التاريخ والثقافة

رؤية أرثوذكسية للعلاقات المسيحية-الإسلامية في روسيا


  • 4 نوفمبر 2023

شارك الموضوع

أساس أي حوار يتمثل في وجود اثنين على الأقل من المحاورين الذين هيئوا أنفسهم للتحاور، أي لديهم رغبة أو حاجة إلى سماع المحاور وفهمه. في سياق الحوار بين الأديان، يجري الحديث عن عملية معقدة جدًّا؛ لأن أي دين في طبيعته هو ظاهرة فريدة. وتكمن الصعوبة الرئيسة في أن الدين يتحدث عن موضوع لا يستطيع العقل البشري فهمه. في هذا المقال، سنقدم بعض الأحكام المفاهيمية للحوار والتفاعل الإسلامي المسيحي، التي هي ثمرة لخبرة أكثر من عشرين عامًا في دراسة التقاليد المسيحية، وعشرة أعوام من المعرفة عن الإسلام، فضلًا عن الخبرة في الأنشطة العملية في مجال الحوار المسيحي الإسلامي.

المسيحية والإسلام، بوصفهما ديانتين إبراهيميتين، ولهما بعض المُسَلَّمَات الأساسية المتشابهة، يمثلان في الوقت نفسه نظامين عَقَديين معقدين، مع اختلافات جوهرية فيما بينهما. يتطلب فهم هذين النظامين كثيرًا من الوقت، والجهد، والتحضير الجاد. ومع ذلك، يمكن القول إن هناك أحكامًا أساسية تؤدي دورًا رئيسًا على المستوى العَقَدي، تعرّف هذه الظاهرة (الدين) أو تلك تعريفًا كليًّا حتى مستوى معين. فلنلقِ نظرة على بعض الأحكام الأساسية للإسلام والمسيحية، الضرورية لتحديد الأحكام المفاهيمية في سياق العلاقات بين الأديان.

الأحكام الأساسية في الإسلام والمسيحية

من بين المصادر العَقَدية للإسلام، بالطبع يجب أن نخص في المقام الأول القرآن، كلام الخالق، الذي من خلاله يُحدَّد النظام الذي يجب اتباعه، والذي أنزله الخالق على النبي محمد. “القرآن هو الوحي الذي أنزله خالق الكون وفاطره إلى البشرية. هذه هي رسالة الخالق للإنسان، ومن ثم فهي مهمة جدًّا لنا”[1]. بهذا التعريف، الذي يُستَفتح به (القرآن الكريم)، يتم التعبير- بإيجاز- عن التعاليم الكلاسيكية للإسلام عن هذا الكتاب المقدس.

كتب الأستاذ الجامعي البروفسور أ. مقراني:

“في الإسلام، الذي هو دين توحيدي، يعد القرآن حلقة وصل أساسية لفهم التجربة الدينية للمسلمين. للقرآن مكانة خاصة في الحياة الدينية الإسلامية للفرد، وللمجتمع بأسره، وله أيضًا مكانةً خاصةً في قلوب الإخوة والأخوات الذين يتشارك المؤمن معهم المنافع الروحية، بحيث تزداد المعرفة بالنور الإلهي[2]“.

يتحدث القرآن عن خلق العالم، والإنسان، وعن جمال الخليقة وتنوعها، والحاجة إلى معرفة العالم الذي خلقه الله، وهو ما تم التعبير عنه في الآية التالية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}‏ (سورة الحجرات، الآية 13).

يتحدث الإنجيل عن الحب بين الناس، بغض النظر عن أصلهم وموقعهم {تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ} – (مرقس 12:31).

مع أن الأوامر في الكتب المقدسة للمسيحية والإسلام واضحة، فإن تاريخ العلاقات بين المسلمين والمسيحيين معقد جدًّا، وغالبًا ما يكون مؤلمًا. قدم أحد المؤرخين، خلال تحليله للعلاقة بين المسيحية والإسلام، التعريف التالي:

لم يجد الإسلام والمسيحية إمكانية للاعتراف المتبادل أحدهما بالآخر على أنهما ديانتان مختلفتان ومستقلتان، فشرعا في “حوار المعركة”. في ظل عدم قدرة الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الإسلامية على الاستماع إحداهما إلى الأخرى من أجل تنظيم حياة الناس في سلام وأخوة، تقاتلت الإمبراطوريتان حتى دمرت إحداهما الأخرى. في الوقت نفسه، وبعيدًا عن الخلافات اللاهوتية، والمواقف السياسية المعادية، أقيم حوار بين أتباع الديانتين، أو بالأحرى، بين القيم الدينية والثقافية التي يمثلونها[3].

 

في رأينا، أحد الأسباب الرئيسة لهذا الموقف هو الجهل المتبادل بدين الآخر، ومن ثم، فإن دراسة القرآن، وهو المكون الأساسي الذي يشكل جوهر الدين الإسلامي في هذه الحالة، تبدو ضرورية؛ من أجل إيجاد طريقة صحيحة وفعالة لفهم الإسلام، وفهم طريقة التفكير والسلوك لدى المسلمين فهمًا أفضل، وكذلك من أجل الحوار، أو بعبارة أدق، من أجل التفاعل والتعاون مع العالم الإسلامي. يمكن قول الشيء نفسه عن الإنجيل أو الكتاب المقدس، اللذين يجب دراستهما بعمق وحيادية من أجل فهم المسيحية. هاتان المهمتان صعبتان جدًّا. في الوقت نفسه، يستمر التعقيد عندما يكون المرء ضمن دين ما، أو خارجه.

الحجج المؤيدة والمعارضة في الإسلام والمسيحية

طور الإسلام والمسيحية جنبًا إلى جنب، على مدى مئات السنين من وجودهما، كثيرًا من الحجج “المؤيدة” و”المعارضة”، التي تؤكد صواب الذات، وتتحدث عن أخطاء معينة للخصم، ولكن في رأينا، النقاش بشأن جوانب مختلفة من العقيدة ليس مثمرًا، على وجه التحديد لأننا نتحدث عن إيمان لا يمكن إثباته، ونذكر هنا بعض الأمثلة.

حجة الإعجاز في القرآن والإنجيل

من الأمثلة البارزة في هذا الصدد تعاليم إعجاز القرآن. أساس هذه التعاليم موجود في القرآن نفسه:

{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِى وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ} – (سورة البقرة، الآيات 23- 24)

تتوافق هذه التعاليم بالتأكيد مع نظرة المسلمين إلى القرآن على أنه كلام الخالق عز وجل، الذي لا يمكن مقارنته- بحكم هذه الحقيقة- بأي فكر للعقل البشري، أي مع كلام الخلق، وليس الخالق. وهكذا، على سبيل المثال، يقول أبو سليمان الخطابي (ت 388 هـ) عن إعجاز القرآن:

ولا ترى نظمًا أحسن تأليفًا، وأشد تلاؤمًا وتشاكُلًا من نظمه…. فتفهَّم الآن، واعلم أن القرآن إنما صار معجزًا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمنًا أصح المعاني؛ من توحيد الله- عزَّت قدرته- وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته؛ من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساوئها، واضعًا كل شيء في موضعه الذي لا يُرى شيء أولى منه، ولا يُرى في صورة العقل أمر أليق منه، مُودعًا أخبار القرون الماضية[4].

في الوقت نفسه، فيما يتعلق بالقارئ من الجانب الآخر، غير المسلم، حتى إذا كان يجيد اللغة العربية إجادة كاملة، فإن وجهة النظر هذه ليست واضحة. بالنسبة للمسلم، هذه مسألة إيمان تتوافق بسهولة مع النظرة الإسلامية العامة للعالم.

من خلال تجربتي الشخصية، أستطيع أن أقول إنه ليس من السهل دائمًا رؤية جمال النص القرآني، بل إنه من الصعب الشعور بإعجازه، وأن لا شيء يضاهيه. يجب أن أعترف بأن تأثير القرآن فيَّ يتغير جذريًّا عندما أتلوه، أو أستمع إليه بلغته الأصلية، أي باللغة العربية، لكن هذا، أولًا وقبل كل شيء، يغير تأثير شكل النص، الذي يأخذ الجمال والشكل العضوي، إلا أن هذا الجمال الخارجي لا يؤثر في محتوى النص الذي يبدو أحيانًا غير متناسق، أو حتى متناقضًا. هذا هو انطباعي الشخصي كشخص يريد أن يفهم كيف أن هذا النص يعد مقدسًا، ليس فقط على مستوى العقيدة؛ ولكن حتى بوصفه كتابًا كُرست لدراسته كثير من التفاسير والتأملات. اسمحوا لي أن أقتبس من أحد المجادلين البروتستانت المشهورين، جون غيلكريست، الذي يوضح تجربته مع القرآن، قائلًا إنه عندما قرأ القرآن ودرسه، وتعلمه بعمق، تغير موقفه من هذا الكتاب:

“يزداد تعظيم القرآن كلما عرفته أكثر فأكثر. قبل أربعة عشر عامًا، تعلمت القراءة باللغة العربية لأول مرة، ومنذ ذلك الحين اكتسبت معرفة محدودة جدًّا باللغة العربية. ومع ذلك، كان هذا كافيًا لجعل القرآن ينبض بالحياة بالنسبة لي. لقد ساعدتني كلماته الحادة، وأسلوبه السجعي، واختياره للكلمات على فهم سبب إبهاره لأولئك الذين يعتبرونه آخر كلام الخالق للبشرية… أعتقد أن القرآن كتاب فريد من نوعه. وفي أي عصر، سيكون الأمر كذلك، خصوصًا إذا وضعنا في بالنا أن هذا الكتاب كُتِبَ في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع للميلاد. مع مرور الوقت، تمكنت من تقييم ليس فقط تناسقه الرائع؛ ولكن أيضًا نبضات قلبه التي تسود كل صفحة”[5].

في المسيحية، لا يوجد مفهوم “الإعجاز” النصي في الكتاب المقدس. في الوقت نفسه، هناك مفهوم “الإلهام الإلهي”، الذي يتمثل في الاعتراف بالحرية الشخصية للمؤلف الذي ألف كتابًا مقدسًا. في الوقت نفسه، يعتقد المسيحيون أن هذا النص أو ذاك قد كُتب بـ”توجيه” أو تأثير من الله؛ مما يعطي هذا النص أصالة عَقَدية، وعصمة من الخطأ. ومع ذلك، في المسيحية، كانت ولا تزال هناك محاولات من خلال تحليل الشكل الخارجي للنص من أجل العثور على دليل على الإلهام الإلهي. فيما يتعلق بالسياق العَقَدي “الداخلي” للمسيحية، فإن هذه البراهين والحجج ليست بالمهمة، ولكن في سياق “المجادلات”، أو الحوار بين الأديان، تأخذ هذه الدراسات أهمية خاصة.

يعد العالم الروسي إيفان بانين (1855-1942) أحد الباحثين البارزين في علم النقد النصي للإنجيل، وعلم الأعداد، وقد وُلد في روسيا، ثم درس في ألمانيا، ثم أكمل دراسته في جامعة هارفارد وتخرج فيها. اكتشف إيفان بانين أنماطًا رياضيةً فريدةً للنص الإنجيلي، وكرس أكثر من 50 عامًا من العمل الشاق لهذا الاكتشاف. يكمن جوهر اكتشافه في أنه في النص الإنجيلي الأصلي (العبري للعهد القديم، واليوناني للعهد الجديد) كُتبت كل كلمة- تقريبًا- بطريقة فريدة وغامضة بحيث ترمز إلى الرقم 7، الذي يعد أحد الأرقام الرئيسة لكوننا ونظامنا.

ولنعطِ مثالًا صغيرًا على هذه الأنماط. يحتوي إنجيل متّى في فصله الأول على قصة عن سلسلة نسب المسيح. تغطي الآيات الإحدى عشرة الأولى الفترة الزمنية بدءًا من إبراهيم إلى الهجرة إلى بابل. تحتوي هذه الآيات على 49 = 7 × 7 كلمة، وعدد الحروف فيها 266 = 7 × 38، منها 140 = 7 × 20 متحركة، و126 = 7 × 18 ساكنة، وعدد أسماء العلم 35 = 7 × 5، للمذكر 28 = 7 × 4، إلخ. هذه الأنماط العددية المماثلة تتخلل نص الإنجيل بكامله، ومن ثم، وفقًا لبحث إيفان بانين، من المستحيل إزالة حرف واحد من النص دون الإخلال بالنمط، وهو أمر صعب جدًّا، وفقًا لنظرية الاحتمالات، ومن المستحيل تمامًا تخيل أن مؤلفي الكتب الإنجيلية المختلفين يستطيعون بدون مساعدة الله تركيب هذا النص[6].

مثال آخر من اكتشافات إيفان بانين، هو وجود “خصائص الشكل التسلسلي”. هذا يعني أن هذه الخصائص موجودة في بنية الكلمات التي تُفصَل بعضها عن بعض بمسافة كبيرة. الكلمات ذات خاصية الشكل التسلسلي، مبعثرة في مختلف أسفار الكتاب المقدس، وهي ليست محصورة في مقطع محدد لنص ما.

أسماء أولئك الذين كتبوا الكتاب المقدس مبعثرة في جميع أنحاء الكتاب المقدس بعيدة بعضها عن بعض. والمثير للدهشة أن الرقم “7” يظهر حتى في هذه الأسماء المبعثرة. عدد الأشخاص الذين كتبوا العهد القديم المذكور في الكتاب المقدس هو 21 أو 3 × 7. القيمة العددية لهذه الأسماء العبرية الـ21 هي أيضًا من مضاعفات العدد 7، فهي تساوي 38080، أو 544 × 7. من بين هذه الأسماء الـ21 في العهد الجديد، ذُكِر موسى، وداود، وسليمان، وإشعياء، وإرميا، ودانيال، ويونس. المجموع 7. القيمة العددية لهذه الأسماء السبعة 1551، أو 222 × 7. ورد اسم إرميا في 7 كتب من العهد القديم، في 7 أشكال مختلفة من اللغة العبرية، 147 مرة بالضبط، أو 21 × 7. ورد اسم موسى، الذي كتب السفر الأول، في الكتاب المقدس 847 مرة، أو 121 × 7[7].

وهكذا، في جعبة المسيحيين، إذا رغب المرء في ذلك، يمكن أيضًا أن نجد حقائق وحججًا مدهشة جدًّا تتحدث عن إعجاز الكتاب المقدس والإنجيل، وتفردهما بذلك. في الوقت نفسه، نلاحظ أن التعاليم في المسيحية لا تحتوي على تعليم رسمي عن الإعجاز النصي في الكتاب المقدس. بالإضافة إلى ذلك، يظل الإنجيل هو الإنجيل عند ترجمته إلى أي لغة، ويمكن قراءته بأي لغة.

تلخيصًا لهذه المسألة- في رأينا- في هذه الحالة، يمكن القول إنه عندما يكون لكل طرف حجته الخاصة- إذا كان الشخص يؤمن بأحكام عقيدته- فإنها ستكون سببًا كافيًا لعدم الشك في صحة النص المقدس لدينه وصدقه.

هناك مثال آخر يتعلق أيضًا بأسس الإيمان، لا يمكن إثباته رياضيًّا. والحديث هنا عن بعث المسيح.

حجة صلب المسيح وبعثه في القرآن والإنجيل

جاء في القرآن:

 {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا}(سورة النساء، الآية 157).

بناءً على هذه الكلمات ومثيلاتها في القرآن، فإن وجهة النظر الإسلامية في هذه المسألة هي أن الله خلص المسيح، وبدلًا منه صُلب شخصٌ آخر يشبه المسيح.

بمناقشة وجهة النظر هذه، يستشهد القس الأرثوذكسي جورجي ماكسيموف بعدد من شهادات المؤرخين القدماء الذين عاشوا في القرن الثاني للميلاد. هنا أقتبس “فيما يتعلق بموت المسيح، نرى الشهادات التالية:

كتب لوقيان السميساطي Lucian of Samosate (عام 160) أن يسوع المسيح “صُلب في فلسطين بسبب أنه أسس هذه العبادة الجديدة (المسيحية)”. سيلسوس (عام 150)، معتقدًا أن صلب المسيح عار على المسيحية، يصر، متحدثًا إلى المسيحيين: “بالطبع، يجب عليكم ألا تقولوا إنه تحمل هذه المعاناة فقط من أجل الخطائين، في الواقع هو لم يعان؛ كلا، يجب عليكم أن تعترفوا بأنه عانى”. كما كتب مارك كورنيليوس فرونتون (عام 140): “يقال أيضًا إنهم (المسيحيون) يكرمون شخصًا عوقب على جريمة بعقوبة مفزعة، ويكرمون شجرة الصليب الشريرة[8]“.

في رأينا، في هذه الحالة، يجري الحوار على مستويات مختلفة؛ لذلك، لن تصل بنا الحجج إلى قاسم مشترك. يستشهد الأب جورجي ماكسيموف بالأدلة التاريخية، ويتغاضى عن أننا في هذه الحالة أيضًا نتحدث عن الإيمان. ومن وجهة نظر المؤمن، الرب قادر على فعل كل شيء. بغض النظر عن مدى التناقض الذي قد يبدو عليه الأمر، ولكن حتى من وجهة نظر المسيحي، يمكن أن يكون الله “بديلًا للمسيح”. بالنسبة للقدرة الإلهية المطلقة، فهذا ليس بالأمر الصعب. شيء آخر هو أن هذا الأمر سيكون بمنزلة مسيحية مختلفة تمامًا؛ لأن الإيمان ببعث المسيح هو أساس كل المسيحية؛ لهذا يكتب الرسول بولس: {فَإِنْ كَانَتْ قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ، فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَقُمْ أَيْضاً! وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، لَكَانَ تَبْشِيرُنَا عَبَثاً وَإِيمَانُكُمْ عَبَثاً} – (1 كو 15: 13- 14).

لكن في الوقت نفسه، لا يمكن أن تكون الأدلة التاريخية حججًا “قويةً” في هذا الأمر؛ لأن المسيحيين يؤمنون بما هو مكتوب في العهد الجديد، ويؤمن المسلمون بما هو مكتوب في القرآن.

فهمُ الألوهية

يمكننا الاستمرار في سرد قائمة الأحكام العَقَدية المختلفة للمسيحية والإسلام، التي تسبب الحيرة وسوء الفهم لدى ممثلي الديانات الأخرى. ولا عجب في هذا؛ فالعقل البشري لم يُعطَ فهم الألوهية. يمكن للإنسان أن يؤمن فقط بالوحي الذي ينزل من الله. بالطبع، يسعى الإنسان دائمًا إلى تفسير الظواهر باستخدام العقل. من ناحية أخرى، الطبيعة البشرية ترغب في معرفة السر، لكن هذا اللغز أرفع من وعي الإنسان.

لكلٍ من الإسلام والمسيحية مجموعةٌ معينةٌ من الألغاز التي لا يمكن تفسيرها بالتحليل البسيط. السر المركزي هو الرب، وهو مُبهَم. على مجرى التاريخ، يظهر الرب نفسه للإنسان بدلالات متعددة، لكن جوهر الله لا يمكن فهمه. يسعى المسلمون والمسيحيون- بطريقتهم الخاصة- إلى التقرب إلى الله، وبطريقتهم الخاصة يريدون أن يفهموا ويعرفوا خالقهم. لكن حتى ممثلو الأديان البارزون الذين لديهم صلة قوية مع الرب يشهدون أنه من المستحيل التعبير بلغة بشرية، ليس فقط عن جوهر الرب، ولكن أيضًا عن تجربتهم الشخصية الحقيقية التي مروا بها.

ومثالًا على ذلك، يمكننا أن نستشهد بظاهرة الحياة، كم هي مألوفة وغامضة جدًّا. ما الحب؟ هل يمكن وصف ماهيته أو نقله بلغة البشر؟ يعرف أي شخص حاول وصف هذا الشعور أو تعريفه مدى صعوبة ذلك، بل استحالته. لغتنا لا تسمح لنا بالتعبير والنقل الكامل لكمية المشاعر والتجارب والأحاسيس المرتبطة بالحب. أي وصف شاعري رائع وموهوب لن يكون إلا انعكاسًا باهتًا للواقع. سيكون الاختلاف كما لو كنت تنظر إلى منظر طبيعي في لوحة ما، أو تجد نفسك بالفعل في الطبيعة المرسومة في اللوحة.

بالطريقة نفسها، ولكن مع اختلاف أكبر بكثير، تختلف أي محادثة أو وصف ما هو الله عن حقيقة الجوهر الإلهي. تستخدم التجربة اللاهوتية المسيحية مصطلحًا خاصًا للتعبير عن الجوهر الإلهي من خلال النفي، الذي يشير إلى اتجاه خاص في اللاهوت الأرثوذكسي. نحن نتحدث عن اللاهوت الأبوفاتي (بالإغريقية القديمة ἀποφατικός “نفي”)، أو اللاهوت السلبي- الطريقة اللاهوتية، التي تتكون من التعبير عن الجوهر الإلهي من خلال الإنكار المستمر لجميع التعاريف الممكنة له على أنها لا تنطبق عليه، وإنكار معرفة الرب من خلال الفهم لما هو ليس عليه. نرى هنا اعترافًا واضحًا للعقل البشري باستحالة فهم الله والتعبير عنه بمصطلحات موضوعية. في الإسلام، فكر المعتزلة والصوفية في هذا الاتجاه نفسه.

الحوار بين الأديان

بناءً على الأفكار المذكورة أعلاه، نصل إلى الخلاصة التالية: حدود الحوار بين الأديان يجب أن تمتد إلى ما هو أبعد من الخط الذي دائمًا ما يصل إليه أولئك الذين يديرون هذا الحوار. في كثير من الأحيان، يخضع المشاركون في الحوار لإغراءات معينة قد تؤدي إلى عكس النتيجة المرجوة. أنا مقتنع بأن هدف الحوار على المستوى الفكري يجب أن يكون مهمة ذات شقين؛ الشق الأول: إيضاح عقيدتك. والثاني: فهم عقيدة الشخص الذي تتحاور معه. في الوقت نفسه، يجب على كل من أجرى هذا الحوار أن يفهم- بوضوح- أنه لا الشق الأول ولا الثاني ممكنان بشكل كلي؛ لأن أقوى عامل للفهم والإدراك- كما قلنا- هو مسألة الإيمان. ويبدو أن هذا القول يقوّض جوهر الحوار، لكنه ليس كذلك، والسبب كالتالي: لا يمكن شرح وفهم سوى المكون العقلاني لما نسميه النظام العَقَدي، أو المكون العَقَدي للدين. لا يمكن فهم جوهر العقيدة فهمًا منطقيًّا. الدين يتحدث عن الرب. الرب في جوهره غير مُدرَك للإنسان الذي هو من صنعه، فليس من قبيل المصادفة- على سبيل المثال- أن يشترط الإسلام من الإنسان- أولًا وقبل كل شيء- اتباع الأوامر، والخضوع والإخلاص للرب. قال الله لإبراهيم:

{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} – (سورة البقرة، الآية 131)

تتحدث المسيحية عن الإيمان: {مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ}(مرقس 16: 15-16).

إن الصالحين من العهد القديم، الذين كانوا في الواقع على صلة قوية بالله، لم يتمكنوا حتى من الاقتراب من معرفة جوهر الإله. في العهد القديم، استُخدمت كلمة “إيمان” بمعنى “الوفاء”. طلب الرب من الإنسان أن يكون وفيًّا في عبادة الإله الواحد الحقيقي، وألا يزيغ إلى عبادة الأصنام. على الرغم من المظاهر الكثيرة والواضحة للوجود الحقيقي للإله في الزمن الذي عاش فيه شعب الله المختار، عندما كان من الظاهر أنه لا توجد حاجة إلى دليل إضافي، فإن تاريخ الشعب اليهودي مملوء بهذا الزيغ؛ ومن هنا نستنتج أنه حتى البراهين المباشرة على حقيقة الإيمان المرسلة من الله نفسه، ليست ضمانًا للإيمان الصحيح، والعبادة الصحيحة.

لننتقل- بإيجاز- من التأملات اللاهوتية إلى الوقت الحاضر.

التجربة الروسية في سياق التفاعل بين الأديان في الوقت الحاضر 

تمتلك روسيا ثروة من التجارب الإيجابية للتفاعل السلمي، وآلاف السنين من التعايش بين ممثلي الديانات المختلفة على أرض واحدة. طوِّرَت خوارزميات تطبيقية، وعُثرَ على مخططات تفاعل فعالة في بعض المناطق. يمكن دراسة هذه التجربة ونقلها الى خارج روسيا. بالحديث عن التجربة الفريدة للتعايش الإسلامي المسيحي، الذي استكمل مفهومه في القرن التاسع عشر، كتب أحد المؤلفين المعاصرين: “في غضون عقدين من الزمن فقط، ومن خلال جهود مئات من العلماء المسلمين والمُفتين والمؤلفين والمدرسين والصحفيين والشخصيات العامة، أُنشِئَ مفهوم فريد للمجتمع الحضاري الأرثوذكسي الإسلامي، وأُدرِجَ في الوعي الجماهيري، هذا المفهوم الذي أكمل طريقًا شُرعَ في شقه منذ قرون من أجل التقاء ثقافتين إحداهما مع الأخرى، وأسس هذا المفهوم ضرورات لا جدال فيها لتحقيق التسامح، والاحترام المتبادل، والتضامن في العلاقات بين أتباع الديانتين العظيمتين”[9].

أصبح التفاعل بين الأديان في عصرنا أكثر أهمية. في رأينا، نحن بحاجة إلى الحديث عن اتحاد إستراتيجي بين الإسلام والمسيحية. بالإضافة إلى ذلك، فإن المقومات الأساسية لهذا الاتحاد موضوعية. المقوم الرئيس هو أن المسلمين والمسيحيين يؤمنون بخالق واحد للسماء والأرض.

الاستنتاج

بتلخيص هذه الأفكار والأمثلة المعطاة وترجمتها إلى مستوى الحوار العملي والتفاعل بين الأديان، يمكن استخلاص الاستنتاجات الرئيسة التالية:

  1. بالأخذ في الحُسبان الأهمية الاستثنائية لجميع جوانب العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في العالم الحديث- روحيًّا وعَقَديًّا وعمليًّا، أعتقد أن هناك حاجة ملحة إلى تطوير إستراتيجية مناسبة للتفاعل بين المسيحيين والمسلمين في جميع أنحاء العالم. لتطوير هذه الإستراتيجية يجب أن يشارك المسيحيون والمسلمون والعلماء وعلماء الدين والمتخصصون في مختلف المجالات.
  2. يمكن أن تصبح هذه الإستراتيجية، بل يجب أن تصبح أساسًا فهميًّا ودليلًا عمليًّا في المجالات المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات المسيحية الإسلامية.
  3. ينبغي أن تستند هذه الإستراتيجية إلى المبادئ الأساسية التالية:

أ) لا تخضع الأسس اللاهوتية والعَقَدية المسيحية والإسلامية للنقد، وهي خارج مضمون هذه الإستراتيجية.

ب) في الوقت نفسه، وانطلاقًا من البيان العَقَدي، الذي لا يجادل فيه لا المسيحيون ولا المسلمون، وهو أن خالق العالم هو الرب، وقد خلق الناس لأهداف سامية على أسس عادلة وأخلاقية، قد يكون من الضرورة التعاون والتفاعل في المجالات المهمة في العالم الحديث، والمجتمع الحديث. أحد هذه المجالات هو مجال الحفاظ على الأخلاق، وتعزيزها في المجتمع. الحديث يدور هنا عن القيم العائلية التقليدية، والمعارضة المشتركة للإجهاض، وما إلى ذلك، وهذا يشمل التفاعل في المجال الاجتماعي، وتكييف المهاجرين، ومساعدة الفقراء والمرضى، وكذلك المجال الذي له أهمية خاصة بلا شك، وهو المواجهة المشتركة لتحديات عصرنا، مثل الإرهاب والتطرف بكل مظاهره، ومكافحة الأوبئة، وكذلك حل المشكلات البيئية.

تُظهر قائمة واحدة من التحديات والتهديدات مدى أهمية التفاعل المشترك على نطاق عريض بين المسلمين والمسيحيين في العالم الحديث، على جميع المستويات الإقليمية والدولية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع