تزداد رقعة الصراعات العالمية، وتتكثف حدتها وشدتها، وتتعثر إمكانات حلها، بما يطرح أسئلة جادة عن الإرادة الحقيقية لحل هذه الأزمات، وبما يثير الذهن لمحاولة فهم التحولات الكبرى التي تجري في العالم بحيث لا يستطيع الباحثون مجاراتها، وحجب النظر الفكري عن رؤية الصورة الكلية لما يحدث. وفي ضوء تلك الإشكالية، يسعى هذا البحث إلى محاولة الاستفادة من الإطار النظري لتحليل التغييرات في بنية علاقات المستغِل والمستغَل التي وضعها المفكر الألماني كارل ماركس في بيانه الأشهر المسمى بالبيان الشيوعي[1].
قدم ماركس في البيان الشيوعي رؤية لمنطق التطور التاريخي، وتفسيرًا لكيفية تغير بنية علاقات القوة، وإن كان العامل الحاسم في التحليل الماركسي هو التحليل الطبقي، لكن هذا التحليل يتجرد عن التحليل الطبقي إلى علاقات الهيمنة والاستغلال؛ إذ يرى ماركس أن الآليات التي كانت الوسيلة الأساسية في فرض هيمنة القوة المسيطرة هي نفسها قد تكون السبب في انهيارها، فينبهنا أن المرحلة الأخيرة من عمر المهيمن يتبع فيها نهجًا مدمرًا، لا يكتفي فيه بخلق أزمات شديدة الخطورة فحسب؛ بل إنه يسعى إلى تدمير آليات حل هذه الأزمات كذلك؛ ظنًا منه بأنه بتلك الطريقة يحول بين تابعيه وبين أي طريق للخروج من دائرة التبعية المفرغة[2].
وهذه الآلية مع أنها كانت الوسيلة التي أدت إلى ترسيخ نفوذ المهيمن، فإنه باتباعه الإستراتيجية نفسها يعجل فناءه وزوال سلطته. وحينما يصل المهيمن إلى تلك المرحلة بالفعل يجد تحديات ومطالب كبيرة من فئات مختلفة ليس بينها خطر حقيقي إلا القوة الثورية. ولمعرفة هذه القوة الثورية لا ينظر إلى حدة معارضتها؛ ولكن في تقدمية مطالبها لشكل البنية؛ ومن ثم فليس الخطر الحقيقي على بنية النظام ممن يسعى إلى الحفاظ على وجوده، ويحكم تحركاته منطق رد الفعل؛ لأنه يسعى -أولًا وأخيرًا- إلى المحافظة؛ أي إنه يعيد عجلة الزمان، لكن الخطر ممن ينظر إلى المستقبل ويريد تجاوز هذه البنية نفسها، ممن يريد استبدال المهيمن نفسه. ويرى ماركس أن البروليتارية، القوة الثورية الحقيقية في ظنه، ولتحقيق ذلك يجب أن تتخذ خطوات إيجابية لتسريع ذلك السقوط، لكن اتباع النمط السلبي قد يكون هو الأنسب في حالتنا -كما لعله سيتضح- بدفع عجلة الأحداث[3].
بتتبع التغيرات في ساحة الجغرافيا السياسية التي زامنت هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي، نجد أن صعود قوة الولايات المتحدة الأمريكية كان قائمًا على الاستنزاف الشديد الذي حدث للقوى العظمى في الحربين العالميتين، وما حققته الولايات المتحدة من مكاسب كبيرة على مستوى النفوذ والمكاسب السياسية والاقتصادية الكبرى، واستحوذت على التركة الغربية التي كانت قائمة على الأزمات المتوزعة بين الأقاليم المختلفة في العالم التي تسمح للقوى الكبرى بالهيمنة على النظام الدولي [4]، فكانت هذه الأزمات آلية لاستنزاف قوى الفاعلين الدوليين الأخر، وتضمن الحفاظ على الدور الأمريكي على الساحة الدولية. وبتزايد نفوذ القوى العالمية كروسيا، والصين، وغيرهما من الدول المتوسطة كإيران، وتركيا، وازدياد مطالبها بالتحول إلى الشكل المتعدد الأقطاب، نتجت تفاعلات أدت إلى زيادة الصراعات والاضطرابات الدولية في عدد من القضايا والأزمات التي اختُلقت من أجل السيطرة العالمية.
وبالعودة إلى التحليل الماركسي، يمكننا الافتراض أن النزاعات التي كانت تعزز الهيمنة الأمريكية، ستصبح هي نفسها أداة تقلص النفوذ الأمريكي، وآلية استنزاف الموارد الأمريكية نفسها. ويرى إدوارد كريستي، الباحث الفنلندي في الشؤون الدولية، أنه لا يمكننا الدفع بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي أثارت تلك النزعات على نحو مباشر، لكن الرواية الأكثر واقعية من القصة، التي تنطبق مع الواقع، هي أن الولايات المتحدة تحاول الإبقاء على النزاعات التي تُثار من خلال سياستها.
ولاختبار هذا الفرض، نجد كريستي في مقاله بمجلة الفورين بوليسي، يجادل بأن سياسة الولايات المتحدة في أوكرانيا تطيل من أمد الحرب، بحيث لا تمكّن الأسلحة التي تزود واشنطن بها كييف، أوكرانيا من صد روسيا، وتحول دون تحقيق انتصار روسي حاسم[5]. وفي غزة، يجادل خوان كول، أستاذ التاريخ في جامعة ميشيغان، بأن الدعم غير المشروط من الولايات المتحدة هو الذي شجع إسرائيل على ما ترتكبه من جرائم وتجاهل تام للقانون الدولي، وبأن هذا الدعم هو الذي يطيل الحرب؛ لفقدان الإرادة الأمريكية الحقيقية في وقف هذه الحرب[6]، بالإضافة إلى الحروب الداخلية داخل إقليم الشرق الأوسط، في السودان وليبيا واليمن وغيرها من الدول التي أدى غياب الإرادة الأمريكية الحقيقية في إنهاء الأزمة بداخلها إلى تقليص النفوذ الأمريكي ذاته، إذ وصل خوان كول في دراسته إلى أن ما يجري في الشرق الأوسط هو ذوبان لروابط الولايات المتحدة الأمريكية بداخله، واستشهد على ذلك الباحث الصيني لي وي تشاو باستطلاع للرأي أجراه المركز العربي بواشنطن في الشرق الأوسط، أظهر أن 76% من المشاركين في 16 دولة من الشرق الأوسط يرون دورًا سلبيًّا للولايات المتحدة في أزمات الشرق الأوسط، وأراد لي وي تشاو بذلك الاستدلال على تهاوي جاذبية النموذج الأمريكي بالكلية[7].
إن كانت هيمنة النموذج الأمريكي بالفعل تتداعى، فأي النماذج الأخرى هي التي تمثل حقيقة القوة الثورية التي تحل محل القوة الأمريكية، باتباع القواعد التي نبه عليها ماركس، فإن كلًا من إيران وروسيا ومثيلاتهما تسعى إلى المحافظة على وجودها في بنية النظام الدولي، أو استعادة دور؛ ومن ثم فأي منها ليس بقوة ثورية حقيقية، ولعل الصين بسياستها هي التي تمثل حقيقة المبدأ السالف الذكر المتعلق بدفع الأحداث، والبعد عن الاستنزاف، لكن التحديات التي لا تزال تواجه النموذج الصيني لا تمكنه من فرض الهيمنة العالمية. لكن يظل النموذج التحليلي لماركس فعالًا لفهم الآليات التي يتبعها الفاعلون الدوليون، سواء الدفاعية منها التي تتبعها الولايات المتحدة الأمريكية، أو الهجومية التي تقوم بها القوى المتوسطة أو العظمى؛ لاستعادة دور ما، أو إحلال الهيمنة القائمة بأخرى عن طريق دفع الأحداث عند هذه المرحلة. ومع ذلك، لا ينبغي أن يُقيد الإطار في حدود الفاعلين الدوليين، ويُختبر إلى أي مدى يمكن تطبيق هذا الإطار على فرضية العلاقة بين الفاعلين الدوليين والفاعلين من غير الدول، على اعتبار أن هذه الصراعات هي تأكيد وتعزيز لدور الدولة كفاعل.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.