منذ نهاية الحرب الباردة، ظلت آسيا الوسطى ساحة تنافس بين القوى الكبرى، حيث تراها روسيا امتدادًا طبيعيًّا لمجالها الحيوي، في حين تنظر إليها الصين بوصفها ركيزة لمبادرة “الحزام والطريق”، وممرًا إستراتيجيًّا للطاقة والتجارة. في المقابل، بدت الولايات المتحدة مترددة في تحويل اهتمامها الاقتصادي والسياسي بالمنطقة إلى حضور مستدام، مكتفية بدور ثانوي يتأرجح بين دعم الإصلاحات وتشجيع الاستثمارات. وبينما العالم منشغل في اجتماعات الأمم المتحدة التي تناقش قضايا شائكة، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في سبتمبر (أيلول) الجاري صفقات عظيمة -وفقًا لتعبيره- مع كازاخستان وأوزبكستان، تبلغ أكثر من 12 مليار دولار؛ الأولى بقيمة 4.2 مليار دولار لشراء قاطرات أمريكية في أكبر صفقة للسكك الحديدية في التاريخ، والثانية بقيمة 8 مليارات دولار لشراء طائرات من “بوينغ“، ليعيد تسليط الضوء على التحولات الجيوسياسية في قلب أوراسيا. هذه الصفقات لا تعكس مجرد انفتاح اقتصادي؛ بل تمثل إشارة إلى عودة واشنطن لاستخدام أدواتها الاقتصادية مدخلًا إلى اختراق مناطق النفوذ للقوى الإقليمية والدولية، وهو ما يثير جملة من التساؤلات الجوهرية عن دلالات تلك الصفقات وأهدافها وانعكاساتها المستقبلية؛ فهل تمثل هذه العقود مجرد محاولة من إدارة ترمب لتوسيع نطاق النفوذ الاقتصادي الأمريكي في منطقة لطالما كانت على هامش أولويات واشنطن، أم أنها خطوة مدروسة لإعادة رسم خريطة التوازنات في قلب أوراسيا؟ وإلى أي مدى يمكن أن تقوض هذه التحركات النفوذين الروسي والصيني اللذين يتغلغلان في البنية الاقتصادية والأمنية لدول هذه المنطقة منذ عقود؟ وهل ستفتح هذه الصفقات الباب أمام شراكات طويلة الأمد تخلق اعتمادًا هيكليًّا على التكنولوجيا والبنية التحتية الأمريكية، أم أنها ستظل رهينة لبراغماتية ترمب القائمة على الربح السريع؟ والأهم، كيف ستعيد هذه التطورات صياغة مستقبل العلاقات بين آسيا الوسطى والولايات المتحدة في ظل إدارة ترمب؟
إن اختيار التكنولوجيا والشركات الأمريكية في مجالات حيوية -كالسكك الحديدية والطيران- لا يعني مجرد تحديث للبنية التحتية؛ بل يعكس رسالة سياسية واضحة بأن واشنطن تمتلك أوراق ضغط جديدة في قلب أوراسيا، وتفتح الباب أمام تقاطعات أمنية وعسكرية محتملة تحت غطاء التعاون الاقتصادي، وفي هذا الصدد يمكن الوقوف على أبرز أهداف الولايات المتحدة في وسط آسيا:
تحمل صفقات القاطرات الأمريكية مع كازاخستان وصفقة الطائرات مع أوزبكستان دلالات تتجاوز بعدها الاقتصادي المباشر، إذ تكشف عن تحول إستراتيجي في توجهات البلدين، ورغبتهما في إعادة صياغة علاقاتهما مع القوى الكبرى، تتضح فيما يلي:
تشكل صفقتا القاطرات الأمريكية مع كازاخستان والطائرات مع أوزبكستان نقطة تحول في معادلات النفوذ في المنطقة، فبالنظر إلى دول آسيا الوسطى الأخرى (قرغيزستان وتركمانستان وطاجيكستان)، فإن نجاح كازاخستان وأوزبكستان في جذب استثمارات أمريكية بهذا الحجم قد يشجعها على البحث عن صفقات مشابهة لكسر هيمنة الصين وروسيا؛ ما يخلق دينامية جديدة من التنافس داخل آسيا الوسطى، حيث ستسعى كل دولة إلى تنويع شركائها، والابتعاد عن الارتهان لقطب واحد.
وتمثل الصفقات ضربة مباشرة لروسيا، التي لطالما اعتبرت البنية التحتية في كازاخستان وأوزبكستان جزءًا من مجالها الحيوي التاريخي؛ لذا فإن دخول الشركات الأمريكية في قطاع السكك الحديدية الكازاخي والطيران الأوزبكي يحدّ قدرة موسكو على التحكم في مفاصل النقل والتجارة الإقليمية، وسياسيًّا، ينذر ذلك بتآكل مكانة روسيا بوصفها حليفًا لدول آسيا الوسطى، أما أمنيًّا فقد يدفع الكرملين إلى استخدام أدوات الردع غير المباشر على غرار زيادة نفوذها عبر منظمة معاهدة الأمن الجماعي أو الضغط عبر أسعار الطاقة. هذه الصفقات تعزز صورة التراجع الروسي في محيطه المباشر، وهو ما يضعف هيبته أمام شعوب المنطقة.
تأتي الصفقات في وقت تحاول بكين ترسيخ مشروع “الحزام والطريق” الذي يمر عبر آسيا الوسطى؛ ما يشير إلى أن استحواذ الشركات الأمريكية على عقود ضخمة في قطاعات النقل والطيران يقوض خطط الصين لتكون الشريك الاقتصادي المهيمن في المنطقة، ومن المحتمل أن تدفع هذه التطورات بكين إلى زيادة استثماراتها، أو تقديم تسهيلات مالية سخية لدول آسيا الوسطى لكي تمنع انزلاقها إلى الفلك الأمريكي. كما أن دخول واشنطن على خط البنية التحتية يخلق منافسة مباشرة بين النموذج الصيني القائم على القروض والاستثمارات الطويلة الأمد، والنموذج الأمريكي القائم على الصفقات التجارية المربحة.
أما فيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي فتمثل هذه الصفقات سلاحًا ذا حدين؛ فمن جهة، قد يستفيد الأوروبيون من تحسين البنية التحتية في كازاخستان، وتوسيع قطاع الطيران الأوزبكي بما يسهل التجارة والاتصال مع أوروبا، ومن جهة أخرى، تعني هذه الخطوات تعزيز الهيمنة الأمريكية على الأسواق التي كان الاتحاد يطمح إلى اقتحامها من خلال برامج الربط العالمي البديلة عن الحزام والطريق؛ ما يعني أن الدول الأوروبية مضطرة إلى التنسيق مع واشنطن للانخراط في آسيا الوسطى، فيما ترى تركيا في آسيا الوسطى امتدادًا طبيعيًّا لها بحكم الروابط الثقافية واللغوية، فإن دخول واشنطن بقوة عبر هذه الصفقات يخلق منافسًا صعبًا لأنقرة في مجالات النقل والطيران. ومع ذلك، قد تفتح هذه الخطوة الباب أمام تحالفات ثلاثية (أمريكية- تركية- آسيوية) في مواجهة الصين وروسيا. وعلى النقيض، تنظر إيران إلى هذه الصفقات بحذر؛ إذ تسعى إلى تعزيز ربط آسيا الوسطى بموانيها على الخليج؛ لذا فإن وجود واشنطن في مشروعات النقل والطيران يضعف قدرة طهران على أداء هذا الدور، وقد يدفعها ذلك إلى التقارب أكثر مع موسكو وبكين لموازنة النفوذ الأمريكي.
ولعل تلك الصفقات تدخل ضمن مشهد أوسع من إعادة رسم التوازنات الدولية، فبدلًا من أن تبقى آسيا الوسطى مجالًا شبه مغلق لروسيا والصين، باتت الآن ساحة تنافس ثلاثي أمريكي- روسي- صيني. هذه الدينامية الجديدة قد تؤدي إلى تصاعد سباق النفوذ من خلال الاستثمارات والمساعدات والقروض، إلى جانب احتمالات التوتر الجيوسياسي إذا شعرت موسكو أو بكين بأن واشنطن تتجاوز الخطوط الحمراء، فضلًا عن بروز آسيا الوسطى بوصفها مركز صراع بارد جديد يوازي ما يحدث في الشرق الأوسط، أو شرق آسيا.
مع توقيع صفقات ضخمة بين إدارة ترمب ودول آسيا الوسطى بات واضحًا أن المنطقة عادت لتشكل أولوية ضمن الحسابات الإستراتيجية الأمريكية، فترمب أعاد إحياء أسلوبه التقليدي في استخدام الدبلوماسية الاقتصادية القائمة على الصفقات مدخلًا إلى اختراق مناطق نفوذ جديدة، وهو ما يفتح الباب أمام إعادة تعريف طبيعة العلاقات بين واشنطن وعواصم آسيا الوسطى، هذه العودة تحمل في طياتها أبعادًا سياسية وأمنية وجيوستراتيجية ستحدد مستقبل التوازنات في قلب أوراسيا خلال السنوات القليلة المقبلة. ويبدو أن مستقبل العلاقات بين إدارة ترمب ودول آسيا الوسطى سيتحدد وفق منطق الصفقات الاقتصادية الكبرى أكثر من كونه محكومًا باعتبارات أيديولوجية، أو التزامات أمنية تقليدية، إذ يسعى ترمب إلى توظيف النفوذ الاقتصادي الأمريكي وسيلةً لتعزيز الحضور الإستراتيجي، في حين ترى عواصم آسيا الوسطى أن الدخول في عقود بمليارات الدولارات مع الشركات الأمريكية يمثل فرصة لتنويع الشراكات، وتخفيف التبعية لموسكو وبكين. وهذا النمط من العلاقات يعكس تحولًا من التعاون المؤسسي إلى التعاون المصلحي؛ مما يجعل استمراريته مرهونة بمدى قدرة الطرفين على تحقيق مكاسب ملموسة.
تُدرك دول آسيا الوسطى أن اهتمام ترمب بالمنطقة يعزز قيمتها كورقة مساومة إستراتيجية في لعبة التوازنات الكبرى، فبإمكانها أن تستخدم انفتاحها على واشنطن وسيلةً للضغط على روسيا والصين للحصول على شروط أفضل في مجالات الطاقة والتجارة والدعم الأمني، ما يفتح المجال أمام سياسات خارجية أكثر براغماتية لدى كازاخستان وأوزبكستان، حيث تسعى كل دولة إلى الاستفادة من التنافس الأمريكي- الروسي- الصيني من خلال انتهاج سياسات توازن دقيقة تحفظ لها استقلالية القرار.
وعلى الرغم من الحجم الضخم للصفقات الأخيرة، فإن مستقبل العلاقات يظل محكومًا بـحدود موضوعية للانخراط الأمريكي، إذ تبقى المنطقة بعيدة جغرافيًّا عن مراكز الثقل الأمريكية التقليدية، كما أن واشنطن لا تزال مترددة في تحمل تكاليف أمنية أو سياسية كبيرة في فضاء نفوذ روسيا والصين؛ ومن ثم فإن علاقات ترمب مع آسيا الوسطى قد تبقى اقتصادية رمزية أكثر من كونها أمنية مؤسسية، وهو ما يميزها عن العلاقات الأمريكية مع الدول الأوروبية، أو الشرق الأوسط.
مع ذلك، تفتح هذه الصفقات الباب أمام احتمالية بناء شراكات طويلة الأمد إذا ما تمكنت الشركات الأمريكية من تعزيز حضورها في مجالات البنية التحتية والطاقة والتكنولوجيا، فالتشابكات الاقتصادية العميقة قد تؤدي تدريجيًّا إلى خلق دوائر نفوذ مؤسسية، وإذا استمرت واشنطن على هذا النهج، فإن دول آسيا الوسطى قد تتحول إلى جسر أوراسي يتيح للولايات المتحدة إعادة التموضع الإستراتيجي في قلب القارة، بعيدًا عن الاعتماد على أدوات القوة الصلبة التقليدية.
تكشف الصفقات الأمريكية الأخيرة مع كازاخستان وأوزبكستان عن موجة جديدة من التغلغل الأمريكي في آسيا الوسطى، حيث تُستخدم الأدوات الاقتصادية والتجارية وسيلة لبناء تحالفات سياسية وأمنية قد تتحول تدريجيًّا إلى ترتيبات ذات بعد عسكري، لا تكمن أهميتها فقط في قيمة الصفقات التي بلغت نحو 12.2 مليار دولار مجتمعة؛ بل في رمزية القطاعات المستهدفة؛ البنية التحتية الإستراتيجية، والطيران المدني، وهذا يشير إلى أن واشنطن تسعى إلى إعادة رسم ملامح النفوذ في قلب القارة الأوراسية من خلال صفقات تجارية تحمل أبعادًا جيوسياسية أعمق، حيث تمثل هذه الخطوة بداية موجة جديدة من التنافس الجيوسياسي الثلاثي، قد تجعل آسيا الوسطى إحدى النقاط الساخنة في النظام العالمي خلال العقد المقبل، غير أن نجاح الإستراتيجية الأمريكية سيبقى مرهونًا بقدرة ترمب على الحفاظ على توازن دقيق بين الطموحات الأمريكية والقيود الجيوسياسية الصلبة التي تفرضها موسكو وبكين؛ ومن ثم يبدو مستقبل التعاون بين الولايات المتحدة ودول آسيا الوسطى وكأنه اختبار لمدى فاعلية دبلوماسية الصفقات لإعادة تشكيل النظام الدولي في مرحلة ما بعد الهيمنة الأمريكية التقليدية.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.