بعد أن عرضنا علاقات روسيا بأوكرانيا وتركيا وجورجيا، نقدم هنا استكمالًا لعلاقات روسيا بدول البحر الأسود، ولا سيما رومانيا وبلغاريا.
أولًا: رومانيا
كانت رومانيا الحليف الأعلى صوتًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي دعا إلى تعزيز وجوده ونشاطه في منطقة البحر الأسود. في عام 2008، في أعقاب العمليات العسكرية الروسية في جورجيا، ضغطت الحكومة الرومانية على حلف شمال الأطلسي- وكذلك الولايات المتحدة- لإعطاء الأولوية للبحر الأسود.
اعتمدت رومانيا على ثروتها من الغاز الطبيعي في النجاة من التلاعبات الاقتصادية الروسية، فمع استيراد نحو 10% فقط من الغاز الروماني من روسيا، تتمتع أسواق الطاقة الرومانية بدرجة من الاستقلال في مجال الطاقة.
ومن شأن استخراج مزيد من النفط والغاز في البحر الأسود في رومانيا أن يوفر إمدادات إضافية للأسواق الرومانية، والأسواق الإقليمية الأخرى، خاصة بعد أن قطعت روسيا بعض إمدادات الغاز إلى رومانيا في عام 2014 دون تفسير، وهي خطوة يُعتقد أنها كانت ردًا على الدعم الروماني للعقوبات الغربية على روسيا.
من غير المرجح أن تغير الحكومة الرومانية موقفها بشأن تعزيز وجود حلف شمال الأطلسي في البحر الأسود من خلال نهج قائم على الحوافز، فمن الممكن أن تسعى الحكومة الروسية إلى استغلال الخوف بين السكان والحكومة الرومانية لتغيير عملية صنع القرار في رومانيا.
وتنظر رومانيا باستمرار إلى روسيا بوصفها تهديدًا لأمنها ومصالحها الاقتصادية والسياسية، وما زالت رومانيا تشعر بالقلق- على نحو خاص- من الأنشطة الروسية في مولدوفا ومنطقة البحر الأسود، ويعكس موقف الحكومة غالبية الرأي العام الروماني، فقد أظهر استطلاع عام 2016 أن 57% من الرومانيين حدّدوا روسيا على أنها الدولة التي تشكل أكبر تهديد لرومانيا.
وقد أدرج المسؤولون الروس بالفعل تهديدات عسكرية ضد رومانيا في تصريحاتهم العامة؛ فقد حذرت روسيا رومانيا (وكذلك بولندا) أن تجد نفسها في “هدف” روسيا نتيجة لقرارها استضافة البنية التحتية للدفاع الصاروخي الأمريكي. كما ترى رومانيا أنه لا يوجد “يوم واحد دون تحدٍّ” من روسيا في المجال الجوي الروماني، أو المياه الإقليمية، فضلًا عن “التدخل في المنطقة السياسية، والتدخل في شؤون الأقليات… والحرب الاقتصادية”.
ويمكن لمبادرات الطاقة الرومانية في البحر الأسود، بالتعاون مع الشركات الأمريكية، أن تتولى مسؤولية نقل الغاز الروماني إلى أوروبا، وتوفير مزيد من التنوع خارج المصادر الروسية، وهو ما من شأنه أن يجعل رومانيا هدفًا محتملًا للنقد الروسي.
وقد يمثل الوجود والنشاط الروسي في جمهورية ترانسنيستريا الانفصالية المولدوفية مجالًا آخر للضغط القسري على رومانيا، فتصورات التهديد الروماني ترتكز- إلى حد كبير- على التوترات المستمرة منذ قرن من الزمان مع روسيا بشأن التوجه الجيوسياسي لمولدوفا، ووضع ترانسنيستريا، ليُربَط بوضوح بين زيادة رومانيا في الإنفاق الدفاعي والتدخل الروسي في أوكرانيا واحتمال القيام بمزيد من الأنشطة العسكرية في ترانسنيستريا.
ومن شأن التصرفات الروسية في استقرار مولدوفا من خلال الوجود العسكري الروسي في ترانسنيستريا أن يكون لها تأثير في عدم الاستقرار السياسي في رومانيا.
ثانيًا: بلغاريا
اعتبرت بلغاريا نفسها “من أكثر أعضاء الحلف انضباطًا وإخلاصًا”، وليست حصان طروادة لروسيا في الناتو، حيث رحبت ببعض الجهود التعاونية مع حلفائها في حلف شمال الأطلسي، كما أنها تستضيف بانتظام تدريبات وزيارات في البحر الأسود، ومنها مناورات “بريز” السنوية، التي تضم وحدات من بلجيكا وبلغاريا وفرنسا واليونان وإيطاليا وبولندا ورومانيا وتركيا والولايات المتحدة، والقيادة البحرية المتحالفة لحلف الناتو.
ومع ذلك، فهناك عدد من العوامل التي يمكن أن تؤثر في عملية صنع القرار البلغارية لصالح روسيا خلال المواجهة الإقليمية بين روسيا والغرب؛ لذلك تحافظ بلغاريا على “موقفها الحذر الذي يتجنب المخاطرة” تجاه روسيا، كما تسعى إلى بناء شراكات أقوى مع حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي دون استعداء روسيا. بالإضافة إلى ذلك، فإن علاقات روسيا وبلغاريا تخلق بعض قنوات تواصل غير معلنة التأثير الذي لا يمكن ملاحظته وقياسه علنًا.
يتسم الاستثمار الروسي بكثافته في الاقتصاد البلغاري، بما في ذلك المستويات العالية من الاستثمار الأجنبي المباشر، ومؤخرًا من خلال مشروعات الطاقة، وهو ما يزيد النفوذ المحتمل، وأخيرًا، يمكن أن يؤدي الخوف البلغاري من الانتقام الروسي- الذي يتفاقم بسبب عدم الثقة بإرادة الناتو للدفاع عن بلغاريا- إلى دفع بلغاريا لمعارضة أعمال الناتو في البحر الأسود، التي قد تستدعي الانتقام الروسي.
ولدى اعتبارات الطاقة القدرة على التأثير في عملية صنع القرار البلغارية، حيث تعتمد بلغاريا- على نحو شبه كامل- على الغاز الروسي، عبر شركة غازبروم، لاستهلاكها الوطني من الطاقة، ولا يزال النفط الخام الروسي يشكل 84% من إجمالي استهلاك بلغاريا من النفط. بالإضافة إلى ذلك، تمثل شركة النفط الروسية “لوك أويل” أكبر دافعي الضرائب للحكومة البلغارية- حيث تشكل نحو ربع إجمالي إيرادات الميزانية الوطنية في البلاد- وتشكل نحو 9% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي لبلغاريا.
إن التأثير المحتمل الناتج عن علاقات الطاقة البلغارية مع روسيا يجعل بلغاريا لا تنتهج سياسة خارجية مناهضة لروسيا، حيث أكدت روسيا أنها “على يقين من أن بلغاريا، التي يكاد يكون قطاع النفط فيها مملوكًا بالكامل لشركات روسية، لن تنتهج سياسة خارجية مناهضة لروسيا في المستقبل المنظور”.
مع أن بلغاريا تسعى إلى تحقيق الاستقلال في مجال الطاقة، فإن الخطط الحالية للمرحلة الثانية من مشروع “تورك ستريم” لجلب الغاز الروسي مباشرة إلى بلغاريا يمكن أن تقلل حوافز التنويع، وتزيد فرص النفوذ الروسي، لا سيما في ضوء تطلعات بلغاريا لتصبح مركزًا إقليميًّا للغاز، ومصدرًا للطاقة.
تتبني بلغاريا مشروع تحقيق الاستقلال في مجال الطاقة بعيدًا عن روسيا؛ مما يجعل الضغط القسري الروسي محدودًا من خلال بناء خط ربط للغاز الطبيعي بين اليونان وبلغاريا، وافقت عليه المفوضية الأوروبية للحصول على الدعم العام في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، ويمكنه أن يساعد بلغاريا على تنويع مصادر الغاز لديها. كما تعاقدت بلغاريا مع أذربيجان على مليار متر مكعب من الغاز الأذربيجاني، سيصبح متاحًا فور إنشاء خط أنابيب الغاز الطبيعي عبر الأناضول، وخط الأنابيب عبر البحر الأدرياتيكي، وتشغيل الرابط اليوناني.
كما يمكن أيضًا الاستفادة من العلاقات المالية البلغارية مع روسيا في محاولة للتأثير في عملية صنع القرار البلغاري، حيث تمتلك بلغاريا أعلى نسبة من الأجانب الروس، وهي الأعلى بين دول منطقة البحر الأسود، وتتراوح تدفقات الاستثمار بين 5 و11% من الناتج المحلي الإجمالي الوطني لبلغاريا- وهو عامل يمكن أن يكون له تأثير في المواقف السياسية في بلغاريا، إذا ما استغلته روسيا.
وتسعى بلغاريا حاليًا إلى الحصول على تمويل لاستئناف العمل في محطة للطاقة النووية في منطقة بيلين في بلغاريا، لتؤكد روسيا أنها مستعدة للاستثمار في المشروع، لكن هذا قد يفتح آفاقًا إضافية للنفوذ الروسي في بلغاريا.
وهناك مخاوف بلغارية عميقة بشأن الانتقام العسكري والاقتصادي الروسي، وتعود هذه المخاوف إلى عدم ثقة البلغار بالتزامات الناتو- وخاصة الولايات المتحدة- تجاه الأمن الجماعي، وتعتقد بلغاريا أن الولايات المتحدة ستستخدم القوة للدفاع عن بلغاريا فقط في حالة نشوب صراع خطير مع روسيا.
استسلمت بلغاريا في السابق للمخاوف الروسية، حيث قررت عدم دعم اقتراح رومانيا بشأن أسطول البحر الأسود التابع لحلف شمال الأطلسي، الذي جاء بعد يوم من تحذير روسيا من أن أي “قرار بإنشاء قوة بحرية دائمة في البحر الأسود سيكون بمنزلة زعزعة للاستقرار، لأن هذا ليس بحر الناتو”.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.