“يجب تصحيح كتب التاريخ والجغرافيا”، هذا هو الشعار الذي ترفعه النخب السياسية البولندية، ليس فقط منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022؛ بل منذ سقوط جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق، فهذا الشعار رفعه “ليخ فاونسا”؛ زعيم المظاهرات في ميناء “غدانسك” عام 1989، وتوصف هذه المظاهرات بأنها إحدى أهم حلقات “الثورات الملونة” في شرق أوروبا، التي قادت إلى تحول بولندا ورومانيا وبلغاريا والتشيك وسلوفاكيا والمجر من “حلف وارسو” إلى الاتحاد الأوروبي، وحلف دول شمال الأطلسي “الناتو”. وترى بولندا في الحرب الروسية الأوكرانية فرصة “للانتقام السياسي” من روسيا، فالحسابات البولندية تقوم على أن “تقسيم روسيا”، أو إلحاق “هزيمة إستراتيجية” بها، سوف يقود مباشرة إلى استعادة أمجاد “الإمبراطورية البولندية” التي سيطرت في يوم من الأيام على مدينة “موسكو”. كما تعتقد بولندا أنها سوف تحصل على “مكافأة كبيرة” حال خسارة روسيا الحرب في أوكرانيا؛ وذلك باستعادة ما تراه وارسو “أراضي بولندية” داخل أوكرانيا، مثل لفيف، وإيفانو فرانكوفسك، وتيرنوبل. ويرى كثير من الساسة والمثقفين البولنديين أن بولندا في أقرب نقطة لتحقق الحلم التاريخي من “البحر إلى البحر”، أي تمدد أراضيها من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، كل هذا جعل من بولندا “رأس الحربة”، وأحد أبرز “الصقور” في جميع الخطط والتحركات العسكرية والسياسية الغربية ضد روسيا، فما الدوافع الأخرى وراء العداء البولندي للشعب الروسي؟ وكيف يمكن أن ينتهي الصراع البولندي مع روسيا في المرحلة التاريخية الراهنة؟ وماذا عن “ممر سوفالكي”؟ وهل يمثل هذا الممر “بداية الشرارة” التي يمكن أن تنطلق منها الحرب البولندية ضد روسيا؟
بدأ الصراع البولندي الروسي منذ ما يزيد على 4 قرون، ففي عام 1605 سيطرت بولندا على موسكو بعد حرب أطلق عليها “الحرب الموسكوية”. ورغم فشل بولندا في الحفاظ على سيطرتها على موسكو وأجزاء واسعة من أوكرانيا وبيلاروسيا الحالية، فإن البولنديين ظلوا طوال هذه القرون الماضية يتهمون روسيا بأنها كانت وراء ضياع “الحلم البولندي”، ولهذا تفترض بولندا أن روسيا هي “حجر العثرة التاريخي” في طريق بناء الإمبراطورية البولندية وبقائها”، وأن روسيا هي من أدت الدور البارز في القضاء على “بولندا العظمى” التي شكلت مع ليتوانيا “الكومنولث البولندي الليتواني” في الفترة من عام 1569 إلى عام 1795، وهي الفترة التي سيطرت فيها بولندا على أراضٍ من أوكرانيا وبيلاروسيا، وهناك يقين لدى البولنديين بأن روسيا حالت دون تحول بولندا إلى إمبراطورية تمتد من شرق أوروبا ووسطها حتى حدود الصين شرقًا، وأن روسيا كانت السبب وراء اختفاء “الدولة البولندية” الأولى من الخريطة العالمية 125 عامًا منذ عام 1795، حتى عودة الدولة الثانية لبولندا إلى الخريطة الدولية بموجب اتفاقية فرساي عام 1919.
على الجانب الآخر، ظل لينين ينظر إلى بولندا باعتبارها “العدو اللدود” التي تمنع الاتحاد السوفيتي من التوسع غربًا، ويعتبرها “العقبة الكبرى” في طريق انتقال الشيوعية إلى وسط أوروبا وغربها.
تمتد الحدود البولندية الأوكرانية إلى نحو 500 كيلومتر، وهو ما جعل هذه الحدود “الرقم الصعب” في كل ما يصل إلى أوكرانيا من سلاح وذخيرة، ومساعدات مدنية وعسكرية، كما أن بولندا تقدم نفسها “كقاعدة متقدمة” للناتو تجاه الحدود الروسية، وفي سبيل ذلك عمقت وارسو علاقاتها بواشنطن قبل الحرب الروسية الأوكرانية بسنوات؛ مما جعل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب يسعى إلى نقل 9500 جندي أمريكي من ألمانيا إلى بولندا، كما أن بولندا كانت المحطة التي أراد البنتاجون أن ينقل إليها “القنابل النووية التكتيكية” بعد أن رفضت مستشارة ألمانيا السابق أنجيلا مركل نشر مزيد من القنابل النووية من طراز “بي 61-12” على الأراضي الألمانية، وتعتقد بولندا أن هناك حربًا قادمة مع روسيا؛ لذلك قامت وارسو بخطوات غير مسبقة، ومنها:
أولًا: إنفاق عسكري غير مسبوق
تؤكد الأرقام أن بولندا من أوائل دول حلف الناتو التي أنفقت 2 % من الناتج القومي على الشؤون الدفاعية، واشترت نحو 1000 دبابة من كوريا الجنوبية بقيمة 5.8 مليار دولار، ويتفاوض الطرفان على صفقة ضخمة بـ15 مليار دولار، تشمل طائرات كورية جنوبية “أسرع من الصوت”، وقبل الحرب الروسية الأوكرانية اشترت وارسو دبابات أبرامز الأمريكية بنحو 6 مليارات دولار، كما تعاقدت على كميات كبيرة من دبابات ليوبارد الألمانية، وتشالنجر البريطانية، وكل هذا بهدف إحلال الدبابات الغربية الجديدة محل الدبابات السوفيتية القديمة، كما كانت بولندا من أوائل دول “الجناح الشرقي” في حلف الناتو التي تشتري منظومات الدفاع الجوي الأمريكية الأكثر تطورًا، مثل باتريوت عام 2018 بنحو 5 مليارات دولار، وأصبحت بولندا منذ عام 2019 قاعدة رئيسة لطائرات “إف 35” الأمريكية بعد شراء صفقة ضخمة ضمت 32 طائرة من هذا الجيل، وقبل كل ذلك كانت وارسو سباقة إلى نشر منظومات الدفاع الجوي الأمريكية في أراضيها مع رومانيا منذ عام 2007.
تقود بولندا “مجموعة بودابيست” التي تضم 9 دول في شرق أوروبا ضد روسيا، وهي دول بحر البلطيق الثلاث: ليتوانيا، وإستونيا، ولاتفيا، بالإضافة إلى المجر، وبلغاريا، ورومانيا، والتشيك، وسلوفاكيا، وتحاول وارسو أن تجعل من الدول التسع ” كتلة واحدة”، و”حائط صد” أمام روسيا؛ لأن بولندا تعتقد أن مواقف دول أوروبا ووسطها وجنوبها، مثل ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، لا تتفق مع رؤيتها بشأن “الخطر الروسي”، فلا تزال ألمانيا وفرنسا تراهنان على “مساحة مشتركة” مع روسيا، لكن بولندا تريد قطيعة كاملة مع روسيا، وأسهم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب في بروز هذه الأيديولوجيا؛ لأنه كان ينسق مع بولندا ودول شرق أوروبا أكثر بكثير من سعيه إلى تعميق العلاقات مع دول وسط أوروبا وغربها، ولهذا تنظر بولندا إلى “مجموعة بودابيست” بأنها الدول التي لديها إرادة حقيقية لمواجهة روسيا، ومن هنا كانت بولندا تصر على أن الدعم العسكري الأمريكي والبريطاني، وكل خطط “حلف الناتو”، يجب أن تركز على الجناح الشرقي من الحلف الذي تمثله مجموعة بودابيست، ودائمًا ما كانت بولندا تتهم الرئيسين جورج بوش الابن وأوباما بأنهما أهملا الجناح الشرقي للناتو.
حاولت روسيا أن تبني علاقات إيجابية مع بولندا؛ ولذلك اعترفت موسكو قبل نحو 13 عامًا بمذبحة “كاتين”، التي سقط فيها نحو 22 ألف بولندي على يد الشرطة السوفيتية عام 1940، لكن بداية من عام 2014، وبسبب رفض وارسو استعادة موسكو شبه جزيرة القرم، عقدت بولندا سلسلة من الاتفاقيات لاستضافة قوات “الناتو” في بولندا، وفي دول الجوار، حيث وصل عدد القوات الأمريكية في أوروبا إلى نحو 100 ألف جندي، وباتت بولندا مع ألمانيا ودول بحر البلطيق الثلاث تشكل النسبة الأكبر في استضافة هذه القوات، وليس فقط استضافة القوات والقواعد العسكرية الأمريكية، بل يوجد في بولندا قوات أخرى من حلف “الناتو”، مثل القوات البريطانية، كما تحولت بولندا إلى ساحة لإجراء المناورات السنوية للناتو، بالقرب من الأراضي الروسية، مثل مناورات “الرمح الثلاثي- 18″، التي جرت عام 2018، و”نسيم البحر- 2021” في البحر الأسود، ووجدت بولندا دعمًا كبيرًا، سواء من الولايات المتحدة أو حلف الناتو، في خطواتها ضد موسكو، منها منح الولايات المتحدة البولنديين حق دخول الأراضي الأمريكية دون تأشيرة، كما يعيش نحو 10 ملايين أمريكي من أصول بولندية في الولايات المتحدة.
رغم الخلافات بشأن صادرات الحبوب، والتلاسن بين حكومتي وارسو وكييف، تظل بولندا هي “الجسر الأهم” لتوصيل كل شىء غربي، ومن “حلف الناتو”، إلى أوكرانيا؛ فبولندا هي التي استقبلت ملايين الأوكرانيين على أراضيها، كما أن كل المساعدات الاقتصادية والعسكرية تمر من الحدود البولندية الأوكرانية إلى كييف، وأدت بولندا الدور الأهم في صمود أوكرانيا حتى الآن أمام روسيا، وهناك تقديرات تقول إن بولندا شريك حقيقي لأوكرانيا في كل ما تدعيه كييف من خطوات في الحرب الروسية الأوكرانية، كما أن بولندا منفذ لكثير من الصادرات الأوكرانية، خاصة بعد تجميد اتفاقية البحر الأسود لتصدير الحبوب في يوليو الماضي.
مع أن “ممر سوفالكي” هو الممر الوحيد الذي يربط بين دول بحر البلطيق الثلاث وباقي أراضي حلف “الناتو” في أوروبا، فإن بولندا ترى أنها يمكن أن تؤثر سلبًا في وضعية “ممر سوفالكي” الذي يصل طوله إلى نحو 100 كيلومتر، ويربط بين الأراضي الروسية ومقاطعة كالينجراد على بحر البلطيق، وحاولت بولندا منع تدفق الحديد والأسمنت من روسيا إلى كالينجراد عبر “ممر سوفالكي” الذي يفصل أيضًا بين بولندا وليتوانيا، كما يفصل بين بيلاروسيا ومقاطعة كالينجراد، لكن الرد الروسي الصارم جعل بولندا تتراجع عن هذه الخطوة، خاصة في ظل وجود نحو 15 ألف جندي روسي قريبًا من سوفالكي في مقاطعة كالينجراد التي تحولت بعد الحرب الروسية الأوكرانية إلى قاعدة روسية متقدمة لكل الأسلحة الإستراتيجية، والأسرع من الصوت.
بعد فشل الغرب في إثارة “ثورة ملونة” في بيلاروسيا، حاولت بولندا تهديد الحدود البيلاروسية، وهي حدود روسية في ظل “دولة الاتحاد” التي تجمع روسيا الاتحادية مع بيلاروسيا؛ لذلك قامت روسيا بخطوتين كبيرتين؛ الأولى: نقل جزء من مقاتلي فاغنر إلى بيلاروسيا، وغالبية هؤلاء يتمركزون بالقرب من الحدود البولندية البيلاروسيىة، كما نشرت روسيا صواريخ نووية في بيلاروسيا، فالمعروف أن بيلاروسيا كانت دولة نووية حتى عام 1994، عندما وقعت على “اتفاقية بودابيست” التي نزعت السلاح النووي من بيلاروسيا، وأوكرانيا، وكازاخستان، ونُقِلَ إلى روسيا، ومع تصاعد الخلاف البيلاروسي البولندي أعادت روسيا نشر الصواريخ والقنابل النووية في بيلاروسيا، خاصة أن الرئيس البيلاروسي لوكاشينكا لم يُزِل البنية التحتية للأسلحة النووية عندما نُقِلَت إلى روسيا عام 1994.
المؤكد أننا أمام فصل جديد من الصراع البولندي الروسي، تعززه شهية الناتو والولايات المتحدة في خلق مزيد من الصراعات والخلافات بين روسيا وأقرب جيرانها، لكن المؤكد أيضًا أن الأمة الروسية التي استطاعت أن تحافظ على نفسها بعد “الحرب الموسكوفية” منذ نحو 4 قرون ماضية، تجعل فكرة تفكيك روسيا، وتوزيع أراضيها على بولندا ودول بحر البلطيق، كما حدث أيام الكومنولث البولندي الليتواني، أمرًا يصعب تصديقه، في ظل امتلاك روسيا أكبر مخزون من الأسلحة النووية، وقدرتها على التعامل مع كل إفرازات الحرب في أوكرانيا وتحدياتها.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير