
في مساء يوم بارد من نوفمبر (تشرين الثاني)، بدت موسكو وواشنطن وكأنهما تعيدان تمثيل مشهد من مطلع ثمانينيات القرن الماضي؛ فالبيت الأبيض أعلن -عبر مجلة نيوزويك، مساء الاثنين، 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025- استعداد الولايات المتحدة لاختبار الصاروخ الأمريكي الباليستي العابر للقارات Minuteman III القادر على حمل رأس نووي.
المشهد هذه المرة بالطبع لا يتكرر بالملامح القديمة نفسها، فالزمن ليس هو الزمن، والوضع مختلف، فالعالم لم يعد منقسمًا إلى اثنين، كما كانت الحال في ذلك الزمن، أي بين معسكرين صلبين، حلف الناتو وحلف وارسو.
عالم اليوم أكثر هشاشة بكثير من عالم ذلك الوقت، يعيش توازنات تقف على أعمدة هزيلة، ويعيش أزمات متداخلة في كل أنحائه تقريبًا.
ومع ذلك، فإن إعلان التجربة الأمريكية الأخيرة، بعد تجارب بوتين خلال الأسبوع الماضي، التي تناولتها في مقالين متتاليين، يأتي ليؤكد -في رأيي- أن الردع النووي عاد إلى قلب السياسة الدولية، وأن ما كنا نعده ونعتبره أدوات رمزية لاستعراض القوة يتحول مجددًا إلى أداة تفاوض حقيقية، ويبدو ستكون ناجعة.
الروس لم يتأخروا كثيرًا في الرد هذه المرة على الإعلان الأمريكي؛ فصرح المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف أن موسكو “سوف تتصرف بناءً على تطورات الموقف” إذا تجاوزت أي دولة حدود معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية.
بيسكوف أعاد التأكيد مجددًا أن تجارب روسيا على صاروخ “بوريفيستنك” لا يمكن اعتبارها نووية، وهو هنا بالطبع يقصد أن بوريفيستنيك -مع أنه يعمل بمحرك نووي، وقادر على حمل رأس نووي- يعد وسيلة إيصال، واختباراته جرت بلا رأس نووي. وكل هذا يعني أن روسيا لم تُجرِ تجارب تفجير نووية، وهنا مربط الفرس.
تصريح المتحدث الرئاسي الروسي المقتضب نستطيع أن نقول إنه يختزل رؤية موسكو والكرملين وبوتين للمشهد الدولي الذي نحن بصدده، وهو أن روسيا ليست بصدد سباق تسلح، لكنها تراقب بعين واعية، لكن باردة، محاولات واشنطن لإعادة ضبط ميزان الردع العالمي على مقاسها، ليضمن لها استمرار التفوق، والهيمنة.
والفرق هنا بين الموقفين أن موسكو تنطلق من مبدأ “الرد على الفعل”، في حين تسعى الولايات المتحدة إلى “إعادة إنتاج الخطر” الذي تبرر به سباقها الدفاعي الجديد. فالولايات المتحدة هي من بادرت بالخروج والانسحاب من معاهدات تنظيم الاستقرار الإستراتيجي، منذ عهد جورج بوش الابن عام 2002 تحت ذريعة بناء الدرع الصاروخية لمواجهة الخطر الصاروخي الإيراني، مرورًا بانسحاب ترمب الأحادي خلال فترة رئاسته الأولى من معاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، وانتهاء بالمماطلة الأمريكية المستمرة فيما يتعلق بتمديد معاهدة “ستارت-3” التي سينتهي سريانها في مطلع شهر (فبراير) شباط 2026.
واللافت في تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الأخيرة أنه لم يكتف بتبرير استئناف الاختبارات النووية بحجة أن ” الدول الأخرى تفعل الشيء نفسه”؛ بل اتهم روسيا والصين وكوريا الشمالية بإجراء تجارب سرية. وأكد ترمب أن على الولايات المتحدة أن تحذو حذو هذه الدول بالعودة إلى التجارب النووية.
لكن المفارقة أن ترمب نفسه يعترف -في الوقت نفسه- بأن قدرة بلاده على الضغط الاقتصادي على موسكو محدودة، وأن العلاقات التجارية بين البلدين تكاد تساوي الصفر.
هذا التناقض بين الخطاب السياسي والتوازن الاقتصادي يعكس مأزق الإستراتيجية الأمريكية المعاصرة، التي تقول لنا إن واشنطن نعم تملك تفوقًا عسكريًّا وتقنيًّا، وهذه حقيقة، لكنها فقدت أدوات النفوذ التجاري التي كانت تحكم بها خصومها في الحرب الباردة السابقة.
يتزامن هذا التصعيد النووي مع تطورات ميدانية حساسة لموسكو، أبرزها بالطبع الهجوم الأوكراني الأخير على منشأة “توابسيه” النفطية في إقليم كراسنودار، فالضربة -بلا شك- لم تكن عسكرية بحتة، أقصد من حيث هدفها، وذلك أنها طالت أحد أهم منافذ تصدير النفط الروسي إلى الأسواق الآسيوية في الوقت الحالي؛ لذلك يمكن اعتبار هذا الهجوم الأوكراني، ومن خطط له، يحمل رسالة مركبة في توقيتها ومعناها. فالتقارير الروسية تؤكد أن الحرائق التي اندلعت في المحطة والمصفاة أُخمدت سريعًا، وأن العمل جارٍ لإصلاح الأرصفة المتضررة، لكن رمزية الضربة أكبر من حجم الضرر المادي الذي خلفته. والقصد هنا أن هذه هي أول عملية ناجحة تستهدف عمق البنية التحتية الطاقوية الروسية في البحر الأسود؛ لذلك فإن كل التصريحات الرسمية الروسية، والتعليقات والتحليلات المصاحبة، ترى فيها “محاولة لإضعاف الأمن القومي الروسي عن طريق البوابة الاقتصادية”.
