“حجـي مُرات”، أو ببساطة “الحاج مراد”، رواية للأديب الروسي الكبير ليف تولستوي، وهي ليست رواية موسوعية ملحمية، مثل الحرب والسلام؛ بل رشيقة الحجم، مثل الروايات القصيرة التي لا يزيد حجمها اليوم على 200 صفحة.
تعرض الرواية لواحدة من صفحات التاريخ الروسي مع شعوب القوقاز التي كانت تعيش في إمارات وممالك مستقلة، أو ذات هوية إسلامية.
يوصف إقليم القوقاز باسم “جنة الله في الأرض”، تمامًا مثل فلسطين، وكشمير، وغيرهما من عشرات المواقع التي تحظى بها خريطة الدنيا، وتمثل أهدافًا للصراع الجيوسياسي.
سكان الجبال في إقليم القوقاز ليسوا سكان الجنة الناعمة اللينة- كما في العراق، ومصر، والهند، والصين- بل سكان جنة الجبال الوعرة التي تخلق رجالًا أشداء، بل إن نساء القوقاز لديهن من الشجاعة ما يُحكى عنه الأساطير، فقد كانت المرأة تقاتل الغزاة بجوار الرجل حتى آخر نفس، ويحكي الضباط الروس في وقائع غزوهم للإقليم قبل نحو 200 سنة عن صلابة لم يروا مثلها من قبل.
لم يكن ينقص رجال القوقاز الشجاعة، بل طارت بطولاتهم وقوتهم إلى كل بقاع العالم، وتحدث عنهم أمراء أوروبا وملوكها وقياصرتها.
وإذا كانت شعوب القوقاز قد نجت من الضعف والوهن الذي يفرضه الحتم البيئي في السهول والبيئات النهرية الفيضية الناعمة، ومن ثم تحلوا بصلابة الجبال، فإنهم وقعوا تحت وطأة حتم بيئي وسياسي آخر تعرفه منطقة جبال لبنان واليمن وشطر من سوريا؛ ألا وهو أثر الانعزال والقبيلة.
تمزقت قوى سكان الجبال بين الانتماء القبلي والولاءات المناطقية العشائرية. ومع أن الإسلام واللجوء إليه قدّم فرصة لتوحيد الكلمة، فإن الأمر انتهي أيضًا إلى انشقاقات وتصدعات بين قادة المقاومة.
في منتصف القرن التاسع عشر، وصل كفاح شعوب القوقاز إلى ذروته، وصار مادة خصبة لكاتب كبير مثل تولستوي، الذي لا يعاني عنصرية أو تحيزًا أعمى، فكتب لنا الرواية الشهيرة “حجي مراد”، عن أحد قادة حركة المقاومة القوقازية، لا سيما في جبال داغستان، والشيشان.
تقوم قصة تولستوي على تتبع واحدة من معارك عام 1840، حين كان البطل القوقازي حجي مراد يقاتل الروس ويصد مدفعيتهم عن بني وطنه، ثم فجأة يقرر الانتقال إلى معسكر الروس وترك صف الجيش القوقازي الذي يقوده الإمام شامل!
وهذا الانتقال المفاجئ يعد مفتاح الرواية التي بدأها تولستوي بتسليم “حجي مراد” نفسه للقوات الروسية، واستعداده لأن يكون خادمًا للقيصر الروسي، ومخلصًا له.
يلعب تولستوي بخيالنا كل ملعب، يصور حجي مراد بين نساء قصر الحاكم العسكري في القوقاز وهن يُحطن بحجي مراد وقد انضم إليهن للتو بعد أن أدى فرائض الصلاة وقراءة القرآن في جناح الضيافة الذي نزل فيه في قصر القائد العسكري الروسي.
يتعجب الجميع من دخول حجي مراد إلى سهرة القصر البهيجة وهو أعرج بقدم أقصر من الأخرى: أهذا هو البطل الذي دوّخ الروس؟
بدأ تولستوي الرواية بتسليم حجي مراد نفسه، دون أن يخبرنا لماذا سلم نفسه للعدو؟
في الصفحات السبعين الأولى (40 % من حجم الرواية) رسم تفصيلي كلاسيكي للشخصيات الروسية والقوقازية، مع بعض مفاهيم فلسفية عن الحرب، والشجاعة، والخيانة، والفساد. ولا يتردد تولستوي في توضيح صور الفساد أيضًا بين الضباط الروس الذين يختلسون أموال الخزانة العسكرية للإنفاق على أنفسهم خصمًا من المتطلبات الأساسية لجنودهم البسطاء.
ما الذي دفع “حجي مراد”، وهو نائب للإمام شامل، والرجل الثاني في قيادة جيش القوقاز، أن يسلّم نفسه؟
الحيلة الأدبية التي يتخذها تولستوي للإجابة عن تلك الأسئلة هي تكليف الحاكم الروسي أحد كُتّاب الجيش من موظفي الحملة العسكرية في القوقاز بأن يجلس إلى “حجي مراد” في قصر الضيافة يوثق منه سيرته الذاتية، من لحظة الميلاد والطفولة، إلى المقاومة والجهاد، وصولًا إلى اليوم الذي سلّم فيه نفسه للسلطات الروسية، الذي يعدّه المؤرخون يومًا فاصلًا سيغير خريطة الجغرافيا السياسية في روسيا، من منتصف القرن التاسع عشر إلى اليوم.
ماذا قال حجي مراد؟!
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.