مقالات المركز

توقعات بتصعيد الصراعات في الشرق الأوسط.. تحليل الأسباب وإستراتيجيات الاستقرار


  • 28 مايو 2024

شارك الموضوع

العالم الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الإمبراطوريات الكبرى، شهد تحولات جذرية، أبرزها ظهور نظام ثنائي القطبية ممثلًا في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. هذا النظام أعاد تشكيل العلاقات الدولية، وكان له تأثير مباشر في منطقة الشرق الأوسط، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، التي فتحت الباب للتدخلات الأمريكية في العراق وأفغانستان. مع نهاية الحرب الباردة، واندلاع الحرب في أوكرانيا مؤخرًا، برزت تحالفات جديدة تعكس تغير النفوذ الدولي، حيث تستمر الولايات المتحدة وروسيا في أداء أدوار رئيسة.

لا يمكن إنكار أن الأحداث التاريخية تميل إلى التكرار، حيث تستمر الأخطاء الإستراتيجية والطموحات الإقليمية في تأجيج الصراعات، والتنافس على السلطة والأراضي. الشرق الأوسط- بوجه خاص- يواجه ديناميكيات متغيرة، تتضمن تطبيع بعض الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل، وتزايد النفوذ الإيراني الذي بات يؤدي دورًا مؤثرًا في سوريا، والعراق، ولبنان، واليمن، مما يؤدي إلى تحديات معقدة تواجه السياسة الأمريكية في المنطقة.

أما الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فهناك إمكانية لتحول جديد قد يؤدي إلى توسع الصراع ليشمل دولًا مجاورة، مثل سوريا، والعراق، ولبنان، إذا لم تُطبَّق سياسات فاعلة لحل الأزمة. الحلول الدبلوماسية المستدامة بين إسرائيل وحركة حماس تتطلب جهودًا مكثفة لإرضاء جميع الأطراف، والعمل على تحقيق حل الدولتين، وهو النموذج الذي يظل الحل الأمثل لضمان نتائج إيجابية تسهم في الاستقرار الطويل الأمد للمنطقة. أما البدائل الأخرى فغالبًا ما تكون مؤقتة، ولا تعالج جذور المشكلة.

 كيف يمكن فهم ما يحدث في الشرق الأوسط من خلال كتاب “انهيار حضارة” لكانشان بانيرجي و”صدام الحضارات” لصامويل هنتنغتون؟

يُبرز بانيرجي أهمية الاستقرار الداخلي والتنمية الذاتية بوصفهما أساسًا لبقاء الحضارات، ويقترح أن الحلول لمشكلات الشرق الأوسط يجب أن تكون مدفوعة من الداخل نحو تحقيق التماسك الاجتماعي والاقتصادي، وأن الاعتماد على التدخلات الخارجية أو السياسات المفروضة لا يسهم في سوى تعميق الأزمات بدلًا من حلها، مما يؤدي إلى دورات متكررة من الصراع والفوضى.

أما صامويل هنتنغتون فيستكشف، في كتابه “صدام الحضارات”، الديناميكيات الجيوسياسية على أساس الهويات الحضارية، حيث يجادل بأن الصراعات الرئيسة في العالم الحديث ستدور حول خطوط ثقافية وحضارية. في الشرق الأوسط، هذا المفهوم يسلط الضوء على التوترات بين الفاعلين الإقليميين والعالميين الذين ينتمون إلى حضارات مختلفة. الصراع الإسرائيلي الفلسطيني- على سبيل المثال- يمكن فهمه ليس فقط بوصفه نزاعًا سياسيًّا، أو نزاعًا على الأرض؛ بل على أنه جزء من صراع أوسع بين الحضارات الغربية والإسلامية.

لتجنب تصعيد الصراعات القائمة على الهويات الحضارية، يُقترح الاعتماد على الدبلوماسية الثقافية، وتعزيز التفاهم المتبادل بين الحضارات. تحالفات مثل تلك التي تظهر في المنطقة، سواء بقيادة الولايات المتحدة، أو روسيا، يجب أن تأخذ في الحسبان التعقيدات الثقافية والحضارية لضمان فاعلية أطول أمدًا، وتجنب السياسات التي قد تكون مثيرة للصراع بدلًا من حله.

ولإكمال الحديث على نحو يربط بين الأفكار النظرية من الكتب المذكورة وتطبيقها على تحليلات جيوسياسية للشرق الأوسط، يمكن تلخيص المفاهيم ودمجها على نحو يخدم السرد:

في مواجهة التحديات المعقدة التي تواجه الشرق الأوسط، يتطلب الأمر أكثر من مجرد تحليل سياسي سطحي؛ بل يحتاج إلى فهم عميق للهويات الحضارية والثقافية التي تشكل المنطقة. صامويل هنتنغتون في “صدام الحضارات” يجادل بأن “الصراعات الأكثر ديمومة وعمقًا هي تلك التي نشأت بين الأمم والجماعات من حضارات مختلفة”، مشيرًا إلى أن الشرق الأوسط يمثل نقطة تقاطع، حيث تتصادم الحضارات الغربية، والإسلامية، وحتى الأرثوذكسية الروسية.

هذا التصادم ليس فقط نتيجة للخلافات الثقافية، ولكنه متجذر أيضًا في الصراعات التاريخية والإستراتيجية. السياسات الأمريكية والروسية في المنطقة- كما يلاحظ كانشان بانيرجي في “انهيار حضارة”- يمكن أن تُفهم على أنها جزء من نمط أوسع من التنافس الحضاري، والسعي إلى الهيمنة، حيث “تفشل القوى العظمى في التعلم من التاريخ، وتكرر الأخطاء التي تقود في النهاية إلى انهيار حضاري”. التحدي هنا هو التوفيق بين الإستراتيجيات الدولية والواقع الحضاري والثقافي للمنطقة.

في ضوء هذه الفكرة، يمكن رؤية الشرق الأوسط مسرحًا، حيث تؤدي القوى الكبرى دور الفاعلين الخارجيين الذين يؤثرون، وأحيانًا يزعزعون، الاستقرار الإقليمي. تطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية وإسرائيل، مثلًا، يمكن تحليله على أنه جزء من إستراتيجية أوسع لإعادة تشكيل الحلفاء والمعارضين ضمن الإطار الحضاري والجيوسياسي الجديد.

من الضروري للمحللين وصانعي السياسات أن يعترفوا بأن الحلول السطحية التي تتجاهل العمق الحضاري والثقافي للصراعات لن تؤدي إلا إلى حلول مؤقتة. الحاجة ماسة إلى مقاربات تشمل تعزيز الدبلوماسية الثقافية، والتفاهم المتبادل، حيث يجب أن يكون الهدف هو بناء سلام دائم يأخذ في الحسبان التركيبة المعقدة للمنطقة.

التركيبة المعقدة للمنطقة تتطلب مقاربة شاملة تقوم على تحليل العوامل الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، بجانب العوامل الحضارية والثقافية. السياسات التي تستند إلى فهم عميق لهذه التركيبة ستكون أكثر قدرة على معالجة الجذور الأساسية للصراعات، بدلًا من مجرد التعامل مع الأعراض الظاهرة.

فعلى سبيل المثال، يمكن للتحالفات الجديدة التي تشكلت حديثًا في المنطقة أن تؤدي دورًا إيجابيًّا إذا كانت مبنية على الاحترام المتبادل للتقاليد والقيم الثقافية لكل دولة، وهذا يتطلب من صانعي السياسة والمحللين أن يقوموا بدراسة تاريخية وثقافية معمقة لكل بلد معني؛ مما يساعد على تجنب الأخطاء السابقة التي نجمت عن عدم فهم هذه الجوانب.

إضافة إلى ذلك، يجب تعزيز الحوارات الإقليمية التي تضم مختلف الفاعلين في الشرق الأوسط، ومنهم القوى العظمى، والدول الإقليمية، والمجتمعات المدنية؛ لضمان تحقيق التفاهم الحقيقي، والعمل المشترك. هذه الحوارات يجب أن تكون مفتوحة وشفافة، وتستند إلى مبادئ العدالة والمساواة، مع التركيز على الأهداف الطويلة الأمد، مثل السلام الدائم، والتنمية المستدامة.

من الأهمية بمكان أيضًا الاعتراف بأنه لا يمكن تجاهل البعد الديني في الشرق الأوسط؛ فإن للدين دورًا محوريًّا في الهوية الحضارية والثقافية لشعوب المنطقة، ويجب أن تشمل الدبلوماسية الثقافية مبادرات تعليمية تهدف إلى تعزيز الفهم المتبادل بين الأديان المختلفة، مما يسهم في تقليل التوترات، وبناء جسور التفاهم.

حل الدولتين يضمن استقرار المنطقة

حل الدولتين في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يعتمد- اعتمادًا كبيرًا- على الحوارات المتعددة المستويات، يبدأ ذلك أولًا بحوار فلسطيني- فلسطيني يهدف إلى توحيد الرؤى والمواقف بين مختلف الفصائل الفلسطينية، وهو أمر حاسم لتقديم جبهة موحدة في المفاوضات. ثانيًا: يجب أن يُبنى الحوار الإسرائيلي- الفلسطيني على احترام الحقوق، والاعتراف المتبادل، وهو ما يشكل الأساس لأي تقدم نحو حل الدولتين.

ثالثًا: الدعم الدولي لحل الدولتين يعد ضروريًّا لضمان الضغط الكافي على جميع الأطراف للتوصل إلى حلول دبلوماسية. المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة، والقوى الكبرى، يمكن أن يسهم- بفاعلية- في هذه العملية؛ من خلال الوساطة، وتقديم الضمانات لأمن كل من الدولتين المستقبليتين.

من الضروري أيضًا النظر إلى استقرار المنطقة على نحو شامل، حيث يرتبط الأمن في سوريا، والعراق، ولبنان، واليمن، وليبيا، والسودان- ارتباطًا وثيقًا- بالأمن الإقليمي العام. العمل العربي المكثف، الذي يشمل توحيد الصف، والتعاون المشترك، ضروري لمواجهة التحديات الكثيرة التي تعصف بالمنطقة، ومنها الإرهاب، والفساد.

دول الخليج، بفضل استقرارها المالي والسياسي، تقف في موقع يمكنها من الاضطلاع بدور محوري في تمويل ودعم المشروعات التي تهدف إلى استقرار المنطقة؛ فمن خلال استثمارات مدروسة، والتزام بالتنمية السياسية والاجتماعية، يمكن لهذه الدول أن تسهم في بناء منظومة إقليمية تعزز السلام والاستقرار.

بالإضافة إلى ذلك، ينبغي تأكيد الحاجة إلى إستراتيجيات متكاملة تعالج أسباب الإرهاب والفساد، من خلال تعزيز الحكم الرشيد، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك تحسين فرص العمل، والتعليم. هذه الجهود ستساعد على القضاء على البيئات التي تنمو فيها الجماعات المتطرفة، والجريمة المنظمة.

بناء شرق أوسط جديد، آمن ومستقر، يتطلب عملًا مكثفًا، ومتعدد الأبعاد، يشمل كل الأطراف العربية والدولية. هذا التعاون الشامل هو السبيل الوحيد لتحقيق تغيير إيجابي دائم لصالح جميع شعوب المنطقة.

الخاتمة

في ضوء التحليلات والمناقشات التي أجريت، يظهر بوضوح أن الشرق الأوسط يقف على أعتاب مرحلة حرجة قد تشهد تصعيدًا كبيرًا في الصراعات، مدفوعة بمجموعة معقدة من العوامل الداخلية والخارجية. الفشل في التعامل مع هذه العوامل بالطرق الصحيحة قد يؤدي إلى تدهور الأوضاع على نحو يصعب معه التنبؤ بنتائجه، أو السيطرة عليه.

من الواضح أن الاستقرار في المنطقة يتطلب جهودًا متعددة الأبعاد، تتناول الجذور الحضارية والثقافية للصراعات، وكذلك الديناميكيات السياسية والاقتصادية المعاصرة. الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من أكثر القضايا إلحاحًا في المنطقة، وهو يتطلب حلًا شاملًا يبدأ بحوار فلسطيني داخلي، يليه حوار مثمر بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يدعمه التزام دولي جاد نحو حل الدولتين.

في الوقت نفسه، تظل الأزمات في سوريا، والعراق، ولبنان، واليمن، وليبيا، والسودان تشكل تهديدات مباشرة لاستقرار المنطقة بأسرها. الاضطرابات في هذه الدول ليست مجرد نتيجة للصراعات المحلية؛ بل هي أيضًا نتاج التنافس الحضاري والثقافي الذي تفاقم بفعل التدخلات الخارجية، والمصالح الجيوسياسية للقوى الكبرى.

الدور الذي يمكن أن تضطلع به دول الخليج في هذا السياق يكتسب أهمية خاصة؛ نظرًا إلى استقرارها المالي والسياسي النسبي. تمويل هذه الدول ودعمها لمشروعات تعزيز الاستقرار والتنمية في المنطقة يمكن أن يكون له تأثير كبير في معالجة الأسباب الجذرية للإرهاب، والفساد، والاضطرابات.

ومع ذلك، فإن التحديات كبيرة ومتعددة الأوجه. الوحدة والتعاون بين الدول العربية أساسية لضمان تطبيق إستراتيجيات فعالة تحقق الأمن والاستقرار الإقليميين. بدون وحدة الصف والعمل المشترك، تظل فرص نجاح أي مساعٍ محدودة.

في النهاية، يقف الشرق الأوسط على مفترق طرق، حيث يمكن أن تقود القرارات والسياسات المتخذة اليوم إلى بناء مستقبل أكثر استقرارًا وسلامًا، أو، على العكس، قد تسفر عن تصعيد في الصراعات يصعب تداركه. الحاجة ملحة لتبني نهج شامل يأخذ في الحسبان كل الأبعاد المعقدة للمشكلات التي تواجهها المنطقة، وذلك من أجل تحقيق تغيير إيجابي ودائم لصالح جميع شعوب الشرق الأوسط.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع