أبحاث ودراسات

حسابات الجيران.. آسيا الوسطى وأفغانستان


  • 20 سبتمبر 2024

شارك الموضوع

تبنت الجمهوريات الخمس نهجًا عدائيًّا تجاه طالبان، بدأ منذ وصولها الأول إلى السلطة في 2001؛ خوفًا من انتشار أيديولوجية الديوبندية المتطرفة، خاصة في طاجيكستان وأوزبكستان، على الرغم من الروابط الاجتماعية والثقافية المشتركة بينهما؛ ولهذا احتل الأمن المرتبة الأولى على أجندة دول آسيا الوسطى تجاه أفغانستان، في ظل الصراع الطويل الأمد في الداخل الأفغاني، والاقتصاد المضطرب، والنزاعات حول المياه، وتداعيات التغيرات المناخية، وتنامي عمليات الجماعات الإرهابية الأفغانية، وسعيها أن تكون آسيا الوسطى معقلًا جديدًا لأنشطتهم.

وبينما بدأت العلاقة بين طالبان وآسيا الوسطى بالمواجهة والارتباك، فإن التطورات الراهنة تفرض واقعًا مغايرًا أمام الجمهوريات الخمس، يستوجب تطوير نهج مشترك ومنسق للتعامل مع أفغانستان، في ظل التوترات الجيوسياسية الحالية في المنطقة التي تجعل دول آسيا الوسطى مسؤولة عن ترسيخ قواعد الاستقرار في المنطقة.

ديناميكيات تحول العلاقات بين دول آسيا الوسطى وطالبان

كان لانهيار جمهورية أفغانستان الإسلامية في أغسطس (آب) 2021 تأثير مباشر على جيرانها في آسيا الوسطى، بدايةً من فرار الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني إلى أوزباكستان بعد ما استولى طالبان على كابول، غير أن العلاقة المتوترة بين طشقند والرئيس الأفغاني السابق أدت إلى سفره لاحقًا إلى الإمارات. خلال هذه الفترة، فر أكثر من خمسين فردًا من القوات الجوية الأفغانية بطائراتهم، وهبط بعضهم في طاجيكستان، وهبط آخرون في ترميز بأوزباكستان، وطالبت حركة طالبان بإعادة الطائرات، لكن أوزباكستان -على وجه الخصوص- سلمتها إلى الولايات المتحدة بدلًا من ذلك، وأصرت على أنها مملوكة للولايات المتحدة. في تلك الأثناء، أثير قلق بالغ من معدل تدفق اللاجئين الكبير عبر الحدود إلى آسيا الوسطى، ولم تسمح طاجيكستان وأوزباكستان وتركمانستان للمواطنين الأفغان بدخول أراضيها، ولم يُسمح إلا لعدد قليل من الوفود الرفيعة المستوى بالدخول.

فبعد عودة الجماعة الأفغانية إلى السلطة في أغسطس (آب) 2021، ظلت كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان ترى أن طالبان حركة إرهابية محظورة لا يمكن التعامل، أو إجراء أي مفاوضات رسمية معها، في حين تعاملت أوزباكستان وتركمانستان مع طالبان تعاملًا أكثر حرية، إذ لم تصنف الحركة إرهابية من الأساس، وشرعت أوزباكستان في إقامة حوار تدريجي، فقد أخذت تتبادل مع أفغانستان الوفود التمثيلية بانتظام. وفي نهاية شهر أغسطس (آب) الماضي، زار رئيس وزراء أوزبكستان كابول لمناقشة مستقبل العلاقة بين البلدين، وفي ضوء هذا، سعت الحكومتان التركمانية والأوزبكية إلى تدشين علاقات وثيقة مع كابول، ركيزتها الأساسية التعاون الاقتصادي والأمني، وعلى الرغم من قبضة طالبان المتشددة على السلطة، فإن زعماء آسيا الوسطى، الذين فضلوا الاستقرار على الديمقراطية فترة طويلة، رأوا أن حركة طالبان قد تصبح حليفًا موثوقًا به في المنطقة، فقد أتاح سقوط الجمهورية الأفغانية لآسيا الوسطى فرصة استثنائية لإعادة الاتصال بأفغانستان بطرق جديدة.

أولويات علاقات آسيا الوسطى بأفغانستان

ارتكزت العلاقة بين طالبان وجيرانها في وسط آسيا على تكامل المصالح، ففي حين تطمح طالبان إلى التجارة لتخفيف الضربة الاقتصادية التي تعرض لها النظام عندما انتهت المساعدات الأجنبية، تبحث دول آسيا الوسطى عن الاستقرار والأمن، وقد تتطلع إلى ما هو أبعد؛ من خلال بناء مشروعات بنية تحتية ضخمة، واستعادة الروابط العميقة مع أفغانستان لتسهيل التبادل التجاري.

وفي سبيل هذا، أطلقت دول آسيا الوسطى آلية الاجتماعات التشاورية، التي كانت بمنزلة بداية لموجة جديدة من التكامل الإقليمي، رسخ دعائمها النية لإقامة حوار منتظم بين أمناء مجالس الأمن في الجمهوريات الخمس، وبالفعل عُقد الاجتماع الأول لرؤساء مجالس الأمن في مايو (أيار) 2024 في عاصمة كازاخستان لتناقش فيه الجمهوريات الخمس أولوياتها في المنطقة، خاصة فيما يخص دول الجوار كأفغانستان، وفي هذا السياق تتضح خريطة أولويات الستانات الخمس فيما يلي:

 الملف الاقتصادي على رأس هرم تلك الأولويات، إذ أصبحت آسيا الوسطى مرتبطة بأفغانستان من خلال تنفيذ كثير من المشروعات الكبرى التي تهم المنطقة، ومركزها كابول، حيث تطمح دول آسيا الوسطى إلى زيادة التبادل التجاري مع باكستان والهند عبر أفغانستان، بعد أن كان هذا مستحيلًا طوال 33 عامًا من استقلال دول آسيا الوسطى بسبب عدم استقرار الداخل الأفغاني.

ومنذ أيام قليلة، احتفلت كابول وعشق آباد باستكمال البناء على الجانب التركماني لخط أنابيب الغاز “تابي” الذي تم التخطيط له منذ عام 1990 ليعبر تركمانستان وأفغانستان وباكستان والهند، بقيمة نحو 10 مليارات دولار، ويسمح باستخراج قرابة 33 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي كل عام من حقل غالكينيش (جنوب غرب تركمانستان) الذي يُعد أحد أكبر الحقول في العالم، والأول من حيث الاحتياطات، وسيمر الغاز في خط أنابيب بطول 1800 كيلومتر يعبر أفغانستان بما يشمل هرات وقندهار في الجنوب، قبل الوصول إلى ولاية بلوشستان المضطربة في باكستان، ومنها إلى المحطة النهائية في فاضلكه في ولاية البنجاب الهندية.

وستشتري كل من باكستان والهند 42% من إمدادات الغاز، وأفغانستان 16%، فيما تستفيد كابول من رسوم عبور تقدر بنحو 500 مليون دولار سنويًّا؛ ومن ثم سيمنح هذا المشروع حكومة لطالبان دورًا إستراتيجيًّا في التعاون الإقليمي بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا الذي يشهد أزمة طاقة كبيرة.

وفضلًا عن مشروع “تابي”، يُعد مشروع “كاسا- 1000″، المخطط له أن يوفر 1300 ميغاوات من الكهرباء الفائضة المنتجة بالطاقة الكهرومائية من قيرغيزستان وطاجيكستان إلى باكستان وأفغانستان في أشهر الصيف، من خلال بنية تحتية جديدة للطاقة تمتد إلى مسافة 1300 كيلومتر، يُعد ركيزة للتعاون المشترك بين دول آسيا الوسطى وأفغانستان بقيمة 1.2 مليار دولار.

كما حصلت طشقند مؤخرًا على دعم قطر لخط السكك الحديدية العابر لأفغانستان، الذي يبلغ طوله 573 كيلومترًا لربط أوزباكستان بباكستان عبر أفغانستان. ومع أن المشروع سيدعم التجارة بين باكستان وآسيا الوسطى، فإن أفغانستان ستستفيد أيضًا من عوائد هذا المشروع، لا سيما في إطار اهتمام أوزباكستان بتعزيز العلاقات الاقتصادية مع أفغانستان، دلل على هذا زيارة رئيس الوزراء الأوزبكي لكابول الشهر الماضي، التي أسفرت عن إبرام 35 اتفاقية استثمارية وتجارية بقيمة 2.5 مليار دولار، بهدف زيادة التجارة الثنائية إلى 3 مليارات دولار، بالتزامن مع استضافة كابول اجتماعًا ثلاثيًّا لوزراء اقتصاد أفغانستان، وأوزباكستان، وأذربيجان، بشأن سبل تعزيز العلاقات التجارية الإقليمية.

2- الملف الأمني: تظل أفغانستان ملاذًا آمنًا للجماعات الإسلامية المتطرفة، وبعد انسحاب قوات حلف الناتو من أفغانستان وسيطرة طالبان على حكم البلاد، تضاعف عدد مقاتلي تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية في البلاد؛ ومن ثم زادت الأنشطة الإرهابية، وكان أحدثها في 13 سبتمبر (أيلول)، حيث أعلن تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان مسؤوليته عن هجوم دامٍ في وسط أفغانستان، أسفر عن مقتل نحو 14 شيعيًّا، ما ينعكس سلبًا على أمن بلدان آسيا الوسطى في ظل تمدد عناصر تنظيم داعش خراسان إلى بلدان آسيا الوسطى، خاصةً طاجيكستان.

3- ملف المياه: تبني حركة طالبان قناة قوش تيبا باستخدام مياه نهر آمو داريا، وهو النهر الذي يفصل أجزاء كبيرة من آسيا الوسطى عن أفغانستان، إذ ينبع نهر آمو داريا من طاجيكستان، ويتجه غربًا إلى أوزبكستان، وعلى مقربة من تركمانستان، يتجه شمالًا، ويمر ذهابًا وإيابًا عبر عشرات المجتمعات الزراعية في تركمانستان وأوزبكستان. وبموجب القانون الدولي، تتمتع أفغانستان بالحق في مياه نهر آمو داريا مثل جيرانها في آسيا الوسطى، غير أن بناء القناة واجه توترات بين الجمهوريات الخمس وكابول؛ لأن قناة الري التي أنشأتها طالبان في قوش تيبا سوف تحول ما يصل إلى 15% من مياه النهر بعيدًا عن أوزباكستان وتركمانستان اللتين تعانيان نقص المياه، كما يواجه مشروع القناة نزاعات بين أفغانستان وإيران واشتباكات متكررة على طول الحدود الأفغانية الإيرانية.

الخاتمة

لقد أنفقت دول آسيا الوسطى العقود الماضية في تعزيز دفاعاتها على طول حدودها مع أفغانستان لمنع التهديدات الأمنية من الامتداد إلى البلدان الخمس، غير أنه في السنوات الأخيرة تحسنت النظرة تجاه كابول، ونسجت دول آسيا الوسطى -باستثناء طاجيكستان- علاقات محدودة ومدروسة مع طالبان، إذ أخذت الجمهوريات الخمس في الحسبان الديناميكيات الحاسمة للأمن والاقتصاد في أثناء استيعابها حركة طالبان في ظل التطورات الحالية التي تعصف بالمنطقة.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع