز والكهرباء.

يأتي اللقاء أيضًا على خلفية تحولات إقليمية ودولية بارزة، فقد ألغت دمشق عقد شركة “ستروي ترانس غاز” في ميناء طرطوس، ووقّعت اتفاقًا مع “دي بي ورلد” الإماراتية، كما أبرمت تفاهمات مع شركات أميركية لتطوير خطة رئيسة لقطاع الطاقة بعد تخفيف العقوبات الأمريكية. إضافة إلى ذلك، وقّعت سوريا والسعودية 47 اتفاقية استثمارية بقيمة تفوق ستة مليارات دولار، ما يوسع هامش المناورة أمام دمشق، ويعزز موقعها التفاوضي أمام موسكو.

يركز جدول الأعمال المتوقع على أربعة محاور رئيسة:

  1. الوضع القانوني للوجود العسكري الروسي وما إذا كانت القاعدتان ستبقيان بالشروط نفسها أو ضمن اتفاق مُعاد صياغته.
  2. إعادة الإعمار والاستثمارات، خاصة في البنية التحتية للطاقة والمواني، مع بحث حصة الشركات الروسية في مشروعات تُطرح للمنافسة الدولية.
  3. التعاون المالي، بما في ذلك مسألة الديون الروسية القديمة، وآليات التمويل المحتملة للمشروعات المشتركة.
  4. التنسيق الإقليمي فيما يتعلق بالحد من التوترات مع إسرائيل، ومستقبل مناطق الشمال الشرقي الخاضعة لقوات سوريا الديمقراطية، وإمكانية توحيد الجهود ضد الجماعات الجهادية المتبقية.

تعتمد نتائج الاجتماع على قدرة الجانبين على التوصل إلى صيغ توازن بين الاحتياجات الأمنية الروسية ومطالب السيادة والتنمية السورية. نجاح المفاوضات قد يفتح الباب لمساهمة روسية منتظمة في الإعمار، ويوفر لدمشق تنوعًا في مصادر الدعم المالي والسياسي. أما الفشل فسيعزز توجه سوريا إلى شركاء آخرين، وقد يقلص الدور الروسي في شرق المتوسط؛ ومن ثم يحمل هذا اللقاء دلالات تتجاوز العلاقات الثنائية، ليؤثر في حسابات الفاعلين الإقليميين والدوليين بشأن مستقبل الترتيبات الأمنية والاقتصادية في سوريا ما بعد الصراع.

تسعى القيادة السورية الجديدة، من خلال هذه الزيارة، إلى إعادة ضبط البوصلة الجيوسياسية للدولة على أسس أكثر توازنًا وبراغماتية؛ فبدلًا من منطق التبعية الذي ميّز علاقات دمشق الخارجية خلال عهد النظام السابق، تُقدّم حكومة أحمد الشرع رؤية دبلوماسية تنطلق من الاعتراف بتعددية الشركاء، وضرورة توزيع المخاطر، وتوسيع هوامش الحركة؛ لذلك لا تُعد موسكو اليوم حليفًا حتميًّا أو حاضنًا أوحد؛ بل أحد الشركاء الذين يجب أن يتفاعلوا مع واقع سوري جديد، قائم على الانتقال السياسي والتنوع في مصادر الشرعية والمصالح.

في هذا السياق، يكتسب طرح مسألة العدالة الانتقالية بعدًا خاصًّا. فرغم حساسية الملف لموسكو، التي لطالما ربطت وجودها في سوريا بشرعية النظام السابق، فإن تصريحات وزير الخارجية الشيباني بشأن “الحاجة إلى دعم روسي في إرساء أسس العدالة” تنقل الرسالة بوضوح: سوريا الجديدة تعتزم معالجة إرث الانتهاكات والانقسامات الداخلية من دون استثناء، وبمنهجية لا تُغفل دور الفاعلين الدوليين. هذه الإشارات، وإن جاءت بلغة دبلوماسية، تدفع موسكو إلى التفكير بمدى استعدادها للمساهمة في مسارات المصالحة الوطنية، التي قد تشمل إشرافًا مشتركًا على هيئات التحقيق، ومواكبة مؤسسات العدالة، وربما لاحقًا دعم المساعي القضائية الانتقالية وفق معايير دولية.

في المقابل، يُعد تمسّك موسكو بقواعدها العسكرية في طرطوس وحميميم عنصرًا اختباريًّا حقيقيًّا في مستقبل العلاقة. فبينما تنظر روسيا إلى هذه المنشآت بوصفها مرتكزات إستراتيجية على المتوسط، ترى دمشق أن الحفاظ على السيادة يقتضي إعادة النظر في شروط استخدام هذه القواعد. بعبارة أخرى، تبحث سوريا الجديدة عن نموذج يضمن التنسيق الأمني دون الإخلال بالتوازن الاستراتيجي للدولة السورية، وهنا تبرز ضرورة تطوير نموذج قانوني جديد يُحوّل الوجود الروسي من واقع مفروض إلى شراكة مدروسة تحكمها شفافية، وجداول زمنية، وآليات رقابة سورية داخلية.

في محور إعادة الإعمار، تبدو موسكو أمام فرصة لاستعادة جزء من نفوذها الاقتصادي من خلال الاستثمار في مشروعات الكهرباء والمرافئ والمطارات. غير أن المشهد تغيّر جذريًّا: فمنافسة دول الخليج، والشركات الغربية، وحتى المبادرات الصينية، لم تترك لموسكو مجالًا واسعًا للمناورة إلا ضمن شروط السوق، وهذا يتطلب من الجانب الروسي التحوّل من منطق الامتيازات السيادية إلى منطق العروض التنافسية، ما يفرض على الشركات الروسية تطوير أدواتها ومراعاة المعايير الدولية في التنفيذ والتمويل.

أما التنسيق الإقليمي، فيشكّل أحد أكثر الملفات حساسية، لا سيما في ظل التوتر مع إسرائيل حول الجنوب السوري، وتعقيد المشهد في الشمال الشرقي بفعل النفوذ الأمريكي وقوات سوريا الديمقراطية. تحاول دمشق من خلال هذا المحور تثبيت دورها بوصفها فاعلًا مركزيًّا في أمن المنطقة، مع الحفاظ على الحد الأدنى من التفاهمات مع تل أبيب لتجنب التصعيد، وفتح قنوات سياسية جديدة بدلًا من الانجرار نحو المواجهة. وتُدرك موسكو أن دورها كوسيط محتمل بين سوريا وإسرائيل -مهما بدا بعيدًا- قد يُعزّز تموضعها كلاعب دولي لا يقتصر على الجانب العسكري، بل يمتد إلى الوساطة السياسية والأمنية.

من ناحية أخرى، لا يمكن فصل هذه الديناميكيات عن موقف روسيا العام من التغيرات التي طرأت على التوازنات الإقليمية والدولية، فقد باتت موسكو أكثر ميلًا إلى تبني أدوات القوة الناعمة، والعمل ضمن أطر شراكات متوازنة، خاصة بعد الضغوط الغربية التي خلّفها غزو أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية؛ لذا فإن انفتاح دمشق على واشنطن والرياض وأبو ظبي وطهران لا يشكل تهديدًا لروسيا فحسب؛ بل فرصة لإعادة إنتاج دورها ضمن معادلة مرنة تتيح لها البقاء في الملف السوري من دون الارتباط بمسارات تجاوزها الزمن.

في المحصلة، إن نجاح هذه الزيارة لا يُقاس فقط بالبيانات المشتركة، أو الصور البروتوكولية؛ بل بمدى قدرة الطرفين على إعادة تشكيل العلاقة بما يعكس التحولات التي طرأت على الداخل السوري، وعلى موازين القوى الإقليمية، فروسيا مطالبة بالتأقلم مع سوريا الجديدة بوصفها دولة متعددة الشركاء والخيارات، وسوريا من جهتها تسعى إلى ضمان ألا يتحوّل التنويع الدبلوماسي إلى ساحة صراع نفوذ.

تاريخيًّا، لطالما ارتبطت العلاقات السورية الروسية بأبعاد تتجاوز السياسة إلى الرمزية والهوية، لكن المرحلة الراهنة تستوجب اعتماد منطق الحسابات الدقيقة والمصالح المتبادلة؛ لذلك إذا ما استطاع الطرفان تجاوز ترسبات الماضي، والتأسيس لتعاون متوازن وشفاف، فإن الزيارة قد تشكل حجر الأساس لشراكة جديدة مبنية على احترام السيادة، وتحقيق الاستقرار، ودفع التنمية. أما إذا فشلت في تحقيق اختراقات ملموسة، فقد يكون الزمن القادم شاهدًا على تراجع الدور الروسي لصالح تحالفات أكثر ديناميكية، تُراعي المصالح السورية المستجدة، وتُعطي الأولوية للفاعلية الاقتصادية والتنوع السياسي على حساب الأيديولوجيا والتحالفات الثابتة.

الاستنتاجات

إن زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو تمثل لحظة تحول مفصلي في تاريخ العلاقات السورية الروسية، ليس فقط باعتبارها الأولى من نوعها بعد سقوط نظام بشار الأسد؛ بل لأنها تجري في سياق تغيّرت فيه بنية الدولة السورية، ومراكز القرار الإقليمي والدولي. لم تعد دمشق تحت قيادة انتقالية تسير وفق نهج الانغلاق أو الارتهان؛ بل باتت تعمل على بلورة سياسة خارجية متوازنة تُعيد تعريف تحالفاتها بما يخدم سيادتها، ومصالح شعبها. ومن هذا المنطلق، تصبح العلاقة مع موسكو خاضعة لإعادة تقييم شاملة، إذ لم يعد مقبولًا استمرار الامتيازات الإستراتيجية والعسكرية والاقتصادية التي حصلت عليها روسيا سابقًا، من دون أن تتماشى مع المتغيرات الجديدة، سواء على مستوى المشهد الداخلي السوري، أو على مستوى التوازنات الدولية التي باتت أكثر تعقيدًا.

روسيا، من جهتها، تُدرك أن خسارة سوريا كحليف إستراتيجي تمثل تراجعًا في تموضعها الإقليمي، خاصة في ظل ما تواجهه من عزلة غربية متزايدة، وعقوبات خانقة نتيجة الحرب في أوكرانيا؛ ومن ثم فإن الكرملين بات مضطرًا إلى إعادة صياغة علاقته مع دمشق على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، وليس من خلال الفرض أو الاستتباع. قبول موسكو بالحوار بشأن مراجعة الاتفاقات العسكرية، ودورها في إعادة الإعمار، واستعدادها المبدئي لدعم مسار العدالة الانتقالية، يعكس هذا التحول التدريجي نحو براغماتية أكثر تكيّفًا مع الواقع الجديد.

لكن في المقابل، لا يمكن الحديث عن شراكة حقيقية إن لم تُترجم الأقوال إلى أفعال، فموسكو مطالبة بإبداء مرونة أكبر فيما يتعلق بمصير قواعدها العسكرية، ومدى انخراطها في مشروعات اقتصادية ذات جدوى حقيقية لسوريا، بعيدًا عن منطق الاحتكار أو النفوذ الرمزي. كما أن دعوات دمشق لمساندة مسار العدالة الانتقالية ليست مجرد مطلب معنوي؛ وإنما مؤشر على نيتها تأسيس شرعية جديدة لا ترتبط بالحقبة السابقة ولا تتجاهلها، بل تعالج آثارها بمنهجية مدنية وقانونية. وإذا استجابت روسيا لهذا المسار، فإنها ستثبت أنها شريك قادر على التكيّف الأخلاقي والسياسي مع متطلبات سوريا الجديدة.

في سياق موازٍ، تتجه القيادة السورية إلى تنويع شركائها من خلال تعميق علاقاتها مع دول الخليج، والانفتاح على المبادرات الغربية، بل حتى دراسة خيارات جديدة للتعاون مع الصين وتركيا. هذا المسار لا يعني القطيعة مع روسيا؛ بل يؤسس لنموذج سياسي يرفض الارتهان لأحد، ويمنح دمشق هامش مناورة أوسع في مفاوضاتها الإقليمية والدولية. وبهذا المعنى، فإن زيارة موسكو تأتي في إطار صياغة “عقد شراكة جديد” لا يقوم على الحماية السياسية، أو الدعم العسكري فقط، بل على المردودية الاقتصادية، والاحترام المتبادل والموقع المتوازن في المشهد الدولي.

في المحصلة، يتوقف مستقبل العلاقات السورية الروسية على مدى قدرة الطرفين على إدارة هذا الانتقال التاريخي بعقلانية ومسؤولية، فإذا قبلت موسكو بمبدأ أن سوريا ما بعد الأسد ليست امتدادًا لسوريا ما قبله، وأن الشراكة تحتاج إلى إعادة ضبط المصالح والأدوات، فإن فرص بقاء روسيا لاعبًا مؤثرًا في سوريا والمنطقة ستبقى قائمة. أما إذا أصرت على استنساخ أدوات الماضي، فإن دمشق لن تتردد في فتح الباب أمام منافسين جدد يقدّمون عروضًا أكثر مرونة وتوازنًا؛ لذلك لا تمثل هذه الزيارة مجرد حدث دبلوماسي عابر؛ بل هي اختبار عميق لنوعية التحولات التي يمكن أن تشهدها العلاقات بين البلدين، في ضوء التحديات المتزايدة، والتبدلات الجيوسياسية التي تعصف بالمنطقة والعالم.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع