في ظل الصراعات المستمرة في منطقة الشرق الأوسط، تتعالىالأصوات الداعية إلى التوصل إلى حلول دبلوماسية تهدف إلى تحقيقالسلام والاستقرار في المنطقة. من بين هذه الدعوات، تبرز تصريحاتالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أكد دعمه لحل الدولتين بوصفه طريقًالإيجاد حل دائم للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأبدى قلقه من الأخطارالمحتملة للحرب بين إيران وإسرائيل. هذا التصريح جاء في سياق منتدىأعمال مجموعة بريكس في موسكو، حيث استعرض بوتين التحديات الرئيسةفي المنطقة، وأكد عدم إمكانية الاعتماد على الحلول الاقتصادية وحدها لحلالقضية الفلسطينية.
لطالما كان موقف روسيا داعمًا لحل الدولتين كخيار لتحقيق الاستقراربين إسرائيل والفلسطينيين. رؤية موسكو تستند إلى أهمية تنفيذ القراراتالدولية المتعلقة بإنشاء دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، وفقًا لقراراتالأمم المتحدة التي لم تُنفذ حتى الآن. يُعزى هذا الموقف الروسي إلىالرغبة في تعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط، وهو أمر ذو أهميةإستراتيجية لروسيا؛ نظرًا إلى تأثير استقرار المنطقة في الأمن الدولي وطرقالتجارة، بالإضافة إلى الارتباطات التاريخية والدبلوماسية بين روسيا والعالمالعربي.
شدد بوتين في كلمته على أن غياب الإرادة السياسية لتنفيذ هذهالقرارات يعد من الأسباب الرئيسة لتفاقم الأزمة. ويبدو أن روسيا تسعى أنتكون لاعبًا رئيسًا في أي تسوية محتملة، حيث أبدى بوتين استعداد بلادهللاضطلاع بدور الوسيط بين إسرائيل والفلسطينيين، بشرط وجود اهتمامحقيقي من الأطراف المعنية. يمكن أن نرى في هذا الموقف محاولة من روسيالتعزيز نفوذها في المنطقة، في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة انتقاداتبشأن عدم قدرتها على إحراز تقدم حقيقي نحو السلام.
تُشكل العلاقات المتوترة بين إيران وإسرائيل إحدى القضايا الحرجةالتي تهدد استقرار الشرق الأوسط. وفي هذا السياق، حذر الرئيس الروسيمن أخطار اندلاع حرب بين الطرفين، مشيرًا إلى أن “الحلول الوسط ممكنة، لكنها صعبة التحقيق“، وهنا تأتي أهمية الوساطة الدولية لمنع التصعيد، حيث يمكن لروسيا أن تؤدي دورًا محوريًا في هذا السياق؛ بسبب علاقتهاالقوية مع إيران، وعلاقتها المتوازنة مع إسرائيل.
إن احتمال نشوب نزاع بين إيران وإسرائيل يحمل في ثناياه تهديداتواسعة، ليس فقط على المستويات السياسية والعسكرية؛ بل أيضًا علىالمستوى الاقتصادي والاجتماعي. يُذكر أن التوتر بين الطرفين تصاعد علىمدى السنوات الماضية، لا سيما في ظل العمليات العسكرية الإسرائيلية فيسوريا، التي تستهدف مواقع تراها مرتبطة بالنفوذ الإيراني. هذا بالإضافةإلى أن البرنامج النووي الإيراني يشكل مصدر قلق لإسرائيل، التي تراهتهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
توسعت مجموعة بريكس لتشمل مصر، وإثيوبيا، وإيران، والإمارات، في خطوة تعكس رغبة المجموعة في تعزيز حضورها على الساحة الدوليةوتوسيع نطاق نفوذها في العالم. في هذا السياق، تأتي أهمية الشرقالأوسط بوصفه مركز إستراتيجيًّا للطاقة والاقتصاد، حيث تسعى القوىالدولية إلى تعزيز علاقاتها مع دول المنطقة، ومنها الدول الأعضاء الجدد فيمجموعة بريكس.
أشار بوتين إلى أن قمة بريكس المقررة في قازان ستناقش أوضاعالشرق الأوسط، مع توجيه الدعوة للرئيس الفلسطيني محمود عباسللمشاركة، وهذا يعكس اهتمام روسيا والمجموعة بشكل عام بتعزيز الحوارالإقليمي، وإيجاد حلول للمشكلات القائمة. ومع توسع المجموعة، يُتوقع أنتؤدي دورًا أكثر فاعلية في معالجة القضايا العالمية، ومنها الصراع فيالشرق الأوسط.
تسعى روسيا، من خلال مجموعة بريكس، إلى تقديم نفسها بديلًاللنموذج الغربي في إدارة الأزمات، إذ إن المجموعة، التي تضم دولًا ناميةذات إمكانات اقتصادية ضخمة، تستطيع تقديم دعم اقتصادي ودبلوماسيقد يسهم في خلق بيئة تتيح فرصًا للتسوية السلمية، لكن هذا الطموح يواجهتحديات كثيرة، من بينها تعقيدات الصراع الإقليمي، والتوازنات الدوليةالمتغيرة.
في كلمته أمام منتدى بريكس، تحدث بوتين عن الهجمات علىالأهداف المدنية في قطاع غزة، واصفًا إياها بأنها “مروعة“. هذا التصريحيعكس موقف روسيا المبدئي ضد استخدام العنف المفرط، خاصة عندمايتعلق الأمر بالمدنيين. كما انتقد بوتين المحكمة الجنائية الدولية بسبب“صمتها” عن الأحداث في الشرق الأوسط بعد تلقيها انتقادات من الولاياتالمتحدة.
يبدو أن بوتين يستخدم هذه التصريحات لتوجيه رسالة إلى المجتمعالدولي بشأن ازدواجية المعايير في التعامل مع الأزمات الدولية، حيث ترىموسكو أن تركيز الغرب على قضايا معينة، وتجاهله أخرى، يمثل إشكاليةأخلاقية وسياسية. من هذا المنطلق، تحاول روسيا تأكيد أهمية تبني نهجأكثر عدالة وشمولًا في التعامل مع الأزمات الدولية، ومنها الصراعالفلسطيني الإسرائيلي.
في سياق آخر، أعلن الرئيس الروسي عدم مشاركته في قمة مجموعةالعشرين المقبلة في البرازيل، مشيرًا إلى أن حضوره قد يؤدي إلى “إفساد” المؤتمر. هذا القرار يعكس التوترات الحالية بين روسيا والدول الغربية، التيازدادت حدتها بعد الأزمة الأوكرانية. غياب بوتين عن هذه القمة يمكن أنيُفسر على أنه إشارة إلى تعمق الفجوة بين روسيا والغرب، خاصة في ظلالعقوبات الغربية المفروضة على موسكو ومحاولاتها المستمرة لإعادة توجيهسياساتها الخارجية نحو الشرق والجنوب.
لفهم موقف روسيا الحالي من الصراع بين إيران وإسرائيل، يجبالنظر إلى التاريخ الطويل والمعقد للعلاقات بين هذه الدول. روسيا، بوصفهاخليفة للاتحاد السوفيتي، كانت داعمًا تقليديًّا للدول العربية خلال فترةالحرب الباردة، لكن انهيار الاتحاد السوفيتي فتح الباب أمام إعادة تشكيلالعلاقات الروسية في المنطقة.
من جهة، سعت روسيا منذ تسعينيات القرن الماضي إلى تطويرعلاقات إيجابية مع إسرائيل، خاصة في مجالات التكنولوجيا والتعاونالاقتصادي. ومع وجود جالية روسية كبيرة في إسرائيل، كانت العلاقات بينالبلدين تشهد تحسنًا مستمرًا، لكن ذلك لم يمنع موسكو من انتقادالسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في كثير من الأحيان.
من جهة أخرى، تُعد إيران حليفًا إستراتيجيًّا لروسيا في المنطقة، فقد تطورت العلاقات بين البلدين على نحو كبير بعد الثورة الإسلامية فيإيران عام 1979، وتعززت على نحو أكبر بعد اندلاع الأزمة السورية، حيثوقفت موسكو وطهران إلى جانب النظام السوري ضد الجماعات المسلحةالمدعومة من بعض الدول الغربية والعربية. هذا التحالف الإستراتيجي جعلروسيا لاعبًا رئيسًا في المنطقة، وساعدها على تحقيق نفوذ أكبر في الشرقالأوسط.
مع تصاعد التوترات بين إسرائيل وإيران، تسعى روسيا إلى تقديمنفسها وسيطًا محايدًا يمكنه التحدث إلى جميع الأطراف. روسيا تمتلكعلاقات قوية مع إيران، حيث تتعاون الدولتان في مجالات متعددة، منهاالطاقة والدفاع. وفي الوقت نفسه، تحتفظ موسكو بعلاقات دبلوماسية جيدةمع إسرائيل؛ مما يجعلها في وضع يمكنها من محاولة تقريب وجهات النظربين الجانبين.
لكن تجب الإشارة إلى أن قدرة روسيا على تحقيق هذا الدور تواجهتحديات كبيرة؛ فالتوترات العميقة بين إيران وإسرائيل لا تتعلق فقط بالقضاياالأمنية المباشرة؛ بل تمتد إلى القضايا الأيديولوجية والسياسية، حيث ترىكل منهما في الأخرى تهديدًا وجوديًّا؛ ومن ثم، فإن الوساطة بينهما تتطلبجهودًا دولية متضافرة، وربما ضغطًا من قوى كبرى أخرى، مثل الولاياتالمتحدة، والصين.
يبقى السؤال الرئيس عن فرص تحقيق السلام في الشرق الأوسط، في ظل التعقيدات السياسية والجيوسياسية التي تسيطر على المنطقة. منالواضح أن حل الدولتين الذي تدعمه روسيا لا يزال بعيد المنال، في ظلاستمرار بناء المستوطنات الإسرائيلية، وتراجع فرص التفاوض بين الجانبينالفلسطيني والإسرائيلي. كما أن الصراع بين إيران وإسرائيل يزيد تعقيدالمشهد؛ مما يجعل التوصل إلى تسوية شاملة أمرًا صعبًا.
مع ذلك، يمكن النظر إلى توسيع مجموعة بريكس على أنه محاولةلتعزيز الحضور الدولي للدول النامية، وقد يفتح هذا التوسع فرصًا جديدةلدعم جهود السلام في المنطقة. الدول الجديدة المنضمة إلى المجموعة، مثلإيران والإمارات، يمكن أن تؤدي دورًا في تعزيز الحوار الإقليمي، وتقديممبادرات لحل الصراعات.
الخاتمة
في الختام، تظل روسيا لاعبًا رئيسًا في منطقة الشرق الأوسط، حيثتسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين مصالحها الإستراتيجية ومبادئها المعلنة. دعم روسيا لحل الدولتين، ومساعيها للوساطة بين إيران وإسرائيل، ومشاركتها الفاعلة في مجموعة بريكس، كلها تعكس رغبتها في تعزيزنفوذها الدولي، والإسهام في تحقيق الاستقرار في المنطقة. ومع ذلك، تبقىالتحديات السياسية والإقليمية كبيرة؛ مما يجعل تحقيق السلام والاستقرارفي الشرق الأوسط مهمة معقدة تتطلب تعاونًا دوليًّا وجهودًا مشتركةتتجاوز المصالح الضيقة لكل دولة على حدة. من خلال هذا النهج الشاملوالمتوازن فقط يمكن أن نرى خطوات حقيقية نحو إحلال السلام في هذهالمنطقة المضطربة.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.