وفي الوقت الذي تعلن فيه واشنطن اختبار الصواريخ العابرة للقارات، في حين تواصل كييف -تحت توجيه خبراء الناتو- ضرب المواني الروسية، لا يبقى أمامنا سوى الإقرار بأن معادلة الردع باتت فعلًا تتجاوز حدود أوكرانيا، وتتمدد خارجها.
فالمواجهة تأخذ أشكالًا مختلفة، وأحد تجلياتها أن باتت تتحول تدريجيًّا إلى صراع على بنية الطاقة العالمية، حيث يستخدم النفط والغاز والممرات البحرية كأدوات ضغط موازية للصورايخ والطائرات.
الصحافة الروسية المحترمة تجمع كلها تقريبًا، وإن بصيغ مختلفة، على أن هذا التحول يعكس دخول الحرب الأوكرانية مرحلة يمكن وصفها بمرحلة الضغط المزدوج، والمقصود هنا أنه بالتوازي مع الضغط العسكري على جبهات القتال المباشر، يتولد ضغط طاقوي على العمق الروسي.
وبهذا المعنى، فإن كل هجوم أوكراني على منشأة نفطية روسية يقابله عرض أمريكي لقوة نووية جديدة، ليصبح بذلك مشهدًا يعيد إلى الأذهان صور الحرب الباردة، ولكن بأدوات القرن الحادي والعشرين.
إن جوهر ما يحدث ليس مجرد سباق تسلح فني تقليدي، كالذي قرأنا عنه من حقبة الحرب الباردة الماضية؛ بل هو صراع على تعريف الأمن نفسه؛ فروسيا ترى أن أمنها يبدأ من حماية البنية التحتية الاقتصادية، في حين تضع الولايات المتحدة مفهوم الأمن في إطار السيطرة، أو استمرار السيطرة على النظام الدولي، وعلى قواعد اللعبة الإستراتيجية.
وبين هاتين الرؤيتين يقف العالم اليوم أمام مشهد محير ومتناقض، إذ تعيد القوى الكبرى تسليح خطابها النووي، في الوقت الذي ينهار فيه، أو لنقل يزداد الاقتصاد العالمي هشاشة وتداخلًا.
وبينما يظن الغرب المقاد أمريكيًّا أن التصعيد النووي سيعيد ردع موسكو، يبدو أن الكرملين وبوتين يريان في ذلك فرصة ذهبية لإعادة تموضع إستراتيجي لروسيا التي وُصمت بعد فترة التسعينيات المريرة نمرًا ورقيًّا جريحًا. وهذه الإعادة للتموضع يرى ساكن الكرملين أنها يجب أن تعزز شرعية برامجه الدفاعية، وتمنحه مساحة أكبر في التفاوض، ليس بشأن أوكرانيا، بل بشأن مستقبل النظام الدولي الجديد، ومكان روسيا فيه.
من زاوية أخرى، لا يمكن تجاهل أن تصريحات ترمب بشأن عدم تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك “في الوقت الحالي” -والعبارة له- تحمل أكثر من دلالة عند قراءتها بعين التحليل وليس السرد؛ فهي تشير -حسبما أرى- أولًا إلى تراجع الحماسة الأمريكية لإطالة أمد الحرب الأوكرانية، وثانيًا إلى إدراك واشنطن أن استمرار التصعيد قد يجرها إلى مواجهة مباشرة مع روسيا، وهو ما لا ترغب فيه في ظل اضطرابات داخلية واضحة، لكن الكلام عنها في الاعلام الدولي قليل، ولا أدري لماذا، وكذلك في ضوء اقتراب انتخابات التجديد النصفي بعد عام تقريبًا من الآن.
موسكو، وفقًا لما أتابعه من مواقف تصدر من داخلها، تقرأ هذه الإشارات الأمريكية على أنها دليل على تآكل وحدة القرار داخل الإدارة الأمريكية، وتجد في ذلك مجالًا مناسبًا لتكريس خطابها بأن “الولايات المتحدة غير مستعدة للحوار الجدي”، دون أن تسمي ترمب تحديدًا، أو تتهمه بذلك مباشرة.
كل هذه التطورات تشكل في مجموعها ملامح نظام دولي جديد يقوم على الردع المتكافئ، لا على الردع المطلق الذي كانت الولايات المتحدة تتمتع به على مدى أكثر من ثلاثين عامًا.
القوتان العظميان نوويًّا تدركان تمام الإدراك أن الحرب الشاملة مستحيلة، لكنهما تسعيان إلى إعادة صياغة حدود الخوف والاحتمال.
والفرق الجوهري بين الحرب الباردة القديمة والجديدة يكمن في أن الأولى كانت قائمة على سباق أيديولوجي، في حين أن الثانية محكومة بمعادلة الطاقة والنووي، وقبلهما الاقتصاد في شبكة عالمية واحدة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير