مقدمة
يكتسب الكتاب الأبيض الصيني للأمن القومي الذي صدر في مايو (أيار) 2025 أهمية استثنائية لأنه جاء في لحظة تحولية تشهد تأكل مرتكزات النظام الدولي الليبرالي القائم على القواعد. الكتاب يكشف عن تصور بكين لمصادر التهديد، وأولويات الحماية، وشبكة الشركاء ومن بينهم روسيا. السؤال المركزي الذي يفرض نفسه هنا: ما موقع روسيا في هذا التصور؟ هل تُعدّ شريكًا إستراتيجيًّا جوهريًّا أم مجرد أداة توازن ظرفي تُستخدم عند الحاجة؟
إن الرهان الأساسي الذي أقدمه لا يقوم على تفسير العلاقة من منظور التحالفات التقليدية؛ بل على اختبار منطق الشراكة التعددية المحسوبة، الذي تتبناه بكين بوصفه بديلًا عن المنظومة النمطية للتحالفات، فالصين لا تسعى إلى ضمّ موسكو إلى معسكرها؛ بل إلى هندسة علاقة تحقق التوازن مع واشنطن دون أن تُقيد استقلاليتها. أما روسيا، التي تواجه حصارًا غربيًا غير مسبوق، فهي تحاول إعادة بناء مكانتها الدولية من خلال التموضع ضمن المشروع الصيني، دون أن تخسر السيادة الكاملة.
سأتناول هذا الموضوع في خمسة محاور مترابطة. تبدأ بتحليل تموضع روسيا في خطاب الصين الأمني الرسمي، ثم أستعراض البنية القيمية والسياسية التي تحكم العلاقة الثنائية، فطبيعة الدور الوظيفي الروسي في الإستراتيجية الصينية، فالسيناريوهات المحتملة لمستقبل العلاقة، وأخيرًا خاتمة تسعى إلى التقاط المعنى الإستراتيجي العميق لهذا التلاقي الحذر بين دولتين تتقاطعان في الأهداف، وتختلفان في المسارات.
يتسم الكتاب الأبيض الصيني للأمن القومي بلغة منضبطة وحيادية، تخفي خلفها سردية موجهة بعمق. فرغم تأكيده المتكرر مبدأ السيادة وعدم التدخل، فإنه لا يتورّع عن توصيف العالم على أنه فضاء متوتر تشكّله محاولات “الهيمنة الأحادية”، وتفكيك منظومات الأمن الجماعي.
الوثيقة تبني مقاربتها للأمن القومي على أربعة أعمدة مركزية:
على الرغم من وصف العلاقة الروسية- الصينية بأنها “شراكة إستراتيجية شاملة في العصر الجديد”، فإن الوثيقة توضح -بعبارات صريحة- أن هذه العلاقة “تقوم على عدم التحالف، وعدم المواجهة، وعدم استهداف طرف ثالث، ولا تتأثر بأي طرف خارجي”. هذا الإطار المفاهيمي يُبعد العلاقة عن منطق التحالفات التقليدية، ويعكس حرص بكين على إبقائها ضمن هامش براغماتي مرن.
وداخل هذا الإطار، تأتي الإشارة إلى روسيا في سياق العلاقات الثنائية التي “تزداد عمقًا وتُعدّ نموذجًا للتعامل الودي بين الدول الكبرى المتجاورة”، لكنها تظل محاطة بلغة عائمة لا ترقى إلى مستوى الالتزام.
المثير للانتباه هو أن الوثيقة تمنح أولوية تحليلية في فقراتها التفسيرية للولايات المتحدة بوصفها التحدي الأول، وللهند بوصفها القطب الإقليمي المنافس في آسيا، وللاتحاد الأوروبي بوصفه شريكًا اقتصاديًّا في حالة تقلب سياسي. أما اليابان فإنها تُذكر بوصفها مصدرًا محتملًا للتوتر في الملف البحري. في المقابل، تظهر روسيا في الوثيقة بوصفها طرفًا يتم التوافق معه بشأن قضايا الهيمنة والمواجهة الرمزية مع الغرب، لكن دون أن يُمنح لها موقع بنيوي في منظومة الأمن القومي الصيني. يغيب عن الوثيقة أي توصيف لوضع روسيا في آسيا الوسطى أو القوقاز، ولا تُطرح بوصفها مصدرًا للاستقرار أو التهديد في تلك المناطق؛ ما يدل على رغبة صينية في تحاشي التعقيدات الجيوسياسية التي قد تفرضها العلاقة مع موسكو في ساحات التداخل.
