تشكل مخرجات الاجتماع الرابع لهيئة السياسة الخارجية في الحزب الشيوعي الصيني، التي حضرها الرئيس الصيني شي جين بينغ، ونحو 200 شخصية من كبار القادة في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تشكل أوضح إعلان من جانب بيجين، التي تقول فيه بصراحة إنها تريد قيادة العالم في المستقبل القريب بقيم ومعايير جديدة تختلف عن المنهج والآليات الأمريكية التي حكمت عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم تفكك الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1991.
ورسم الرئيس شي جين بينغ في هذا الاجتماع أساس “العالم الجديد” الذي تعمل بيجين على تأسيسه وقيادته في المستقبل، ويقوم هذا العالم الجديد على سلسلة من الركائز الأساسية، أبرزها سعي الصين إلى تعزيز نفوذها ومكانها ومكانتها على المستوى الدولي، وهو ما يطرح “رؤية صينية بديلة” تهدف- في النهاية- إلى أن تحل الصين محل الولايات المتحدة في قيادة العالم. ووفق البيان الصيني الرسمي الصادر عن هذا الاجتماع، في 22 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فإن القيادة الصينية بقيادة الرئيس شي تعمل على “زيادة النفوذ الدولي لبيجين”، وهذه أول مرة يصدر هذا الإعلان الواضح والصريح عن رغبة الصين في تعزيز نفوذها الدولي بعد أن ظلت الحكومات الصينية المتعاقبة تقول- منذ عام 1949- إنها لن تنافس أحدًا على المستوى العالمي.
ما يجب التوقف أمامه طويلًا في مخرجات هذا المؤتمر ليس فقط عزم الصين على اعتلاء قمة القيادة العالمية في المستقبل؛ بل العمل الحثيث للوصول إلى هذا الهدف قريبًا، عندما قالت بيجين: “علينا رفض جميع أعمال سياسة القوة والترهيب، وأن ندافع بقوة عن مصالحنا وكرامتنا الوطنية، ويجب أن نتخذ موقفًا واضحًا وحازمًا، وأن نتمسك بالمسؤولية الأخلاقية الدولية الرفيعة، وأن نوحد ونحشد الأغلبية الساحقة في عالمنا”.
ومع أن الصين قالت في الاجتماعات الثلاثة السابقة لهذه الهيئة في أعوام 2006 و2014، و2018 إنها تدافع عن مصالحها، فإن الموقف في هذا الاجتماع الرابع عبّر عن “تحدي واضح ومفتوح” للقيادة والهيمنة الأمريكية على العالم، فما الأدوات والمسارات التي تنوي الصين اتباعها لكي تحل بيجين محل واشنطن في قيادة العالم؟ وهل هذا يعني “صدامًا عسكريًّا” مباشرًا بين أكبر اقتصادين في العالم، وهو ما يطلق عليه “فخ ثوقيديدس”؟
هذا الإعلان الواضح عن رغبة الصين في قيادة العالم بدلًا من الولايات المتحدة من خلال “مصفوفة جديدة من القيم والمبادئ” التي تستند إلى حزمة مبتكرة من الأدوات والاهداف، يأتي في وقت مبكر جدًّا عن التقديرات السابقة التي كانت ترى أن الصين سوف تسعى إلى قيادة العالم بحلول عام 1949، أي بمناسبة مرور 100 عام على وصول الحزب الشيوعي الصيني إلى الحكم، وهو ما يطرح سلسلة من الأسئلة عن هذا “التبكير في إعلان” رغبة الصين في قيادة العالم، وهل الأمر يتعلق بتراجع وضعف في النسيج السياسي والاقتصادي والعسكري الأمريكي؟ أم أن كل الحسابات تنطلق من “الذات الصينية” التي ترى أنها باتت جاهزة ليس فقط لتحدي الولايات المتحدة على الساحة العالمية، بل اقتناص القيادة العالمية، وإزاحة الولايات المتحدة، التي ظلت الاقتصاد الأول في العالم منذ عام 1870، عن قمة القيادة الدولية؟
كل المؤشرات تقول إن الصين نجحت في بناء كل “أعمدة القوة الشاملة وعناصرها” التي تشمل القوتين العسكرية والسياسية، إلى جانب القوتين الاقتصادية والناعمة، ويتجلى ذلك في مجموعة من المسارات؛ وهي:
أثبت الاقتصاد الصيني أنه يتمتع بالحيوية والمرونة، وأنه قادر على تجاوز كل المشكلات والعواصف والأنواء التي مر بها منذ جائحة كورونا، مثل ضعف الإنتاج الصناعي، ومشكلات قطاع العقارات، ونقص السيولة، والضعف الطارئ في سلاسل الإمداد، ووصل الناتج القومي للاقتصاد الصيني عام 2023 إلى نحو 17.5 تريليون دولار، وهو ما يجعل الاقتصاد الصيني “المنافس الوحيد للاقتصاد” الأمريكي، وتظل الصين في ظل هذا الزخم أهم مصدر لسلاسل الإنتاج العالمية في جميع القطاعات الحيوية والضرورية لتطور جميع الاقتصادات العالمية، ومنها الاقتصاد الأمريكي نفسه، وحلت الصين شريكًا تجاريًّا رئيسًا بديلًا عن الولايات المتحدة الأمريكية في أقاليم كثيرة من العالم، منها إفريقيا، وأمريكا اللاتينية، ودول مجلس التعاون الخليجي الست.
تحظى الصين بالقبول السياسي في كل دول العالم وأقاليمه، خاصة في “عالم الجنوب”، في حين تتآكل “مقبولية الولايات المتحدة” على المستوى الدولي، فعلى سبيل المثال، نجحت الصين، التي تتمتع في مجلس الأمن بحق النقض (الفيتو)، في إبرام اتفاق صلح بين السعودية وإيران. وبينما “تتخارج” الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، يزداد ارتباط الدول العربية والشرق أوسطية بالصين، وجاءت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لتؤكد “الصورة النمطية السلبية” عن الولايات المتحدة، وهو ما أشارت إليه رسائل السفارات الأمريكية في سلطنة عمان والأردن، إلى الرئيس جو بايدن، التي نشرتها صحيفة “نيويورك تايمز”، والتي قالت إن “جيلًا عربيًّا كاملًا” بات ينظر بسلبية شديدة إلى الولايات المتحدة بسبب انحيازها إلى إسرائيل.
ويعود السبب الرئيس للمقبولية السياسية الصينية إلى انتهاج الصين سياسة تقوم على احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وعدم فرض نمطها التنموي على شعوب الدول الأخرى، بعكس الولايات المتحدة التي تفرض العقوبات، وتدعم الثورات الملونة، بداية من ربيع براغ في 5 يناير (كانون الثاني) 1968، حتى مظاهرات المعارضة الصربية الأخيرة التي اجتاحت بلغراد، عاصمة صربيا، الشهر الماضي، التي كانت تهدف إلى تكرار سيناريو ما يسمى بالثورة الوردية في جورجيا، والثورة البرتقالية في أوكرانيا.
مع أن الولايات المتحدة تنفق على التسليح والشؤون العسكرية نحو 3 أضعاف ما تنفقه الصين، فإن الصين نجحت في “تعادل القوة العسكرية” مع الولايات المتحدة، بل التفوق عليها في بعض المجالات، فالصواريخ الصينية تستطيع الوصول إلى كل شبر من الولايات الأمريكية الخمسين، كما اقتربت الصين- بقوة- من الولايات المتحدة في مجال الغواصات النووية، وحاملات الطائرات، والأقمار الصناعية العسكرية، والفضاء، وتتفوق الصين على الولايات المتحدة في مجال “المركبات الانزلاقية” العسكرية، كما أن الصين تستطيع حشد جيش يفوق عشرات المرات ما يمكن أن تحشده الولايات المتحدة، فضلًا عن نجاح الصين الواضح في بناء قدرات نووية جديدة. وتنفق الصين نحو 295 مليار دولار على شؤون الدفاع والتسليح سنويًّا مقابل 886 مليار دولار في الولايات المتحدة، ومع ذلك فإن الصين قريبة جدًّا في القدرات العسكرية والتسليحية من الولايات المتحدة، خاصة إذا نشب صراع قريب من الحدود الصينية في بحر الصين الجنوبي، أو بحر الصين الشرقي.
دائما ما كان الرئيس الأمريكي جو بايدن يفتخر بتحالفات الولايات المتحدة العسكرية والاقتصادية؛ ففي الاقتصاد تقود الولايات المتحدة “مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى”، في حين أن لديها في المجال العسكري تحالفات مثل حلف دول شمال الاطلسي (الناتو)، وتحالف “أوكوس” الثلاثي مع بريطانيا وأستراليا، وتحالف (كواد الرباعي) مع اليابان، والهند، وأستراليا، وتحالف “العيون الخمس” مع كندا، وبريطانيا، وأستراليا، ونيوزيلاندا.
