عمدت إيران، على مدار أيام الحرب والاعتداء الإسرائيلي الوحشي على غزة، إلى إنكار أي صلة لها بما يجري، أو الضلوع في التخطيط له، والمعاونة على تنفيذه، ودعم ذلك أيضًا فشل السلطات الأمريكية والإسرائيلية في إيجاد أي دليل ملموس يربط إيران مباشرة بعملية “طوفان الأقصى”. وكرر وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، تأكيده أن فصائل المقاومة تتخذ قرارها بنفسها، وقال القائد الأعلى الإيراني علي خامنئي إن بلاده تدعم هجوم حماس ضد إسرائيل، مدعيًا أن من ينسب أفعال الفلسطينيين إلى جهات خارجية لا يفهمون الشعب الفلسطيني، ويقللون من شأنه.
ومع ذلك، فإن الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي الواسع النطاق الذي تقدمه إيران لحماس أمر معترف به على نطاق عريض.
وفي السياق نفسه، اختفى أي ذكر لـ”فيلق القدس”، التابع للحرس الثوري، وقائده إسماعيل قاآني، في وسائل الإعلام على مدار أكثر من 40 يومًا من معركة “طوفان الأقصى”؛ ما أثار تساؤلات كثيرة عن دوره في الحرب، وهو المنوط به قيادة محور المقاومة، وإسنادها في أوقات الأزمات، مثل التي تمر بها حماس، وحزب الله، وعدد آخر من فصائل المقاومة.
وكسر قاآني صمته الرسمي بعد 40 يومًا تقريبًا من المعركة، وأرسل رسالة إلى القائد العام لكتائب عز الدين القسام محمد الضيف، وصف خلالها “طوفان الأقصى” بـالـ “ملحمة عظيمة” التي سطّرها المجاهدون في كتائب القسّام، ومجاهدو المقاومة في غزّة.
ورأى قاآني أنّ غزة تدافع اليوم عن “شرف الأمة، وعزّتها، وكرامتها”، مؤكدًا أنّ “إخوانكم الملتحمين معكم في محور القدس والمقاومة لن يسمحوا للعدو، ومن يقف خلفه، بالاستفراد بغزة وأهلها، ولن يمكّنوا العدو من الوصول إلى أهدافه القذرة على مستوى غزة وفلسطين”.
كذلك قال قاآني للضيف: “نؤكّد العهد والميثاق، والالتزام الإيماني والأخوي الذي يجمعنا، ونطمئنكم بأننا وضمن استمرارنا في الحماية والدعم المؤثّرين للمقاومة، سنقوم بكل ما يجب علينا في هذه المعركة التاريخية”.
وطرح ظهور قاآني الرسمي أسئلة كثيرة عن طبيعة دور “فيلق القدس” في المعركة الحالية، بالإضافة إلى محور المقاومة (شبكة الردع) بمكوَّناته المختلفة، في ظل انغماس عدد من تلك المكونات في الأزمة بدرجات متفاوتة، ولأهداف مختلفة.
ظلَّت حالة التشكك قائمة لدى الثوَّار في إيران بعد الإطاحة بالنظام البهلوي عام 1979، تجاه الجيش والقوات المسلحة عامة، في ظل تاريخ الجيش الملكي المعروف بالانقلاب والمساهمة في الإطاحة بحكومة محمد مصدق عام 1953؛ لذلك لجأ النظام الجديد إلى المؤسسات الموازية التي كانت فكرة تطورت فيما بعد إلى أساس من أسس النظام الجديد في إيران، ولجأت إلى قدراتها غير المتماثلة لتعويض ضعفها في الأسلحة التقليدية أمام أعدائها الرئيسين؛ الولايات المتحدة وغيرها من الجهات الإقليمية، مثل إسرائيل. فالولايات المتحدة قبل عام 1979 كانت المورد الأساسي للأسلحة إلى إيران، لكن بعد الثورة وقطع العلاقات، لم تعد طهران تتمكن من الاعتماد على التدريب والاستشارات والمعدات الأمريكية العسكرية، فضلًا عن توفير قطع الغيار اللازمة للأسلحة الموجودة بالفعل.
وبالإضافة إلى ذلك، تعرَّضت القوات المسلحة الإيرانية لعدد من التغييرات الداخلية التي أدَّت إلى إحباط مفعول قوَّاتها التقليدية، لا سيما حملات التطهير خلال الأيام الأولى للثورة، وضعف الجيش الوطني عن طريق ابتداع آلية ضد الانقلاب من خلال الحرس الثوري.
وفي الوقت الذي ظلَّت فيه الأيديولوجيا الثورية، ومفهوم “تصدير الثورة”، الدافع الرئيس لسياسة إيران الأمنية في فترة ما بعد الثورة الإسلامية 1979 مباشرة، ولا تزال بعض المؤسسات والأفراد يعتمدون عليها إلى حد ما، “تكشف دراسة استقصائية من خمسة مؤشرات رئيسة استمرارًا ملحوظًا في السياسة الأمنية الإيرانية من العهد البهلوي إلى الجمهورية الإسلامية، ومنذ أوائل ستينيات القرن الماضي إلى الآن: دعم الميليشيات الأجنبية، ومعارضة وجود القوى الخارجية عسكريًّا في منطقة الخليج، وحروب التدخل السريع، والبرامج النووية والصاروخية”[1].
كذلك تزعم إحدى الروايات الإستراتيجية أن “إيران، وبشهادة التاريخ، كلما عرَّفت أمنها القومي داخل حدودها السياسية والرسمية، يُنتهك استقلالها وسيادتها الوطنية لمرات عدَّة، وتهددت وحدة أراضيها؛ لذلك، وبسبب الموقع الجيوستراتيجي الخاص، والجيوسياسي لها، لا تستطيع طهران مواجهة التهديدات الخارجية بدون حضور إقليمي مستقل وقوي، وحتى خارج المنطقة”[2].
أدّت الأيديولوجيا دورًا أكثر تعقيدًا خلال العقد الأول من القرن الـحادي والعشرين، وزادت إيران من اعتمادها على شبكة من الميليشيات لمواجهة هيكل الأمن الجماعي الذي تقوده أمريكا في الشرق الأوسط. وبالإضافة إلى ذلك، ظهرت المساعدة الأمنية كأداة لتمديد الأزمة لفرض تكاليف عسكرية على خصوم إيران، وردع الضربات الأمريكية المحتملة، وارتقى هذان الهدفان بالهجوم الإستراتيجي من ممارسة أيديولوجية ثورية إلى إحدى ركائز إستراتيجية الردع الإيرانية.
وتسبَّبت الحرب الإيرانية العراقية في بلورة الإستراتيجيات العسكرية الدفاعية لدى إيران، وتطوير بعضها الآخر، فلقد كشفت عن أزمتين حاولت طهران فيما بعد حلهما:
الأولى: الوحدة الإستراتيجية التي أدَّت إلى ألا تتمكن إيران عمليًّا خلال الحرب من الحصول على المساعدات الخارجية المهمة، سواء من القوى المتوسطة أو من القوى الكبرى؛ ومن ثم لوحظ عدم التوازن الضخم بين إيران والعراق.
الثانية: أثَّرت الحرب على مدار 8 سنوات، وما تكبدته إيران من خسائر مادية وبشرية ضخمة، في تفكير الإستراتيجيين الإيرانيين وإدراكهم؛ لذلك عملوا على ألا تواجه إيران مستقبلًا وبعد الحرب خسائر مثل التي تكبدتها فيها[3].
وكان “فيلق القدس” تجسيدًا لأحد حلول هاتين المشكلتين؛ إذ يضطلع بدور محدد وخاص في إدارة الأزمة، وتعميق نفوذ الثورة في المنطقة، وخاصة لبنان، وأفغانستان، والعراق، والبوسنة، وسوريا، واليمن[4]، لكن المساعدة الأمنية الإيرانية افتقرت خلال العقد الأوَّل بعد الثورة إلى هدف إستراتيجي متماسك.
وبالإمكان تقسيم إستراتيجيات المساعدات الأمنية (شبكة الردع الإيرانية) إلى 3 مراحل:
الأولى: المساعدات الأمنية، بوصفها مهمة ثورية، التي امتدت طوال عقد الثمانينيات.
الثانية: مرحلة انتقالية امتدت من عام 1990 إلى عام 2003.
الثالثة: المساعدات الأمنية كركيزة للردع، منذ 2003 فما بعدها[5].
في البداية، كان الهدف داخليًّا من وراء تشكيل “فيلق القدس” لمواجهة التحديات الداخلية، وحرب العصابات التي بدأت تظهر آنذاك، ومع تولي مصطفى تشمران وزارة الدفاع، وهو الذي تدرب على حرب العصابات في لبنان ومصر، لاحت “أهمية تشكيل لجنة للحروب غير المتماثلة، لا سيما بعد حرب كردستان وبدء الحرب الإيرانية العراقية؛ نظرًا إلى أن الحرس الثوري الحديث العهد والجيش لم يتمتعا بالانسجام الضروري لمواجهة العدو. وكان هذا المقر يضطلع بأدوار على الجبهات الجنوبية في الحرب بين إيران والعراق حتى وفاة تشمران، وبعدها دمجت اللجنة في الحرس الثوري”[6].
تصادف تشكيل “فيلق القدس” وتنظيمه في نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات مع الحشد العسكري الأمريكي في المنطقة بعد حرب الخليج الثانية. كما أن تكثيف التدخلات الأمريكية في المنطقة، ونفوذها العسكري في الشرق الأوسط، يعدّان أحد التحديات الخطيرة التي تواجه الجمهورية الإسلامية في إيران؛ ما أدى إلى خلق مخاوف في الداخل، وما نتج عنه من توجيه عدد من فرق الجيش والحرس نحو الحدود الجنوبية الغربية، وهو ما دام قرابة عام.
جاء تشكيل “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري نتيجة دمج أربعة تنظيمات إيرانية، كانت تُنفذ عمليات عسكرية في الخارج مع بدء عهد الجمهورية الإسلامية في إيران:
إذ دُمج أعضاء هذه التنظيمات الأربعة وشبكاتها الدولية تحت اسم “فيلق القدس” بحلول عام 1989 بعد نهاية الحرب الإيرانية العراقية، وإعادة تنظيم القوات المسلحة[7].
ومنذ تأسيس “فيلق القدس” تعاقب على قيادته ثلاثة أشخاص؛ أحمد وحيدي (1989-1998) الذي على ما يبدو تركز جل اهتمامه خلال فترة قيادته للفيلق على التنظيم والتدريب، ثم قاسم سليماني (1998-2020) الذي شهدت فترة قيادته للفيلق توسعًا ضخمًا وتنظيمًا لشبكة الردع الإيرانية، ثم إسماعيل قاآني (2020- حتى الآن).
وينضوي داخل هيكل فيلق القدس عدد من القيادات التي تلي قائد الفيلق في التراتبية الوظيفية، على رأسهم نائب القائد، ثم المساعد الثقافي، والمساعد المنسق، ومساعد الاستخبارات، ومساعد الموارد البشرية. ونظرًا إلى أن جزءًا من أنشطة “فيلق القدس” سري بالكامل، فلا تشمل هذه الأسماء جميع الإدارات العاملة في الفيلق. وبحسب الخبير في الشؤون الأمنية أنطوني كردسمن، يضم “فيلق القدس” عددًا من الإدارات الخاصة بالمهام خارج الحدود في الدول المختلفة، وهي عبارة عن: معاونيات العراق، ولبنان، وفلسطين، والأردن، وأفغانستان، وباكستان، والهند، وتركيا، وشبه الجزيرة العربية، والدول الآسيوية للاتحاد السوفيتي السابق، والدول الغربية (أوروبا وأمريكا الشمالية)، وشمال إفريقيا (مصر، وتونس، والجزائر، والسودان، والمغرب)[8].
من الممكن تقسيم تطور “فيلق القدس” منذ التأسيس والدمج إلى ثلاث مراحل، تبدأ بتعيين أحمد وحيدي- الذي يشغل حاليًا منصب وزير الداخلية في إيران- قائدًا جديدًا للفيلق الحديث النشأة، وهي مرحلة وصفها البعض بمرحلة التأسيس والتنظيم بعد دمج القوات الأربع الخارجية في فيلق القدس، تليها المرحلة الثانية، وهي مرحلة الانتشار والتوسع، التي تبدأ منذ تعيين قاسم سليماني قائدًا للفيلق (1998-2020)، وحاليًا المرحلة الثالثة، وهي مرحلة إعادة التنظيم من جديد، وبدأت بتعيين العميد إسماعيل قاآني قائدًا لفيلق القدس في 3 يناير 2020، بعد اغتيال سليماني مباشرة، وهي مستمرة حتى اليوم.
في عهد قيادة سليماني التي دامت 23 سنة، خضع فيلق القدس لثلاثة تغييرات انتقالية، من منظمة للعمليات الخاصة السرية، إلى قوة تعبئة شعبية بقيادة زعيمٍ مهاب؛ ومن مجموعة من الميليشيات المتميزة مقسمة حسب الجنسية، إلى جيش شيعي متعدد الجنسيات؛ ومن المكون الطليعي المتواضع لقوات الحرس الثوري، إلى القوة المهيمنة فيها[9].
استثمر النظام الإيراني في كاريزما سليماني كثيرًا، لا سيما بعدما ذاع صيته بعد العمليات في العراق ضد القوات الأمريكية المتمركزة هناك بعد سقوط بغداد عام 2003، وكان الأسطورة التي نسجها النظام واستغلها داخليًّا وخارجيًّا؛ ولهذا قيل إن مرحلة قاآني هي مرحلة نهاية زمن الأساطير.
خلق مقتل سليماني تحديًا كبيرًا للشبكة الإيرانية من أعلى إلى أسفل، في ظل تأثيره الفريد في شركاء إيران، وهو ما منحه القدرة على توجيه عملية صنع القرار الداخلي بما يتوافق مع المصالح الإيرانية. لكن هذا النفوذ كان شخصيًّا، ولم يكن مؤسسيًّا في “فيلق القدس”، أو خارجه.
لكن مع ذلك، كان سليماني استثنائيًّا في قيادته للفيلق، ولم يكن مجرد جنرال عسكري؛ إذ اعتمد بالدرجة الأولى على العلاقات الشخصية والإنسانية التي نسجها مع قادة الفصائل المختلفة، ويقول أحد قادة المقاومة الفلسطينية عن الفارق بين قاسم سليماني وإسماعيل قاآني: “سليماني كان يأتي ويجلس معنا بالساعات ويتحدث عن جميع الأمور الشخصية والمجتمعية، لكن قاآني يأتي ويوجز الأمر والمهام ويرحل، حتى بدون ضيافة”[10].
سليماني لم يكن له بعد تنظيمي في قيادته للفيلق؛ إذ حمل كل شيء معه؛ لذلك ظهرت ما يمكن وصفها بـ”عقيدة سليماني”[11]، محورها علاقاته العامة على مدار 23 عامًا مع قادة الفصائل، والتحركات السياسية التي يقوم بها انطلاقًا من الثقة التي منحها له القائد الأعلى علي خامنئي.
وبوفاة سليماني، ومجيء قاآني، القادم من خلفية تنفيذية، مثله مثل سليماني، بدأت عملية إعادة تنظيم ومأسسة جديدة للفيلق الذي تتضرر كثيرًا من الانكشاف للإعلام، ورصد التحركات الميدانية والتصريحات لقائده السابق. كما يأتي تعيين محمد حجازي نائبًا لقاآني في ظل خبراته التنظيمية داخل الحرس الثوري، ولا سيما داخل منظمة “البسيج” في هذا السياق، أي تنظيم الفيلق ومأسسته من جديد.
لكن التطورات التي حدثت في لبنان والعراق بعد اغتيال سليماني طرحت تساؤلات عمَّا إذا كان نفوذ طهران الإقليمي يتراجع. ومع أن هذه التطورات تعكس التحديات الجديدة التي تواجهها إيران، فإنها تنذر أيضًا بنهج جديد أكثر لا مركزية لإدارة المحاور، يمكن أن يساعد على حماية المصالح الإيرانية على المدى الطويل.
التطورات الإقليمية، والأحداث الداخلية في كل من العراق ولبنان، جعلت “محور المقاومة” يتحول الآن من شبكة هرمية تتمحور حول إيران، إلى بنية أفقية لا مركزية تعمل على تسهيل قدر أعظم من الاستقلال لأعضائها. و”قد يؤدي انهيار سيطرة طهران إلى اتخاذ الشركاء إجراءات غير منسقة تهدد المصالح الإيرانية. لكن الفوائد التي تعود على إيران والشبكة تظل أكبر. إن مزيدًا من الحكم الذاتي يمنح إيران القدرة المعقولة على الإنكار للنأي بنفسها عن استفزازات شركائها، في حين تستمر في طلب دعمهم عند الحاجة”[12].
وقد أسهمت ثلاثة عوامل رئيسة في هذا التحول. في البداية، زاد حجم المحور وقوة أعضائه كثيرًا، وهذا يجعل الأمر أكثر صعوبة لطهران من أجل الحفاظ على مجموعة من المبادئ الأيديولوجية والأولويات السياسية عبر هذه الشبكة.
ثانيًا: جعل التنظيم المركزي للشبكة عرضة للتعطيل بسبب اغتيال كبار القادة مثل سليماني.
وأخيرًا: فيما يتعلق بشركاء إيران، جلبت السلطة السياسية تحديات جديدة أيضًا. وبما أنهم انضموا إلى الائتلافات الحاكمة، كما هي الحال في لبنان والعراق، فإنهم أصبحوا جزءًا من الأنظمة السياسية الفاسدة، ويُنظر إليهم على أنهم متواطئون في الظلم الذي زعموا أنهم يقاومونه.
بدأ قاآني العمل على توجيه وقيادة شبكة لم يُنشئها بنفسه، وتفاصيلها غير واضحة المعالم له، إلى الدرجة التي تحوَّلت فيها قوة المحور ذاتها نقطة ضعفه الأساسية. ومع أن التطورات على مدار السنوات الثلاث الماضية تشي بمظاهر تفكك المحور، فإنها في الحقيقة “تتحول من شبكة مركزية جدًّا إلى شبكة أكثر تشاركية غير مركزية. وعلى إثر ذلك تزايدت (المساعدة المتبادلة) بين شركاء إيران. ويضطلع حزب الله، على سبيل المثال، بدور حاسم في تعزيز المحور؛ فقد انضم إلى حماس في رفض اتفاقيات التطبيع العربية مع إسرائيل، وعمل على استعادة علاقات الجماعة مع النظام السوري. كما توسط بين الفصائل الشيعية العراقية خلال العام الماضي، ويقال إنه يؤثر في المفاوضات بين الحوثيين والإمارات”[13].
قبل شهر تقريبًا من هجوم حماس، وفي 10 سبتمبر (أيلول)، ناقش نائب رئيس العمليات في الحرس الثوري، العميد عباس نيلفروشان، وجود “شبكة قيادة وسيطرة متكاملة في جبهة المقاومة”[14]. ومع أن وجود هذه الشبكة لم يوصف بأنه تطور حديث، فإنه يمثل الحالة الأولى التي يدعو فيها مسؤول عسكري إيراني بمثل هذه المكانة- علنًا- إلى المضي قدمًا نحو ما يسمى ” توحيد الساحات”.
كما وصل قاآني بيروت بالتزامن مع اندلاع الاشتباكات بين حماس وإسرائيل، وحزب الله وإسرائيل، في 8 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وأُفيد بأنه غادر لإجراء مشاورات في 16 أكتوبر (تشرين الأول)، ثم عاد إلى لبنان في 20 أكتوبر (تشرين الأول)، حيث حافظ قاآني منذ ذلك الحين على وجود مستمر. وتقول مصادر مطلعة إن مهمته تتركز على المساعدة على تنسيق مواجهة محتملة أوسع مع إسرائيل.
ومع ذلك، أُفيد بأن قائد “فيلق القدس” يضطلع بدور مختلف تمامًا عن ذاك الذي اضطلع به سلفه قاسم سليماني، لكنّ مصدرًا أمنيًّا رفيعًا قال إن الشخص الذي “يتخذ القرارات بالفعل” هو حسن نصر الله نفسه، زعيم حزب الله[15].
لكن من أين جاءت “غرفة العمليات المشتركة” لفصائل المقاومة؟ كانت هذه الغرفة المشتركة مبادرة جديدة من قيادة الفيلق بعد اغتيال سليماني؛ لتشكل رافعة أمنية جديدة للرد على المعادلات السياسية الجديدة في المنطقة. وكان تشكيل هذه الغرفة بمحورية حزب الله، وهي الفكرة غير المسبوقة، في إطار المساعي الإيرانية لإحياء إستراتيجية “الترس” التي بدأت بعد اغتيال سليماني، بهدف الإخلال بإستراتيجية “الأخطبوط” الإسرائيلية[16].
ووجدت طهران عمليات “طوفان الأقصى” فرصة مناسبة لإحياء إستراتيجية “الترس” في مقابلة إستراتيجية “الأخطبوط”، التي تسعى من خلالها إلى مواجهة إستراتيجية إسرائيل الهجومية ضدها، ودفعها إلى داخل حدودها في الأراضي المحتلة[17].
وتشير هذه الإستراتيجية إلى جملة من التعهدات التحضيرية والمتزامنة لمحاربة إسرائيل؛ من خلال تسليط الضوء على قدرة إيران على الاستجابة المتعددة الجبهات، وتركز على تعزيز التنسيق العملياتي بين الجماعات المسلحة غير الحكومية ضمن محور المقاومة، وتوسيع ساحة المعركة لتطويق إسرائيل، لتشمل أربع جبهات رئيسة متوقعة: وهي: قطاع غزة (الجبهة الجنوبية)، والضفة الغربية (الجبهة المركزية بالقرب من المدن الإسرائيلية الكبرى)، وجنوب لبنان (الجبهة الشمالية)، الذي يرتكز فيه حزب الله اللبناني، ومرتفعات الجولان (الجبهة الشرقية والشمالية الشرقية) كما يديرها حزب الله.
كما عملت هذه الإستراتيجية على تضخيم قضية فلسطين بوصفها الخط الأمامي لمعركة محور المقاومة ضد العدو المشترك لفصائل المقاومة. وفي الواقع، “احتاجت إيران أن تنقل الخط الأمامي لجبهة المقاومة من سوريا إلى فلسطين؛ كي تواجه- من جانب- مخطط الاتفاقيات الإبراهيمية، ومن جانب آخر، خلقت ديناميكية جديدة في شبكة قوتها الإقليمية”[18].
وتتكون غرفة العمليات المشتركة من ثلاثة مستويات عملياتية، وتشكل الأراضي الفلسطينية، حيث تعمل الفصائل الفلسطينية المدعومة من إيران، وخاصة حماس، والجهاد الإسلامي، الطبقة التأسيسية. وعرضت هذه الفصائل تنسيقها من خلال مناورة عسكرية أجريت في يناير (كانون الثاني) 2021 تحت اسم “الركن الشديد”.
ويشكل حزب الله الطبقة الثانية، المسؤولة عن الاتصال بالفصائل الفلسطينية، إلى جانب مهمته الأوسع المتمثلة في الإدارة المشتركة للهيكل بكامله. أما المستوى الثالث فيضم الميليشيات المدعومة من إيران في سوريا، والعراق، واليمن.
وفي هذا الإطار، تتابع غرفة العمليات المشتركة لجبهة المقاومة في المنطقة إستراتيجية متعددة الأوجه، تشمل:
وفي إطار هذه الإستراتيجية، وفي ظل أداء “غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة”، نفت إيران تمامًا ضلوعها ومشاركتها في هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)- من ضمن أسباب أخرى ليست محل بحث هنا- وأعرب القائد الأعلى الإيراني علي خامنئي، في خطاب له في 10 أكتوبر (تشرين الأول)، عن دعمه المطلق لهجوم حماس ضد إسرائيل. ومع ذلك، نفى بشدة أي تورط إيراني، مدعيًا أن “أولئك الذين ينسبون أفعال الفلسطينيين إلى جهات خارجية لا يفهمون الشعب الفلسطيني. لقد قللوا من شأنهم”. وهي تصريحات تلخص تمامًا موقف إيران من الحرب في غزة خلال الشهر الماضي؛ مناصرة “المقاومة” الفلسطينية ضد إسرائيل، وفي الوقت نفسه تأكيد استقلالية حماس وغيرها من “حركات المقاومة”.
ركزت إيران جهودها السياسية، خلال فترة “طوفان الأقصى” حتى الآن، على الإنكار الدائم للمسؤولية المباشرة عن تحركات حماس في هذه العمليات، محذرة من اتساع جبهة الحرب لتشمل مستويات وفواعل أخرى على استمرارها على المنوال نفسه، لكن بتأسيسها “غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة”، أسست للامركزية للفصائل المختلفة- على عكس عهد سليماني- للتحرك في إطار عام ضد الهدف الواحد؛ وهو مواجهة أمريكا وإسرائيل في المنطقة؛ لأجل إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط تمامًا. وتسعى من خلال الغرفة إلى تراكم النفوذ والقوى في المناطق المتاخمة لإسرائيل؛ بهدف دفعها داخل حدودها المزعومة، والحيلولة دون تنفيذها أي هجمات، أو حملات اغتيال وتخريب طالت- سابقًا- عددًا من الأشخاص والمؤسسات خلال الفترات السابقة في إطار حملة الأخطبوط والحملة بين الحروب، مستعينة بإستراتيجية “ترس السلحفاة”.
إيران رأت حرب حماس ضد تل أبيب فرصة إستراتيجية لمواصلة ديناميكية شبكتها الأمنية في جميع أرجاء المنطقة؛ ولهذا وجدتها فرصة مناسبة لإحياء إستراتيجية “الترس” في مقابلة إستراتيجية “الأخطبوط”، فهي تسعى إلى فرض حالة طوارئ أمنية داخلية، وفي جميع أرجاء الأراضي المحتلة؛ من خلال تعزيز المواقف الهجومية لفصائل المقاومة، ووضعها في ترس دفاعية.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.