وتكتفي الوثيقة بإشارات عامة إلى أهمية “تعددية الأقطاب”، و”التفاهم المتبادل مع القوى الصاعدة”، وهي إشارات يُمكن أن تنطبق على عدة دول، وليس روسيا حصرًا. وهذا يتسق مع إستراتيجية الصين العامة القائمة على ما يُعرف بـ”الشراكة الانتقائية” التي تسمح بالتعاون المصلحي دون التقيد بالتزامات أيديولوجية أو عسكرية.
وفي المقابل، يشير تقرير “آفاق النظام العالمي المتعدد الأقطاب” الصادر عن معهد الاقتصاد والعلاقات الدولية (IMEMO) في موسكو، إلى أن العلاقة مع الصين “لا يجب أن تُحوّل إلى غطاء للتبعية الإستراتيجية، بل أن تُوظّف كوسيلة لإعادة التموضع الروسي داخل منظومة متعددة، لا ثنائية”، المقاربة الروسية -بعكس الوثيقة الصينية- تسعى إلى ترسيخ روسيا بوصفها قطبًا مستقلًا، لا بوصفها وظيفة جيوسياسية ضمن حسابات بكين الإستراتيجية.
للوهلة الأولى، تبدو العلاقة بين بكين وموسكو محكومة بمنطق نَفعي، تغذّيه معارضة مشتركة للهيمنة الأمريكية والعقوبات الغربية. لكن القراءة الأعمق تكشف عن تقاطع رمزي بين سرديتين قوميتين تعيدان تعريف السيادة والشرعية الدولية من خارج النسق الليبرالي التقليدي.
تؤكد الوثيقة الصينية أن “الصين لا تؤمن بمنطق الهيمنة، ولا تسعى إلى استبدال هيمنة بهيمنة أخرى، بل ترفض منطق الأمن القائم على تحالفات مغلقة، وتسعى إلى بناء أمن شامل ومشترك وتعاوني ومستدام”. هذه الصياغة تعكس تحوّلا نظريًّا في التصور الصيني للأمن، وهو تحوّل يتقاطع مع الرؤية الروسية في نقد البنية الأمنية الغربية المتمركزة في واشنطن وبروكسل.
الباحث الصيني لوان وين، أحد منظّري التصور الأمني الجديد في الصين، يؤكد أن “نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد ضامنًا لأمن الصين؛ بل أصبح أداة احتواء ضد نهوضها السلمي”. وبنبرة متقاربة، يرى الأكاديمي الروسي يفغيني سافوستيانوف أن “الشرعية العالمية اليوم تُبنى في واشنطن، وتُفرض بالعقوبات لا بالحقائق”. في هذا التقاطع بين الوعي بالخطر المشترك والرفض القيمي للغرب، تُصاغ أساسات الشراكة الرمزية بين موسكو وبكين، لا بوصفها حلفًا؛ بل تحالف سرديات مضادة للمنظومة الغربية.
لكن هذا التقارب لا يعني تماثلًا في المنطلقات، فمفهوم السيادة مثلًا، يُقرأ في موسكو انطلاقًا من موقعها بوصفها قوة عسكرية- نووية تريد الحفاظ على التوازن مع الغرب، ولو بالقوة. أما في بكين، فالسيادة ترتبط برفض التدخل في الشأن الداخلي، خاصةً في قضايا تايوان وشينجيانغ، وبتثبيت شرعية التفوق التكنولوجي- الاقتصادي بوصفه مصدرًا أمنيًّا مشروعًا. وفي موضع صريح من الوثيقة، تُذكّر القيادة الصينية بأن “السيادة الوطنية، والوحدة، والأمن، تمثل جوهر المصالح الحيوية التي لا يمكن المساومة عليها تحت أي ظرف” .
هذا الاختلاف في المعنى العميق للسيادة يفسّر -جزئيًّا- تباين أولويات البلدين: موسكو تسعى إلى حماية مجالها الحيوي القريب، في حين تتطلع بكين إلى حماية سلاسل توريدها العابرة للقارات، وضمان استقرار الأسواق؛ ومن هنا، فإن ما يبدو تقاربًا أمنيًّا هو في الحقيقة توافق مصلحي ضمني على إبقاء الفوضى الجيوسياسية تحت السيطرة، وليس اندماجًا في رؤية موحدة للعالم.
ضمن هذا السياق، تُقدّم نظرية “الاستقرار عبر التعدد” التي يطرحها ألكسندر لومانوف، الباحث البارز في أكاديمية العلوم الروسية، إطارًا لشرح النهج الصيني، فالصين لا تحتاج إلى حلفاء عسكريين؛ بل إلى “موزّعي توازن” يتيحون لها التحرك بمرونة في نظام دولي غير مستقر. وروسيا بما تمتلكه من موارد عسكرية، وموقع إستراتيجي، وتاريخ صدامي مع الغرب، تؤدي وظيفة هذا “الوازن”، دون أن تصبح جزءًا من تحالف مقيد ملزم بتكاليف سياسية وعسكرية.
غير أن هذه الرؤية الصينية لا تلقى ترحيبًا تامًّا في موسكو. تقارير صادرة عن معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية (MGIMO)تشير إلى وجود “رغبة روسية واضحة في ترقية العلاقة إلى مستوى تحالف صريح، لا لأنها خيار اضطراري؛ بل لأنها ركيزة لمشروع أوراسي طويل الأمد”. ووفقًا لأحد محللي المعهد فإن “التحالف مع الصين ليس تكتيك عزلة؛ بل أداة لإعادة تعريف روسيا بوصفها قوة تربط بين الشرق والغرب”.
خبراء نادي فالداي، الذي يُعد منصة فكرية قريبة من الكرملين، يحذّرون من المبالغة في تقدير الموقف الصيني، ويشيرون إلى أن “بكين لا ترى في العلاقة سوى واجهة خطابية لتعزيز موقعها في مواجهة الغرب، ولا تنوي تقاسم القيادة مع أي طرف”.
القيمة الرمزية للعلاقة لا تُختزل في الحسابات الأمنية فقط، فالخطاب التاريخي المشترك يؤدي دورًا تعبويًّا عابرًا للحسابات. من خلال استدعاء الذاكرة المشتركة للحرب العالمية الثانية، والحديث المتكرر ضد إعادة كتابة التاريخ، يُعاد تشكيل رابط نفسي- ثقافي بين الشعبين، يوظَّف لتعزيز الشعور بشرعية الدور العالمي لكل طرف. وفي إحدى فقرات الوثيقة، تؤكد الصين أن “الحفاظ على ذاكرة الانتصار التاريخي هو جزء من الدفاع عن نظام عالمي قائم على العدالة، لا على إعادة تفسير القوة”.
كما أن رمزية مقاومة الولايات المتحدة كوّنت سردية متداخلة بين موسكو وبكين، لكنها تنطوي على اختلافات مهمة: روسيا تتعامل مع الولايات المتحدة كعدو إستراتيجي مباشر، أما الصين فتسعى -حتى الآن- إلى إدارة التوتر. الوثيقة نفسها تصف العلاقة مع أمريكا بأنها “علاقة كبرى لا ينبغي أن تُبنى على الهيمنة؛ بل على الاحترام والتعايش”، ما يشير إلى رغبة صينية في تجنّب المسار الروسي في المواجهة المباشرة مع الغرب.
بناء على ما سبق، لا يمكن القول إن العلاقة الروسية- الصينية تقوم على “قيم مشتركة” بالمعنى المعياري؛ بل هي علاقة تؤطّر المصالح ضمن سرديات قيمية لتكتسب شرعية خارج النسق الغربي. هذا التداخل بين المصلحة والرؤية يجعل العلاقة متماسكة رمزيًّا، ومرنة وظيفيًّا، لكنها أيضًا هشّة بنيويًّا إذا اختل التوازن.
في الخطاب الأمني الصيني، تُصنّف روسيا ضمن “الفاعلين الضروريين” الذين تتيح لهم ظروفهم الجيوسياسية دوراً في خريطة التوازن العالمي. هذا التموضع، وإن بدا تكريميًّا في الظاهر، يخفي رؤية وظيفية تبقي على قدر من التباعد الإستراتيجي، وترفض التورط في “تشابك أمني مباشر”.
يتجلى ذلك في مبدأ “الأمن المشترك والمتوازن” الذي تطرحه الصين كبديل للأحلاف التقليدية، والنماذج الاستقطابية، وبموجب هذا المبدأ تضطلع روسيا بدور مزدوج:
وفي هذا السياق، يلفت قسم الدراسات الصينية في أكاديمية العلوم الروسية إلى أن “الصين باتت ترى في روسيا شريكًا ميدانيًّا أكثر منه موجهًا للمجال”، وتوضح أن “هيمنة الصين الاقتصادية في آسيا الوسطى تُقابل بتسامح روسي صامت، ما دامت الصين لا تسعى إلى تقويض الدور الأمني الروسي في الجمهوريات السوفيتية السابقة”. هذه المعادلة تجعل موسكو قوة ميدانية ضمن مشروع الهيمنة الاقتصادية الصيني، لا شريكًا متكافئًا.
تيموفي بورداشيف، مدير البرامج في نادي فالداي الروسي، وخبير في العلاقات الدولية، يطلق على هذه العلاقة مصطلح “التفاهم غير المعلن” الذي يعني أن روسيا تؤدي دور القوة الأمنية، في حين تتولّى الصين أدوار التمويل والبناء والربط اللوجستي. هذه القسمة غير المكتوبة تتكرّس تدريجيًّا في مشروعات مثل “مبادرة الحزام والطريق”، حيث تتولى الشركات الصينية المشروعات الكبرى في آسيا الوسطى، فيما تبقى موسكو الضامن الأمني الضمني لاستقرار المجال. وتُعبّر الوثيقة عن هذا النمط بقولها: “في التعاون الإقليمي، نؤمن بتقاسم الأدوار وفق ما يخدم الاستقرار المتبادل، لا احتكار النفوذ”.
لكن هذه القسمة لا تخلو من اختلال وظيفي؛ فالهيمنة الاقتصادية الصينية مقابل الهشاشة المالية الروسية تُعيد إنتاج نوع من التبعية غير المعلنة، وهو ما يفسر سعي موسكو الدائم إلى الظهور بمظهر المبادِر في العلاقات، من خلال استدعاء خطاب مقاومة الغرب؛ للحفاظ على هامشها الرمزي.
وأهم من ذلك، أن هذه العلاقة الوظيفية لا تُبنى على تكامل مؤسسي؛ بل على تكيّف ظرفي، فالصين تفضّل توزيع المهام الأمنية دون تأسيس بنية أمن جماعي شاملة، على غرار الناتو، وهذا ما توضحه الوثيقة عند قولها: “نرفض تشكيل تكتلات أمنية ملزمة، ونؤمن بأن الأمن الحقيقي ينبع من الاحترام المتبادل، لا من الالتزامات الإلزامية”.
حتى على مستوى التعاون العسكري، فإن السقف الصيني لا يتجاوز حدود نقل خبرات دفاعية غير استراتيجية، وتنسيق بحري- جوي ظرفي في بعض المسارح (البحر الأبيض، بحر اليابان). التعاون يبقى وظيفيًّا، محسوبًا، ومحدود النطاق، ولا يرقى إلى مستوى بناء “نظام دفاعي مشترك”.
أما في الملفات الساخنة، كأوكرانيا أو تايوان، فبكين تتجنّب ربط مواقفها بمواقف موسكو. لا دعوات مشتركة، لا مواقف موحّدة؛ بل بيانات منفصلة ضمن خطاب سيادي يحافظ على الاستقلالية، فالصين ترفض أن تُعامل روسيا بوصفها “سقفًا” أمنيًّا، لكنها ترحّب بها كـ”مُخمّد” للضوضاء الدولية. وقد جاء في الوثيقة: “ندعم كل الجهود السلمية لتسوية النزاعات، لكننا نحتفظ بمواقفنا المستقلة وفقًا لمصالحنا الوطنية”، في إشارة واضحة إلى مقاربتها الحذرة تجاه الحرب الأوكرانية.
في المحصلة، تُعامِل الصين روسيا بوصفها فاعلًا وظيفيًّا، قويًّا بما يكفي لإرباك الغرب، ضعيفًا بما يكفي لعدم تهديد الريادة الصينية، ومستقلًا بما يسمح له بتحمّل التكلفة السياسية للمواقف الحادّة، لكنها لا تنظر إليها بوصفها شريكًا إستراتيجيًّا على المدى الطويل؛ بل بوصفها عنصرًا من عناصر”الإدارة الذكية للفوضى الدولية”.
في ضوء التناقض البنيوي بين الأهمية الرمزية لروسيا في خطاب الصين العالمي، وهشاشة التعويل الإستراتيجي عليها، يمكن استشراف ثلاثة مسارات مستقبلية للعلاقة الثنائية. هذه السيناريوهات لا تقوم على التحولات الفجائية، بل على تراكمات تدريجية تعكس مبدأ “إدارة العلاقات بدون اندماج”، الذي تتبناه بكين، وميل موسكو إلى تضخيم الطابع الإستراتيجي للعلاقة بحثًا عن توازن مضاد للغرب.
السيناريو الأول: الشراكة المستقرة.. توازن بلا اندماج
وهو السيناريو المرجّح على المدى القريب. تتواصل فيه موسكو وبكين بشأن:
وهو ما يتماشى مع ما تؤكده الوثيقة الصينية “نرفض ممارسة الضغوط عبر العقوبات، وندعم نظامًا دوليًّا قائمًا على تعددية الأقطاب والعدالة في العلاقات الدولية.”
موسكو من جهتها تقبل بهذا النمط ما دام تضمّن دعمًا سياسيًّا في المحافل الدولية، ومجالًا للتنفس الاقتصادي عبر بوابة السوق الصينية.
نقطة الضعف هذا السيناريو تكمن في هشاشته؛ لأن أي تغيّر في المزاج السياسي الصيني، أو ضغط أمريكي مباشر، قد يؤدي إلى تقليص الانخراط مع موسكو دون تبعات تُذكر لبكين. كما أن استمرار الحرب في أوكرانيا، أو تصعيد روسي غير منضبط، قد يدفع الصين إلى التراجع دون الحاجة إلى تبرير علني.
السيناريو الثاني: التمأسس الجزئي.. تنسيق ما دون التحالف
يتحقق هذا السيناريو في حال تصاعد التوتر بين الصين والولايات المتحدة، واتساع دائرة العقوبات الغربية على الطرفين. عندئذ، قد ترى بكين في موسكو شريكًا ضروريًّا لتعزيز أدواتها الدفاعية والمالية خارج المنظومة الغربية. سماته تشمل:
هذا السيناريو يمثل تحوّلًا في نوعية العلاقة، من تقاطع مصالح إلى مستوى أدنى من التحالف، دون أن يُعلن رسميًّا، لكنه يظل محفوفًا بالمخاطر؛ لأن الصين لا ترغب في تحويل روسيا إلى عبء، ولا تسعى إلى تحويل الصراع الأوكراني إلى قضية صينية. كما أن غياب أي إشارة في الوثيقة إلى نية بناء “هيكل أمني مشترك” يعزز فرضية أن “التمأسس” سيبقى محدودًا في نطاقه الزمني والوظيفي.
السيناريو الثالث: الانفصال الصامت.. تراجع منضبط
هذا السيناريو، وإن بدا أقرب إلى الهواجس منه إلى الواقع، لكنه يشكّل الاحتمال الأقل تكلفة لبكين إذا ما تحوّلت موسكو إلى عبء جيوسياسي يصعب تحمّله. يتم ذلك من خلال:
وقد ورد في الوثيقة أن “الصين تُعيد ترتيب أولوياتها وفقًا لتغير موازين القوى، وتتكيف بمرونة مع تحولات البيئة الدولية لضمان أمنها الوطني في المقام الأول”.
هذا التعبير يفتح الباب أمام انسحاب ناعم من علاقات لم تعد تُنتج فائدة إستراتيجية مباشرة، دون اللجوء إلى القطيعة أو المواجهة.
المفارقة أن هذا السيناريو لا يتضمن قطيعة معلنة؛ بل انسحابًا مبررًا بـ”إعادة ترتيب الأولويات”، أو “التكيّف مع المتغيرات”، وقد يترافق مع تعزيز العلاقات الصينية مع دول آسيا الوسطى، مما يعمّق شعور روسيا بالتهميش.
تذكّر الوثيقة هنا أن “بناء شبكة شراكات متنوعة يضمن أمن الصين أكثر من الارتهان بعلاقة ثنائية غير متوازنة”، في إشارة ضمنية إلى نهج تقليص الاعتماد.
جدول مقارن تقديري بين السيناريوهات
السيناريو | درجة التقارب السياسي | مستوى الاعتماد الاقتصادي | الاحتمالية المتوسطة | التهديدات المحتملة |
الشراكة المستقرة | متوسطة | متوسط | مرتفعة | هشاشة العلاقة، وضعف التنسيق |
التمأسس الجزئي | مرتفعة نسبيًّا | عالٍ في ظل العقوبات | متوسطة | تصعيد غربي، وتورط غير محسوب |
الانفصال الصامت | منخفضة | منخفض | متصاعدة | عزلة روسيا، وفقدان الفاعلية الإقليمية |
السيناريوهات الثلاثة لا تُقاس بمدى “الحميمية” الظاهرة بين الطرفين؛ بل بمدى قدرة كل طرف على إدارة العلاقة دون خسارة استقلاله الإستراتيجي، فالصين -رغم لغة الشراكة- تحرص على إبقاء روسيا ضمن هامش “الوظيفة لا التماهي”، في حين تحاول موسكو تسييل هذه العلاقة سياسيًّا لتعويض عزلة الغرب. وفي غياب صيغة توازن تحمي مصالح الطرفين على نحو متكافئ، تظل العلاقة أقرب إلى منظومة اعتمادية غير متوازنة، قابلة للتعديل في كل لحظة حسب إيقاع بكين.
يكشف تحليل العلاقة الصينية- الروسية عن مفارقة: خطاب مشترك محمّل بشعارات “المصير الواحد”، يقابله تصميم صيني على إدارة العلاقة بمنطق المصلحة الإستراتيجية لا الانجذاب الأيديولوجي.
تُقدّم روسيا في السردية الصينية بوصفها شريكًا يُجسّد مقاومة الهيمنة الغربية، ويضطلع بدور دعائي داعم لنموذج “الاستقرار المتعدد الأقطاب”. هذا الدور -رغم ضبابيته المؤسساتية- له رمزيته في الخطاب العالمي لبكين، حيث يُستخدم لتوسيع حيز المناورة، وتقديم الصين بوصفها قوة توازن، لا تابعًا لقطبية جديدة. وقد شددت الوثيقة على أن “الصين ترفض منطق الحرب الباردة والتحالفات المغلقة، وتسعى إلى بناء نمط جديد من العلاقات الدولية”.
من جهة أخرى، يُظهر السلوك الصيني الرسمي والحذر الدبلوماسي الصارم، أن بكين لا ترى في موسكو شريكًا يُبنى عليه مشروع طويل الأمد، بل فاعلًا وظيفيًّا في الإستراتيجية الصينية: أداة موازنة في البيئة الدولية، لا مركز ثقل في بنية بديلة للنظام العالمي، فالمعيار الصيني في تحديد القيمة الإستراتيجية لأي علاقة لا يقوم على العداء المشترك للغرب فحسب؛ بل على مدى ما تمنحه العلاقة من استقرار وظيفي، وتقاطع اقتصادي آمن، وقدرة على ضبط التكاليف السياسية.
مستقبل العلاقة مرهون بقدرة روسيا على إعادة تعريف موقعها: هل هي شريك ذو ثقل تكاملي، أم مجرّد طرف تابع اقتصاديًّا وعسكريًّا؟ كما يتوقف الأمر على مدى استعداد الصين لتحمّل تكلفة التمدّد الإستراتيجي في بيئة دولية متقلبة، فالصعود الصيني -رغم قوّته- يظل مشروطًا بتجنّب المواجهة الشاملة، والحفاظ على توازن دقيق بين التمدد والمخاطرة.
حدوث تحوّلات داخلية في روسيا، سواء على مستوى النخبة أو البنية الاقتصادية، قد تدخل العلاقة مرحلة جديدة، تتراوح بين تعزيز التنسيق الوظيفي أو الوقوع في مسار الانفصال التدريجي دون صدام. وعلى الأرجح، اللحظة المفصلية القادمة لن تكون حادثًا مفاجئًا؛ بل نتيجة لتراكمات حذرة واستجابات متبادلة لمعادلة تتحكّم فيها بكين.
في تقييم العلاقة الصينية- الروسية، يُظهر الكتاب الأبيض الصيني للأمن القومي منظورًا براغماتيًّا يحكمه ميزان دقيق من التقدير والاحتراز، في حين يميل الخطاب الروسي إلى تضخيم رمزية العلاقة، وتغليفها بمنطق التحالف والشراكة الإستراتيجية الشاملة.
يمكن تلخيص الفارق في العبارة التالية “الصين تقيس العلاقة بوظيفتها، وروسيا بوهم مركزيتها”.
الصين ترى في روسيا شريًكا ظرفيًّا، ضروريًّا في بعض المسارات، لكن غير موثوق به كحليف دائم. أما روسيا فتطمح إلى استثمار العلاقة سياسيًّا ونفسيًّا لتعويض تراجعها الغربي، دون إدراك كافٍ لحجم المسافة التي تفصلها عن حسابات بكين الدقيقة.
الصين: براغماتية مرنة | روسيا: تطلعات رمزية | المحور |
أداة موازنة ظرفية ضمن سياسة “عدم التحالف، وعدم المواجهة، وعدم استهداف طرف ثالث”. العلاقة تكيفية، لا مؤسسية. | تحالف إستراتيجي مضاد للغرب. خطاب سياسي يرى الصين شريكًا في إعادة تشكيل التوازن العالمي. | موقع العلاقة في الإستراتيجية الكبرى |
“المرونة الإستراتيجية والانفتاح المنضبط”. الأولويات: الاستقرار الداخلي، وأمن سلاسل التوريد، وتجنّب النزاعات المباشرة. | “الصدام المحسوب” مع الغرب. توظيف العلاقة مع الصين أداة دعائية لمواجهة الضغوط الغربية. | محددات السلوك الدولي |
دعم سياسي محدود، وتعاون اقتصادي انتقائي، وتنسيق أمني محسوب. الشراكة قائمة على المصالح لا الالتزامات الصارمة. | سعي إلى تحالف شامل قائم على تبادل المنافع. تصطدم بفتور صيني تجاه الانخراط الكامل، خاصة في أوكرانيا والناتو. | طبيعة الشراكة |
توظيف رمزي للعلاقة دون التزامات فعلية. روسيا تُستخدم بوصفها “شاشة توازن”، لا بوصفها “شريكًا مكافئًا”. | تأطير العلاقة في سردية “نظام دولي بديل”. الصين تُقدَّم بوصفها ضامنًا لتعدد الأقطاب، رغم تحفظات بكين. | الرمزية والتوظيف الخطابي |
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.