في المقابل، نجحت الصين في بناء تحالفات وشراكات اقتصادية وعسكرية لا يمكن التقليل منها، ومن أهمها مجموعة “بريكس”، التي زاد عدد أعضائها من 5 دول إلى 10 أعضاء بداية من يناير (كانون الثاني) الجاري، كما استضافت بيجين في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي “منتدى الحزام والطريق” الذي تأسس منذ عام 2013، ويربط العالم عن طريق استثمارات صينية عملاقة في مجال البنية التحتية، ويعمل الرئيس شي على بناء منظمة “شنغهاي للتعاون”، مع عمل صيني لا يتوقف على تعميق نفوذ بيجين في آسيا الوسطى، بعد أن شهد العام الماضي قمة صينية مع زعماء كازاخستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان، وتركمانستان، وأوزبكستان، ولا تترك الصين منطقة غرب المحيط الهادي نهبًا للهيمنة الأمريكية كما كانت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأصبح للصين قبول ونفوذ كبيرين في دول وجزر غرب المحيط الهادي، مثل الاتفاق الصيني مع جزر سليمان، الذي يؤسس لشراكة اقتصادية وأمنية بين بيجين وهونيارا، وتوج هذا كله بتعيين الصين- أول مبعوث خاص لجزر المحيط الهادي.
ولا تكتفى الصين بهذا، بل تعمل ليل نهار، ومع شركاء من الشرق الأوسط، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية على تجديد المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة؛ لتتناسب مع رؤيتها للعالم بشكل أفضل، وتكثف جهودها ليكون لها صوت أكبر في الهيئات التي تضع المعايير الفنية في جميع أنحاء العالم؛ لنقل صناعاتها إلى أعلى ما يسمى بـ”سلاسل القيمة العالمية”، فالتقديرات الصينية ترى أنها تستحق صوتًا يضاهي نفوذها الاقتصادي؛ ولهذا قال بيان المؤتمر الرابع للسياسة الخارجية الصينية إن “بكين بات أمامها فرص إستراتيجية جديدة، وإنها ستعمل على تعزيز ديناميكيات جديدة في العلاقات بينها وبين مختلف دول العالم”.
تخاطر أي دولة “صاعدة”، مثل الصين، لتحل محل “الدولة المهيمنة”، مثل الولايات المتحدة، بضرورة اجتياز “فخ ثوقيديدس” الذي تعود فكرته إلى الفترة بين عامي 460 و400 قبل الميلاد، عندما رسم المؤرخ الإغريقي الشهير “ثوقيديدس” تفاعلات الصراع لمدة 25 عامًا في ذلك الوقت بين “قوة صاعدة” هي أثينا، و”قوة مهيمنة” هي إسبرطة، ولم يكن أمام أثينا سوى طريق واحد لتصبح على قمة الهرم القيادي العالمي في هذا الوقت، وهو الدخول في حرب مع إسبرطة. ومنذ فترة طويلة، يحلل كلا الجانبين- الصيني والأمريكي- الأسباب والتداعيات الحالية حتى لا تتورط واشنطن وبيجين في فخ ثوقيديدس، وهو ما أشار إليه كثيرًا المساعد الأسبق لوزير الدفاع الأمريكي غرهام ألسيون في كتابه “يمضيان نحو الحرب، هل يمكن لأمريكا والصين أن يهربا من فخ ثوقيديدس؟”
“Destined to war: Can America and China escape from Trap of Thucydids”
وخلال آخر 500 عام، حلت 16 دولة صاعدة محل 16 دولة كانت مهيمنة، لكن في 12 مرة وصلت الدولة الصاعدة إلى قمة الهرم العالمي دون الدخول في حرب عالمية مع الدولة المهيمنة، وهو ما يعني أن هناك نسبة تصل إلى نحو 25 % لحدوث هذا الانتقال دون حرب، وهو ما تتمناه الصين التي تأمل قيادة العالم دون المرور بفخ ثوقيديدس، مع أن قائدًا عسكريًّا صينيًّا كبيرًا هو الجنرال شو كي لي يان، الذي يحتل المركز الثاني في قيادة الجيش الصيني، قال في 9 مارس (آذار) 2021: “إن الصين بحاجة إلى الاستعداد لمواجهة “فخ ثوقيديدس”، لكن الصين تحتاج- وفق رؤيته- أن تحقق اختراقات في أساليب القتال والقدرة، وأن ترسي أساسًا سليمًا للتحديث العسكري.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.