أدب

رواية “الحرس الأبيض”.. تقنيات فنية ورؤى نقدية


  • 7 نوفمبر 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: aif.ru

عرضنا في المقال السابق، الذي حمل عنوان “دليلك الموجز إلى رواية الحرس الأبيض”، فحوى تلك الرواية المهمة في تاريخ الأدب الروسي. في هذه الرواية استخدم بولغاكوف أسلوبًا حديثًا وشديد الحيوية في رصد أنحاء المدينة المختلفة، وطرق تحرك أبطاله، كأنه يحمل كاميرا ينتقل بها من شارع إلى آخر، ويصعد إلى السماء ليرصد حركة الحشود البشرية داخل المدينة، ثم يهبط بها في بعض المشاهد لينقل كلام الجموع وتمتماتهم، وسخرياتهم، وأفعالهم، دون مبالاة بمن هم هؤلاء الناس.

بدت الرواية مُركَّبة وحيادية بدرجة أثارت الارتباك، خاصة في استقبالها النقدي، فمن المفترض أن الكاتب يكتب عن أسرة تنتمي إلى النظام القديم، فإذا كان الكاتب محابيًّا للبلاشفة والنظام الشيوعي؛ فعليه أن يُشوِّه أفراد هذه الأسرة، وإذا كان مناصرًا للنظام القديم؛ فعليه أن ينهال بالهجوم على الشيوعيين وأنصار حركة الاستقلال. لم يفعل بولغاكوف هذا أو ذاك، بل استغل موهبته الأدبية في تصوير الشخصيات بأسلوب رائع ودقيق، يبعث التعاطف مع آمالهم المحطمة، وعالمهم القديم الرائع في أعينهم، وفي الآن نفسه استغل تدخل الراوي العليم ليشير إلى ما يحدث بعيدًا عن هذه الأسرة، وركَّز على هذا الجهل بأسباب الثورة بوصفه أحد أسباب سقوط هذه الطبقة، وبيّن كيف سحقها التاريخ في روسيا، وقضى على عالمها الحلو والرقيق المتشبث بالحنين. يفقد آل توربين عالمهم القديم في لحظة واحدة، وهو عالم دافئ ورومانسي، يرسمه لنا بولغاكوف بحنان شديد، وسخرية عميقة في الآن نفسه. نجد هذا في مشاهد كثيرة تجري داخل شقة آل توربين، حيث يجتمع الأصدقاء والضباط. في الوقت نفسه يطرح لنا الانفصال الكامل لهذا العالم عن الحقيقة، حتى إنهم لا يعرفون موقف الفلاحين منهم ومن القوات الألمانية، ولا يدركون حجم الفجيعة بسبب عزلتهم النفسية والعقلية الكاملة. إذا كان بولغاكوف قد قدَّم هذا العالم بحنان وسخرية، فقد قدَّم لنا عالم الفلاحين والعمال بصورة عنيفة وقاسية، لكنها غير متحاملة في الوقت نفسه. لقد عانوا صنوفًا كثيرة من الظلم، وجاء دورهم أخيرًا للانتقام، لكن هذا يحدث داخل إطار كاريكاتيري فظ. عالم قديم يتداعى بكل ما فيه من ظلم، وفساد، ورقة، وحنان.

تارة نجد هذه الأوصاف المستفيضة لطبيعة عالم الأسرة القديم الرائع:

“لأعوام طويلة قبل وفاة الأم، ترعرعت يلينا الصغيرة، والابن الأكبر ألكسي، والطفل نيقولكا، في دفء الموقد المزخرف، القابع في حجرة الطعام بالمنزل رقم 13 عند منحدر ألكسيفيسكي. كم قرؤوا في دفء الموقد حكاية: (نجار ساردام)! وكم رقصت الساعات رقصة الجافوت! فاحت دائمًا رائحة خشب الصنوبر في ديسمبر، حيث يشتعل الشمع ذو الألوان المختلفة على الأغصان الخضراء. وردًّا على رقصة الجافوت التي تؤديها العقارب البرونزية في الساعة المعلقة بحجرة نوم الأم، تجيب ساعة يلينا بدقاتها الكنسية الجهورة…”.

وتارة أخرى نجد مواضع تشير إلى طبيعة العنف الدائر خارج هذا العالم المغلق الذي لا يريد معرفة شيء خارج حدوده الضيقة:

“لقد كرهوا البلاشفة، لكنها ليست تلك الكراهية العدائية التي تحث صاحبها على القتال حتى الموت؛ بل كراهية جبانة تهمس في أذنَي صاحبها في الزوايا المظلمة. كرهوهم في المساء حينما ينخرطون في نوم قلق، وفي النهار في المطاعم وهم يقرؤون الصحف الملأى بالأخبار التي تُصوِّر البلاشفة وهم يطلقون النار على الضباط والمصرفيين على مؤخرات رؤوسهم ببنادقهم الماوزر، وكيف يبيع أصحاب المحال في موسكو لحوم الجياد المريضة. جميعهم شعروا بالكراهية نفسها؛ التجار، وأصحاب البنوك، ورجال الصناعة، والمحامون، والممثلون، وأصحاب الأملاك، والعاهرات، وأعضاء مجلس الدوما السابقون، والمهندسون، والأطباء، والكُتَّاب… جميعهم!”.

يبتعد بولغاكوف بقدر واضح عن مناقشة المشكلات الاجتماعية لأبطاله، ولا يُبدي تعاطفًا صريحًا لجانب الحمر أو البيض، بل يُركِّز على رصد شخصيات قوية أخلاقيًّا بحيث لا تتحول إلى فئران هاربة من سفينة أوشكت على الغرق، ويطرح في الرواية سؤالًا فلسفيًّا عن كيف يمكن للمرء في لحظات الكارثة الحفاظ على إنسانيته، وعدم فقدان نفسه وشرفه.

ترصد الرواية انهيارات متعددة، وخيانات كثيرة: خيانة القادة والجيتمان وتالبيرج، وانهيار الأساطير ومقتلها بقسوة، مثل مقتل ناي تورس على مرأى من الأخ الأصغر نيكولكا.

من ناحية، يواصل بولغاكوف تقاليد الرواية الروسية العظيمة في القرن التاسع عشر، حيث يسرد قصة عائلة، ومن خلالها يُصوِّر تاريخ بلد برمته في لحظة حاسمة، ومن ناحية أخرى، يبدي تجديدًا بارعًا يتمثل في تقنيات الوصف المختلفة، ومزج الفانتازيا بالواقع، وتحويل كل ما في الرواية إلى كائن حي يتكلم ويشارك في السرد.

تشتد مأساة الأسرة بالجهل الذي يُصوِّره بولغاكوف ببراعة، وهو الذي يزيد وقع المأساة على أفرادها:

“الحقيقة أن المدينة هي المدينة، ففيها شرطة، ودوائر أمن، وصحف بمختلف الأسماء، لكن أحدًا لم يعلم حقيقة ما يحدث حولها. في أوكرانيا الحقيقية، في البلد الذي يعج بعشرات الملايين من البشر، في البلد الذي تفوق مساحته مساحة فرنسا، لم يعلم أحد شيئًا على الإطلاق! لم يقتصر الأمر على أنهم لم يعلموا شيئًا عما يجري في الأجزاء البعيدة من البلاد، بل كان من السخيف أيضًا أنهم يجهلون ما يحدث حتى في القرى المبعثرة حولهم، التي لا تبعد أكثر من خمسين فرستًا عن المدينة. لم يعلموا ولا اهتموا بما يحدث في الريف الأوكراني، وقد كرهوه من كل قلوبهم. وعندما وصلت إليهم أخبار غامضة عن بعض الأحداث التي تجري في هذه المقاطعات الغامضة التي تُدعى (الريف)؛ إشاعات تدَّعي نهب الألمان للفلاحين، وعقابهم بلا رحمة، وإطلاق النار عليهم، لم يكن يرتفع صوت واحد ناقم دفاعًا عن الفلاحين الأوكران، بل يكشفون عن أسنانهم بابتسامة ذئبية، ويدمدمون في الصالونات أسفل ظلال المصابيح الناعمة قائلين:

–  يستحقون ذلك، وإذا زدت قليلًا من معاملتهم بهذه الطريقة، فلن يجلب ذلك أي ضرر، بل لو كان الأمر بيدي لزدتهم. سيُذكِّرهم هذا جيدًا بما تعنيه الثورة! سوف يُعلِّمهم الألمان الدرس، فإذا لم يريدوا سلطة ذويهم، فدعهم يجربوا إذن سلطة الغرباء!”.

الحقيقة أن ولع بولغاكوف بالمدينة واضح. برع كثير من الأدباء الروس في الوصف، ولكن ما فعله بولغاكوف في عمله هذا تعدى الوصف التقليدي بخطوات واسعة. قدَّم لنا رؤية بانورامية للمدينة على نحو تفصيلي وفريد، حيث يقدِّم لنا صورة داخلية وخارجية شديدة الدقة للمكان والشخوص. إذا كان آل توربين هم أبطال الرواية من الناحية النظرية، فإن المدينة هي البطل الحقيقي. وردت كلمة “المدينة” في الترجمة العربية نحو 234 مرة! وامتلأت الرواية بتصوير التطورات الاجتماعية، والسياسية، والجغرافية، والأمنية التي لحقت بالمدينة في هذه الفترة الحرجة حينما صار البلاشفة على أبوابها، وهروب الألمان، وسقوط الحرس الأبيض، فضلًا عن سقوط كبار سياسيي أوكرانيا الذين سعوا إلى الحكم الذاتي.

من الناحية السردية والفنية، صحيح أن بولغاكوف لم يستخدم رواية الأصوات بالمعنى الحديث المتعارف عليه الآن، حيث تتحول كل شخصية إلى راوٍ مستقل للأحداث، لكنه استخدم رواية الأصوات بمعناها الأصيل الذي تحدث عنه باختين في روايات دوستويفسكي؛ فطوال الرواية تتناوب الصفحات على عرض وجهات نظر شخصياتها المختلفة حيال الأحداث، وتتحدث كل منها بلغة مختلفة تخصها وتكشف عن أفكارها ومشاعرها ورؤيتها للعالم؛ وهو ما يُعزِّز تفاعل القارئ في أثناء قراءة الرواية.

فضلًا عن واقعية الرواية الشديدة، امتلأت بعناصر رمزية كثيرة من قبيل الثلج الذي يغطي كييف طوال أحداثها، ويشي بالبرودة والانهيار الوشيك للمدينة.  المنزل الذي يُمثِّل إحدى الشخصيات الرئيسة، يرتبط بأمل عائلة توربين في النجاة والصمود. المدينة نفسها تصبح في بعض المواضع رمزًا لروسيا كلها، فضلًا عن الإشارات الرمزية المتمثلة في شخوص الرواية؛ فمثلًا، يُمثِّل تالبيرج ـزوج يلينا توربينا- رمزًا واضحًا لخيانة القادة للنظام القديم، ويُمثِّل بتليورا والبلاشفة -على السواء- الفوضى والدمار اللذين يلحقان بالعالم القديم ويسحقانه.

امتازت الرواية أيضًا بسحر الاستهلال والختام. إليكم استهلال الرواية:

“كان عام 1918 عظيمًا ومريعًا منذ اندلاع الثورة الثانية، كان عامًا فاضت عليه شمس الصيف، وغمره ثلج الشتاء، وبرق في سمائه نجم الرعاة: الزهرة ، ونجم المريخ الأحمر المرتعش.

لكن الأيام الهادئة تمر بسرعة البرق، تمامًا كنظيرتها الملطخة بالدماء، حتى إن شباب آل توربين لم يلحظوا كيف حلَّ شهر ديسمبر العجوز في قلب هذا الصقيع المريع. إنه موسم شجرة عيد الميلاد، والنجمة اللامعة والسعادة!”.

وهذا ختامها:

“لكن السيف ليس مخيفًا. سيمضي كل شيء؛ المعاناة، والألم، والدماء، والجوع، والوباء. كذلك السيف سوف يمضي، لكن النجوم سوف تظل حتى بعدما تختفي ظلال حضورنا وأعمالنا من على الأرض. ما من إنسان لا يعلم هذا، فلماذا إذن لا نريد أن نوجِّه أعيننا صوب النجوم؟ لماذا؟”.

بين المقطعين تدور أحداث دموية ورومانسية وقدرية، وتطأ عجلات التاريخ طبقات، وتهرس الجيوش آمالًا وأحلامًا، وتُشيِّد أخرى، ويتصارع عالمان صراعًا بلا هوادة.

في “الحرس الأبيض” نرى ونسمع، ونشم ونتذوق، ونشعر. إنه عالم شديد الاتساع، حيث كل شيء حي فيه. بإمكاننا قراءة حوارات متعددة للرداء، والساعة، والسماور (وعاء معدني يستخدم لغلي الماء وإعداد الشاي)، والكتب، والطبيعة، والأيقونات، والضوء، والبشر، والحيوانات. إنه عالم كثيف وحي يتفاعل تفاعلًا مذهلًا عبر السطور، وينقلنا بولغاكوف من مشهد إلى مشهد، معتمدًا على تقنيات مميزة تتيح له الوصف على نحو ساحر.

في “الحرس الأبيض” يختلط أيضًا الواقع بالخيال والهلاوس والتذكُّر، من دون أي فواصل، وهو أمر يزيد صعوبة القراءة ومتعتها في الآن نفسه. من السمات الفريدة في هذه الرواية أننا نقرأ كل شيء بأسلوب ساخر ورومانسي ومفجع في الآن نفسه، حتى إننا قد ننساق خلف السخرية التي تغلِّف العمل كاملًا، لنجد أنفسنا قد واجهنا مصيرًا مفجعًا وبشعًا يصل إلى ذروة الهلع والرعب قبل نهاية القصة بقليل، حينما يذهب الأخ الأصغر نيقولكا إلى المشرحة بحثًا عن قائده القتيل: ناي تورس.

السخرية الساحرة

تتفجر موهبة بولغاكوف الأدبية في بعض المشاهد التي تتخللها المأساة بسخرية سوداء فائقة المستوى، فيرصد مثلًا في أحد المشاهد رصد اللصوص لأحد جيران آل توربين، صوّرته الرواية بأسلوب تهكمي ساخر، وبدا رمزًا لطبقة مستغلة ضيقة الأفق لا تفكر في شيء سوى مصلحتها الآنية والقريبة، وتكويم الأموال، وسرعان ما يحل الانتقام، فتهاجمها جماعة لصوص مسلحة، مدعية أنها جماعة عسكرية مكلفة بتفتيش الشقة. يتفحص رجال العصابة الأماكن التي خبّأ فيها جار آل توربين “ليسوفيتش” أوراقه الماليه وكنزه حتى يعثروا عليه. يسب زعيم العصابة الجار “ليسوفيتش”، ويهدد بقتله، ثم تجمع العصابة كل ما تجده في الشقة، وهي ما زالت تتظاهر بأنها جماعة عسكرية، مع أن “ليسوفيتش” ووزجته يدركان جيدًا أنها ليس كذلك، ثم يقرر بولغاكوف ألا ينهي المشهد بهذه الصورة، فجعل رجال العصابة يكشفون عن بؤسهم حينما يذهلهم ترف “ليسوفيتش” وزوجته، فتتحول الشقة إلى غرفة قياس لرجال العصابة، حيث يقيس كل منهم حذاءً أو سروالًا في مشهد عبثي يكشف عن ثيابهم المهترئة والممزقة، ويتحول المشهد إلى كوميديا سوداء لمجرمين صاروا أطفالًا فرحين بالأغراض الجديدة.

 ترجمات الرواية

تُرجِمت الرواية إلى العربية في ترجمات عدة، صدرت كلها تباعًا في غضون أشهر قليلة عن عدة دور نشر، وفي دول مختلفة. الترجمة الأولى عن المركز القومي للترجمة في مصر، بترجمة عبد الله حبه، الذي رحل عن دنيانا منذ فترة وجيزة. الترجمة الثانية صدرت في سوريا عن وزارة الثقافة: الهيئة العامة السورية للكتاب، من ترجمة شريف ناصر. الترجمة الثالثة صدرت عن دار الخان الكويتية، بترجمة يوسف نبيل، ثم أعاد المترجم نشر ترجمته بعد تنقيحها ومراجعتها لتصدر مرة أخرى عن دار يسطرون السعودية. لا شك أن هناك اختلافات جوهرية يمكن ملاحظتها بين الترجمات الثلاث، فاتساع القاموس اللغوي للرواية، وأسلوب بولغاكوف الساخر والمراوغ، واتكاء الرواية على الوصف الخارجي والداخلي على السواء، جميعها عوامل تسهم في الكشف عن قدرات المترجم المختلفة.

وفي الختام، يمكننا القول إن رواية “الحرس الأبيض” وثيقة أدبية وتاريخية مهمة؛ فمن الناحية الأدبية، تُمثِّل عودة الأدب الروسي إلى الواقعية وتقاليده الراسخة، بعد أن انخرطت أعمال سردية كثيرة في الفترة السابقة في الكتابة وفقًا لتقاليد مدارس أخرى كثيرة ملأت العصر الفضي للأدب الروسي، مثل: القممية، والانحطاطية، والمستقبلية، والرمزية، والتكعيبية… إلخ، لكن بولغاكوف  يثبت في واقعيته القدرة على أن تشمل هذه المدرسة الأدبية القديمة والراسخة صنوفًا أخرى كثيرة وحديثة من أشكال السرد.

ومن الناحية التاريخية، تقدم الرواية صورة متزنة وعميقة للتغييرات العاصفة التي ألّمت بطبقة تنهار إبان الحرب الأهلية الروسية، ووثيقة عن انسحاق روسيا القيصرية القديمة تحت عجلة التاريخ.

“الحرس الأبيض” عمل عمدة يستحق القراءة، جمع بين عراقة التقاليد الروسية القديمة في القرن التاسع عشر، وسحر التجديد الأدبي، وأصالة الرؤية والأسلوب.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع