مقالات المركز

روسيا لن تتوقف في أوكرانيا حتى تنجز المهام


  • 20 نوفمبر 2025

شارك الموضوع

بداية العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا كانت واحدة من أكثر اللحظات حساسية في التاريخ الروسي المعاصر، وقرار الرئيس فلاديمير بوتين إطلاقها لم يكن قرارًا سهلًا على الإطلاق، بل يمكن القول إنه شكّل نقطة تحول عميقة في مسار السياسة الروسية الحديثة، إذ جمع بين الاعتبارات الأمنية والعسكرية والإنسانية والسياسية في آنٍ واحد. كان القرار نتيجة تراكم طويل من التوترات بين موسكو والغرب، وتحديدًا مع حلف الناتو، الذي توسع تدريجيًّا نحو الحدود الروسية، رغم الوعود القديمة بعدم القيام بذلك. فيما يتعلق بروسيا، لم يعد الأمر يتعلق فقط بجغرافيا سياسية أو بخلافات دبلوماسية؛ بل بمسألة أمن قومي تمس وجود الدولة ذاته، وبحماية الملايين من السكان الناطقين بالروسية في شرق أوكرانيا الذين عاشوا سنوات تحت ضغط الحرب الأهلية، والصدامات الداخلية.

مصطلح “العملية العسكرية الخاصة” لم يكن وليد اللحظة؛ بل استخدمته موسكو سابقًا خلال الحرب الشيشانية في بداية الألفية الجديدة، ثم لاحقًا في سوريا عام 2015، حين قررت روسيا التدخل لمحاربة الإرهاب ودعم نظام الأسد في مواجهة المعارضة السورية المسلحة. هذا المصطلح يعكس فلسفة روسية واضحة في التعامل مع النزاعات، تقوم على فكرة أن الهدف ليس الاحتلال أو التدمير؛ بل تحقيق أهداف محددة ضمن إطار زمني وعملياتي مضبوط، دون الدخول في حرب شاملة على النمط الكلاسيكي. إعلان عملية عسكرية يعني -من الناحية القانونية والسياسية- أن روسيا لا ترى نفسها في حالة حرب مع الشعب الأوكراني؛ بل في مواجهة مع البنية السياسية والعسكرية التي تهدد أمنها القومي.

كما أن هذا المفهوم يحمل أيضًا بعدًا رمزيًّا مهمًّا؛ فهو يسمح بإدارة الصراع ضمن حدود معينة من حيث استخدام القوة، وبما يتيح الحفاظ على قنوات الاتصال الدبلوماسي مفتوحة مع الأطراف الدولية، ويجنب التصعيد إلى مستوى حرب عالمية. في الوقت نفسه، يعكس هذا المصطلح نهج بوتين القائم على الانضباط والبراغماتية: استخدام القوة حين تصبح ضرورية، ولكن في إطار محسوب ومدروس، بعيدًا عن الانفعال أو التسرع.

من وجهة نظر روسية، العملية العسكرية الخاصة ليست مجرد صراع جغرافي؛ وإنما صراع من أجل الهوية والمستقبل، ومن أجل وضع حد لنظام عالمي أحادي القطب فرض هيمنته بعد انهيار الاتحاد السوفييتي؛ لذلك فإن هذا القرار -رغم صعوبته وتداعياته- يُنظر إليه داخل روسيا على أنه خطوة تاريخية لإعادة التوازن الدولي، ولتأكيد أن لروسيا كلمتها ومصالحها التي لا يمكن تجاهلها. لقد أصبح مصطلح “العملية العسكرية الخاصة” رمزًا لمرحلة جديدة من الوعي السياسي الروسي، التي ترى في الدفاع عن النفس وعن العالم المتعدد الأقطاب واجبًا لا يمكن التراجع عنه.

روسيا لن تتوقف في أوكرانيا حتى تنجز المهام التي حددتها العملية العسكرية الخاصة. هذا الموقف لم يكن مجرد تصريح سياسي؛ بل يعكس رؤية إستراتيجية متكاملة تتبناها القيادة الروسية منذ اليوم الأول لانطلاق العملية في فبراير (شباط) 2022؛ فما يجري في أوكرانيا ليس في نظر موسكو حربًا تقليدية على قطعة أرض؛ بل معركة وجود تحدد مستقبل الأمن القومي الروسي ومكانة روسيا في النظام العالمي الجديد.

منذ البداية، أوضحت القيادة الروسية أن أهداف العملية ليست احتلال أوكرانيا؛ بل ضمان حيادها، ومنع تحولها إلى قاعدة عسكرية غربية على حدود روسيا، وحماية سكان دونباس الذين عانوا القصف والتمييز سنوات طويلة؛ لذلك فإن وقف العملية قبل تحقيق هذه الأهداف يعني ترك التهديدات قائمة، والسماح للغرب باستخدام الأراضي الأوكرانية مجددًا كأداة ضغط على روسيا، وهذا ما لن تسمح به موسكو مهما كانت الضغوط الدولية أو الإعلامية.

يواصل الجيش الروسي -رغم العقوبات ومحاولات العزلة- تنفيذ مهامه بخطوات ثابتة ومدروسة، معتمدًا على تكتيكات جديدة جمعت بين الحرب الإلكترونية، والاستخبارات الدقيقة، والتقدم الميداني المحسوب. روسيا لا تسعى إلى إطالة أمد الصراع، لكنها في الوقت نفسه ترفض أي حلول جزئية، أو تسويات سطحية لا تضمن أمنها الإستراتيجي على المدى الطويل.

من وجهة نظر الكرملين، تحقيق أهداف العملية الخاصة يعني إعادة رسم التوازنات في أوروبا الشرقية، وضمان ألا تكون أوكرانيا -مرة أخرى- منصة للعداء ضد السياسات الروسية؛ لذلك فإن موسكو ترى التراجع أو التوقف قبل إتمام المهام خيانة لتضحيات الجنود ولأمن البلاد. الرسالة الروسية واضحة: لا يمكن أن تكون هناك أوكرانيا معادية على حدود روسيا، ولا يمكن للغرب أن يفرض على موسكو واقعًا يتعارض مع مصالحها الحيوية.

إن استمرار العملية العسكرية الخاصة حتى تحقيق أهدافها الكاملة هو إعلان عن تصميم روسيا على الدفاع عن سيادتها، وعن رؤيتها لعالم متعدد الأقطاب، حيث لا يُسمح لأي قوة واحدة بفرض إرادتها على الآخرين؛ ولهذا السبب فإن روسيا لن تتوقف في أوكرانيا حتى تُنجز مهمتها كاملةً، وتضمن أن الأمن في أوروبا لن يُبنى بعد الآن ضدها، بل معها، وبمشاركتها الفعلية في صياغة مستقبل العلاقات الدولية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع