يبدو الآن أن تنبؤات المحلل الجيوسياسي جورج فريدمان في عام 2009 بشأن الشرق الأوسط تتحقق قبل أوانها؛ إذ توقع أنه بحلول أواخر عشرينيات القرن الحادي والعشرين، سوف تصبح العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا مضطربة، وسوف تسعى تركيا إلى التوسع الإقليمي وتصوير نفسها على أنها قوة إسلامية، وأنه بحلول أربعينيات القرن الحادي والعشرين سوف تخيف التحركات التركية إسرائيل، وهو ما حدث بالفعل، لا سيما أن التطورات الأخيرة في سوريا وضعت تركيا وإسرائيل على طرفي نقيض، وحولت العلاقات بين أنقرة وتل أبيب من التطبيع والتعاون إلى مواجهة مباشرة، مدفوعة بتضارب المصالح الحيوية، ويترك هذا الوضع الباب مفتوحًا أمام مخاوف مستقبلية من تداعيات أصعب على المنطقة.
تقترب المنافسة بين إسرائيل وتركيا من منعطف خطير مع مواجهة كل من هاتين القوتين الإقليميتين للأخرى في سوريا، في ظل حالة من عدم اليقين، واختلال الميزان بين محفزات المواجهة وملامح التقارب، فإسرائيل تُعطي الأولوية لأمنها القومي، في حين تسعى تركيا إلى الهيمنة الإقليمية، وأي خطأ في التقدير قد يُشعل صدامًا أوسع نطاقًا، وحربًا مفتوحة بين الطرفين؛ ما يفرض تساؤلات عدة، لعل أبرزها: هل تشير المصالح المتباينة إلى مواجهة عسكرية محتملة في سوريا؟ وما السيناريوهات المحتملة للعلاقات التركية الإسرائيلية على المدى المنظور؟ وأخيرًا، ما مسارات التحرك الإسرائيلية لمواجهة طموح تركيا في سوريا؟
أتاح سقوط نظام بشار الأسد لتركيا فرصةً مهمةً لتعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية مع النظام السوري الجديد، بالإضافة إلى تسهيل عودة اللاجئين السوريين من تركيا، كما سمح هذا التحول لتركيا بإعادة تموضعها الإستراتيجي في المنطقة، والآن تسعى أنقرة إلى رفع جميع العقوبات الغربية عن سوريا؛ لأن أنقرة لا ترغب في رؤية انهيار الدولة السورية مع بروز فراغات خطيرة في السلطة، فقد يُحدث هذا السيناريو حالة من عدم الاستقرار الشامل، ويمنح الجماعات الإرهابية، وفي مقدمتهم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، مناخًا مناسبًا لانتشاره، وقد تمتد هذه الاضطرابات والأزمات الأمنية بسهولة إلى تركيا، التي تشترك مع سوريا في حدود بطول 900 كيلومتر.
فضلًا عن هذا، فإن بناء الدولة السورية الجديدة يمكّن تركيا من المضي قدمًا في مسار إعادة الإعمار والتنمية، إذ ستضطلع شركات البناء والتصنيع التركية بدور محوري في إعادة تنمية سوريا، من خلال تأمين عقود مشروعات ضخمة؛ ومن ثم فإن المصالح الاقتصادية التركية نفسها فاعلة في مستقبل سوريا، وتتضمن إلى جانب إعادة الإعمار عدة مشروعات محورية للاقتصاد التركي، على غرار مشروع خط أنابيب غاز مقترح من قطر عبر سوريا إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا.
وعلى عكس أنقرة التي ترى في استقرار الدولة السورية منقذًا لنفوذها في المنطقة، تحارب تل أبيب من أجل ضعف سوريا، وغياب سلطة مركزية في دمشق، خاصةً في ظل المرجعية الدينية للحكومة الانتقالية السورية؛ لذا تأمل إسرائيل رؤية سوريا مجزّأة وضعيفة، استنادًا إلى حساباتها بأن سوريا المنقسمة هي أفضل ضمانة لأمنها، وأن سوريا الموحدة قد تشكل في نهاية المطاف تهديدًا للمخططات الإسرائيلية في المنطقة.
ففور سقوط الأسد في ديسمبر (كانون الأول) المنصرم، بدأ الجيش الإسرائيلي بقصف دمشق وأجزاء من الجنوب السوري بحجة حماية الأقلية الدرزية، ودعت إسرائيل إلى نزع السلاح كليًّا من جنوب سوريا، إذ سعت إلى تمديد وجودها العسكري إلى ما وراء مرتفعات الجولان، ووسعت منطقتها العازلة، في حين أجرت عمليات لمنع القوى المعادية من تعزيز قوتها بالقرب من حدودها. في غضون ذلك، اكتسبت إسرائيل مزايا تكتيكية لاستهداف الهياكل العسكرية السورية، وتوسيع نفوذها جزئيًّا عبر الحدود، ما مكن تل أبيب من اتخاذ إجراءات عدوانية ضد سوريا لإضعاف قدراتها، وفرض أمر واقع صعب على أي قيادة سورية حالية أو مستقبلية، يترك سوريا تواجه خيارات صعبة بين التطبيع، أو قبول حالتها الضعيفة، أو المواجهة العسكرية.
يكشف ما سبق عن تعارض جلي في مصالح إسرائيل وتركيا بشأن مستقبل الدولة السورية، فبينما تدعم تركيا النظام السوري الجديد، تدعم إسرائيل الانقسامات الطائفية والعرقية؛ سعيًا إلى إبقاء الحكومة السورية الجديدة ضعيفة، ويرتبط هذا بأن التوجهات والسياسات الجديدة للقيادة الجديدة غامضة، ومن ناحية أخرى، تشكل أيديولوجيتها الإسلامية الجهادية مصدر قلق كبير للحكومة الإسرائيلية، يضاف إلى ذلك الدور المتنامي لتركيا في الأزمة السورية، حيث تضع نفسها قوةً إقليميةً مهيمنة تملأ الفراغ الذي خلّفته روسيا وإيران.
تدفع طبيعة المعطيات المركبة إلى سيناريوهين أساسيين أمام تركيا وإسرائيل في الساحة السورية، يتمثلان في:
يقضى هذا السيناريو -المرتبط بطبيعة السياق العام الراهن في المنطقة- بأن المواجهة بين أنقرة وتل أبيب ستكون مواجهة محدودة، حيث تخفف عدة عوامل من احتمالية أن تُشكل تركيا تهديدًا مباشرًا وفوريًّا لأمن إسرائيل، فكلتا الدولتين تحافظ على علاقات إستراتيجية مع الولايات المتحدة، ومن شأن المواجهة العسكرية أن تُعرض مصالحهما لأخطار إستراتيجية جسيمة، وفي هذا السياق، يعزّز حدوث هذا السيناريو ما يلي:
يفترض هذا السيناريو تصعيد الخلاف بين تركيا وإسرائيل في سوريا إلى المواجهة العسكرية، سواء أكانت على نحو مباشر عبر حرب مفتوحة، أم غير مباشر من خلال وكلاء، أو أعمال سرية، أو مناورات دبلوماسية، فإذا شنّ فصيل مدعوم من تركيا في سوريا هجمات على الجيش الإسرائيلي، فقد ترد إسرائيل باستهداف وكلاء تركيا، أو خطوط الإمداد التركية، وبدورها قد تُصور أنقرة هذا الهجوم على أنه هجوم على مصالحها الأساسية، مُبررةً بذلك ردًّا عسكريًّا مناسبًا، لا سيما أن تاريخ تركيا في تسليح وكلائها الإقليميين، والموقف العسكري الإسرائيلي العدواني في المنطقة، يجعلان هذا السيناريو محتملًا، إذ يتزايد الخطر كلما رسخت تركيا نفوذها في سوريا.
ومع أن الاشتباكات الأولية قد تبقى محدودة، فإن التصعيد قد يستدعي تدخل القوات الجوية أو البرية التركية، خاصةً إذا تزايدت الخسائر، وإذا واجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تحديات سياسية أو اقتصادية محلية جديدة، فقد يُعزز هذا موقفه المناهض لإسرائيل لحشد الدعم القومي، في حين أنه إذا أثارت تركيا حفيظة إسرائيل في سوريا، فإن ذلك قد يدفع تل أبيب إلى الرد، وهو ما يؤدي إلى صراع أوسع نطاقًا؛ لذا تتضح دعائم هذا السيناريو في تنامي محفزات المواجهة العسكرية بين الطرفين كما يلي:
استنادًا إلى الطرح السابق، فإن المسار الأول والأكثر ترجيحًا أمام إسرائيل في سوريا هو ممارسة الضغط الدبلوماسي على تركيا من خلال الحلفاء، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، ومع أن تلك الإستراتيجية منخفضة المخاطر للتعبير عن معارضة إسرائيل للنشاط التركي في سوريا، فإن فعاليتها موضع شك، فحتى الآن، ترددت الولايات المتحدة والدول الأوروبية في مواجهة أنقرة بشأن نهجها تجاه دمشق، في حين أن البديل الثاني، الذي قد يُعدّ الأكثر فاعلية، هو الحرب السرية؛ إذ يمكن للقوات الخاصة الإسرائيلية، أو وحداتها السيبرانية، استهداف الأصول التركية بطرائق تتيح إنكارًا سهلًا للحكومة الإسرائيلية، وهذا يمنح أنقرة خيار تهدئة التوتر؛ بتجاهل الهجمات، أو التقليل من شأنها، لكن لن يمنع هذا خطر الرد التركي، خاصة إذا رأت أنقرة في تلك العمليات تجاوزًا للخط الأحمر.
فيما يركز الخيار الثالث لإسرائيل في مواجهة نفوذ تركيا المتزايد في سوريا على ضرب حلفاء أنقرة في دمشق بدلًا من القوات التركية مباشرةً، وقد هددت إسرائيل بالفعل بمهاجمة النظام الجديد، الذي يُمثل جوهر النفوذ التركي في سوريا؛ ومن ثم فإن استهداف حكومة الجولاني وقواته من شأنه أن يُقوض إستراتيجية تركيا دون أن يُشعل فتيل صدام مباشر. ومن جانبها، ترمي تركيا -على الأرجح- إلى تجنب صراع مباشر يحمل تداعيات خطيرة على خطة تركيا في المنطقة، غير أن هذا لا يمنعها من التحوط بشأن احتمال استهداف إسرائيل لمصالحها على نحو مباشر أو غير مباشر في سوريا، خاصة في ظل دعم إسرائيل للأكراد في شمال سوريا، الذين هددت أنقرة بعملية عسكرية ضدهم ما لم يُنزَع سلاحهم.
محصلة القول أنه إذا تُرك مسار إسرائيل الحالي دون رادع، فقد يُطلق العنان لسيناريوهات عدة خطيرة، تتضمن تصاعد الاشتباكات مع القوات السورية، والتورط في صراع طائفي يفضي إلى تقسيم سوريا إلى دويلات، أو حتى مواجهة مباشرة مع القوات التركية. وفي وقت لا تزال فيه الحروب القائمة بين إسرائيل ودول المنطقة دون حل، فإن فتح ساحة جديدة يُمثل خطرًا لا تستطيع المنطقة تحمل تبعاته. ومع أن القوة العسكرية التركية، ونفوذها الإقليمي، وعداءها الأيديولوجي تُشكل تحديًا كبيرًا لإسرائيل، لا سيما في الساحة السورية، فإن اندلاع حرب إسرائيلية تركية مباشرة ليس وشيكًا؛ استنادًا إلى المتغيرات الحالية، والقيود الإقليمية والدولية، وقوة الردع المتبادل؛ ومن ثم فإن التحرك العسكري الإسرائيلي في سوريا -وجديته في مواجهة النفوذ التركي- يتوقف على مدى قدرة أنقرة على ترجمة خطابها العدواني إلى أفعال ملموسة ضد تل أبيب.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.