
في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) 2025، شهدت العاصمة الماليزية كوالالمبور تجمعًا إقليميًّا بارزًا يمثل قمة الولايات المتحدة مع مجموعة آسيان، حيث برز حضور الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بوصفه عنصرًا محوريًّا يعكس تحولات جيوسياسية عميقة في منطقة المحيط الهادئ الغربي. هذه القمة، التي عقدت في سياق الدورة الـ47 لقمم آسيان تحت رئاسة ماليزيا، لم تكن مجرد لقاء روتيني لمناقشة قضايا إقليمية؛ بل كانت منصة حيوية لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، خاصة في ظل التصعيد المستمر للمنافسة بين الولايات المتحدة والصين. يأتي حضور ترمب، الذي يمثل عودة له إلى الدبلوماسية الإقليمية بعد فترة من الإهمال النسبي في عهده الأول، كإشارة قوية إلى إستراتيجية أمريكية تعتمد على الضغط الاقتصادي والدبلوماسي لتعزيز النفوذ في جنوب شرق آسيا. من خلال هذا الحضور، يسعى ترمب إلى تحقيق مكاسب فورية، مثل الإشراف على توقيع اتفاقيات سلام وتجارة، في حين تكمن الدلالات الأعمق في كيفية تأثير هذه القمة في ديناميكيات الصراع الأمريكي الصيني، الذي يهدد بإعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية.
تُعد مجموعة آسيان، التي تضم عشر دول جنوب شرق آسيا، نموذجًا ناجحًا للتعاون الإقليمي منذ تأسيسها في 1967، حيث سعت إلى تعزيز السلام والاستقرار الاقتصادي في منطقة شهدت صراعات دامية خلال الحرب الباردة. في العقود الأخيرة، أصبحت آسيان محورًا للدبلوماسية الأمريكية في آسيا، خاصة مع صعود الصين كقوة اقتصادية تهدد الهيمنة الأمريكية. خلال العهد الرئاسي لباراك أوباما، شهدت العلاقات تطورًا من خلال مبادرة “التوازن نحو آسيا”، التي ركزت على تعزيز الشراكات الاقتصادية والأمنية مع دول المنطقة لمواجهة التوسع الصيني في بحر الصين الجنوبي. ومع ذلك، جاءت فترة دونالد ترمب الأولى (2017-2021) كانقلاب على هذا النهج، حيث اعتمد على سياسة “أمريكا أولًا” أدت إلى إهمال المنتديات الإقليمية، مثل قمم آسيان، وانسحاب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، مما أثار مخاوف دول آسيان من تراجع الالتزام الأمريكي. هذا الإهمال سمح للصين بتعزيز نفوذها من خلال مبادرة “حزام واحد طريق واحد”، التي غمرت المنطقة باستثمارات ضخمة في البنية التحتية، لكنها أيضًا أثارت قلقًا من “فخ الديون”، وفقدان السيادة.
مع عودة ترمب إلى السلطة في يناير (كانون الثاني) 2025، أعاد تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية لتركز على الضغط الاقتصادي كأداة جيوسياسية. في سياق هذا التحول، أصبحت قمة آسيان 2025 اختبارًا حاسمًا لقدرة الولايات المتحدة على استعادة دورها بوصفها شريكًا موثوقًا به في المنطقة، فالصراع الأمريكي الصيني، الذي تصاعد مع فرض تعريفات جمركية أمريكية تصل إلى 157% على الواردات الصينية، وردود صينية بقيود على تصدير المعادن النادرة، يجعل القمة منصة للمناورة الدبلوماسية. دول آسيان، التي تعتمد اقتصاديًّا على الصين شريكًا تجاريًّا رئيسًا بنحو تريليون دولار سنويًّا، تواجه معضلة: الحفاظ على التوازن بين القوتين دون الوقوع في فخ التحالفات الحصرية. هنا يبرز دور ترمب كمفاوض يستخدم التهديدات التجارية لتحقيق مكاسب أمنية، كما في حالة النزاع الحدودي بين كمبوديا وتايلاند، الذي أدى إلى مقتل عشرات ونزوح مئات الآلاف في يوليو (تموز) 2025. من خلال هذا السياق، تكشف القمة عن توتر بين الرؤية الأمريكية للمنطقة بوصفها ساحة للمنافسة، والرغبة الآسيوية في الحفاظ على “الطريقة الآسيانية” القائمة على الإجماع والحياد.
يحمل حضور الرئيس ترمب في قمة آسيان 2025 دلالات متعددة الأبعاد، تعكس تحولًا في الدبلوماسية الأمريكية نحو نهج أكثر معاملية وأقل تقليدية. على المستوى الرمزي، يُعد هذا الحضور -الأول له في قمة آسيان منذ 2017- إشارة إلى استعادة الالتزام الأمريكي في المنطقة، بعد سنوات من الغياب النسبي الذي أثار شكوكًا بشأن مصداقية واشنطن بوصفها قوة موازنة للصين. وصول ترمب إلى كوالالمبور في 26 أكتوبر (تشرين الأول)، وسط استقبال شمل عروضًا ثقافية وأعلامًا مشتركة، يعزز صورته كقائد يجسد الديناميكية الشخصية في الدبلوماسية، حيث تبادل النكات مع رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم بشأن تجاربهما القانونية، مما يلين حدة التوترات الاقتصادية. هذه الدلالة الرمزية تتجاوز الشكليات لتصل إلى جوهر الإستراتيجية الأمريكية، حيث يسعى ترمب إلى إعادة تعريف العلاقة مع آسيان بوصفها شراكة تعتمد على “الصفقات الكبيرة” بدلًا من الالتزامات الجماعية الطويلة الأمد.
من الناحية الجيوسياسية، يعكس الحضور محاولة أمريكية لاستعادة المركزية في الإندو- باسيفيك، حيث أصبحت آسيان محورًا للمنافسة مع الصين. بضغط ترمب على استبعاد ممثلين صينيين من حفل توقيع اتفاق السلام بين كمبوديا وتايلاند، أرسلت واشنطن رسالة واضحة بأنها لن تسمح للصين باستغلال المنصات الإقليمية لتعزيز نفوذها. هذا النهج يعزز دلالة القمة كأداة للضغط غير المباشر على بكين، خاصة مع اقتراب لقاء ترمب مع الرئيس شي جين بينغ في قمة أبيك في كوريا الجنوبية. ومع ذلك، تكمن الدلالة السلبية في تعزيز الشعور الآسياني بالضغط، إذ إن دول المنطقة ترى في ترمب قائدًا غير متوقع، يمكن أن يحول الدبلوماسية إلى مسرح للعروض الشخصية. على سبيل المثال، ترشيح رئيس الوزراء الكمبودي هون مانيت لترمب لجائزة نوبل للسلام يعكس كيف يستغل ترمب الإعلام لتعزيز صورته كوسيط عالمي، لكنه أيضًا يبرز هشاشة الإجماع الآسياني أمام الضغوط الخارجية.
اقتصاديًّا، يحمل الحضور دلالات بشأن إستراتيجية “الانفصال الاقتصادي” الأمريكية، حيث يستخدم ترمب التعريفات كورقة مساومة لإعادة توجيه سلاسل التوريد بعيدًا عن الصين. في سياق آسيان، التي تسعى إلى تحقيق رؤية المجتمع الآسياني 2045 ليصبح الرابع عالميًّا اقتصاديًّا، يعني ذلك فرصًا للاستثمارات الأمريكية في المعادن النادرة والاقتصاد الرقمي، لكنه يهدد أيضًا بتعطيل التكامل الإقليمي. الدلالة الأوسع هي أن حضور ترمب يعزز دور آسيان كلاعب وسيط، قادر على إدارة المنافسة بين القوتين الكبريين دون الوقوع في فخ التبعية؛ مما يعكس نضج المنطقة في مواجهة “الصدمة الجيوسياسية” الناتجة عن التوترات الأمريكية الصينية.
أسفرت قمة آسيان 2025 عن نتائج ملموسة تعكس نجاح النهج المعاملي لترمب، مع التركيز على حل النزاعات الإقليمية وتعزيز الروابط الاقتصادية. أبرز هذه النتائج كان الإشراف على توقيع “الإعلان المشترك” بين كمبوديا وتايلاند، الذي يمثل خطوة حاسمة نحو إنهاء النزاع الحدودي الذي اندلع في يوليو (تموز) 2025. هذا الاتفاق، الذي لم يكن معاهدة شاملة؛ بل كان إطارًا للتهدئة، يشمل إزالة الأسلحة الثقيلة من الحدود، وإنشاء فريق مراقبة جنوب شرق آسيوي، وإزالة الألغام من المناطق المتنازع عليها. أسهم ترمب في هذا الإنجاز من خلال تهديدات تجارية مباشرة، منها فرض تعريفات بنسبة 19% على الواردات من البلدين، مما دفع قادتهما إلى التفاوض تحت ضغط أمريكي. وصف ترمب الاتفاق بأنه “معاهدة سلام” تندرج ضمن سلسلة من النزاعات التي “لا يمكن إنهاؤها”، مقارنًا إياها بجهوده في الشرق الأوسط وأوكرانيا، لكنه تجاهل التحديات الطويلة الأمد، مثل الامتثال، والثقة المتبادلة بين الجانبين.
على الصعيد الاقتصادي، أعلن ترمب عن إطار تجاري مع تايلاند يزيل التعريفات على 99% من السلع الأمريكية، مقابل إزالة تايلاندية للحواجز غير الجمركية، وتعهدات بشراء 2.6 مليار دولار من المنتجات الزراعية الأمريكية، و5.4 مليار دولار من الطاقة، بالإضافة إلى 80 طائرة أمريكية بقيمة 18.8 مليار دولار. كما وقع مذكرة تفاهم بشأن التعاون في المعادن النادرة، مع هدف إنهاء الصفقة بحلول نهاية العام، مما يعزز قدرة الولايات المتحدة على الوصول إلى موارد حيوية لصناعات التكنولوجيا. بالمثل، أُبرِمَ اتفاق تجاري كبير مع كمبوديا، يركز على تسهيل التجارة ودعم التنمية الاقتصادية، رغم ميل كمبوديا نحو الصين سياسيًّا. هذه النتائج لا تقتصر على الازدواجية الثنائية؛ بل تمتد إلى الإقليمية، حيث أسهمت القمة في تبني إطار الاقتصاد الرقمي لآسيان (DEFA)، الذي يهدف إلى فتح سوق رقمية بقيمة تريليوني دولار بحلول 2030، مع التركيز على التجارة الإلكترونية، والذكاء الاصطناعي.
ومع ذلك، تظل هذه النتائج محدودة في نطاقها، إذ لم تشهد القمة تقدمًا كبيرًا في قضايا أوسع، مثل أزمة ميانمار، حيث فشلت آسيان في تنفيذ إجماع الخمس نقاط لعام 2021، رغم زيارة ماليزية في أكتوبر (تشرين الأول) 2025 لتحديد معايير انتخابية. كذلك، فيما يتعلق بالصين، أنتجت المحادثات الجانبية إطارًا للقاء ترمب- شي، يغطي قضايا مثل الفنتانيل، والمعادن النادرة، وتيك توك، لكن دون اتفاق نهائي، مما يعكس التوترات المستمرة. عامةً، تمثل هذه النتائج انتصارًا جزئيًّا لترمب، الذي يستخدم القمة لتعزيز سجله الدبلوماسي، لكنها تكشف أيضًا عن حدود النهج المعاملي في مواجهة التعقيدات الإقليمية.
يُعد الصراع الأمريكي الصيني الخيط الذي يربط جميع جوانب قمة آسيان 2025، حيث أصبحت المنطقة ساحة رئيسة للمنافسة الجيوسياسية والاقتصادية. مع تصاعد التوترات التجارية، ومنها تهديدات أمريكية بتعريفات تصل إلى 130%، وقيود صينية على تصدير المعادن النادرة في 9 أكتوبر (تشرين الأول) 2025، تبرز القمة بوصفها فرصة للتهدئة المؤقتة. ترمب، الذي حدد ثلاثة مطالب رئيسة للصين (المعادن النادرة، ومكافحة الفنتانيل، والفول السوداني) يرى في آسيان أداة للضغط غير المباشر، حيث يشجع دول المنطقة على التنويع الاقتصادي بعيدًا عن بكين. على سبيل المثال، الاتفاق مع تايلاند بشأن المعادن النادرة يهدف إلى تقليل الاعتماد الأمريكي على الصين، التي تسيطر على 80% من السوق العالمي، مما يعزز إستراتيجية “الصداقة الشوكية” الأمريكية.
من منظور آسيان، تمثل القمة تحديًا للحفاظ على الحياد، إذ إن المنطقة تواجه “صدمة جيوسياسية” ناتجة عن التصادم في بحر الصين الجنوبي، كما في حادث التصادم بين سفن صينية وفلبينية قرب جزيرة ثيتي في 12 أكتوبر (تشرين الأول) 2025. دول مثل الفلبين، التي وسعت التعاون العسكري مع الولايات المتحدة من خلال منح الوصول إلى قواعد إضافية، تميل نحو واشنطن لمواجهة الادعاءات الصينية، في حين تتبع فيتنام إستراتيجية التوازن برفع علاقاتها إلى شراكات إستراتيجية شاملة مع الولايات المتحدة واليابان وأستراليا، مع الحفاظ على الروابط الاقتصادية مع الصين. هذا التوازن يعكس رغبة آسيان في تجنب “الحرب التجارية”، حيث تهدد التصعيد بتعطيل اتفاقية التجارة الحرة آسيان- الصين 3.0، التي تغطي الاقتصاد الرقمي، والتنمية الخضراء.
النتائج الجانبية للقمة، مثل المحادثات بين وزير الخزانة الأمريكي ونظيره الصيني بشأن “إطار ناجح” للقاء ترمب- شي، تشير إلى إمكانية هدنة تجارية، بما في ذلك تخفيض تعريفات بنسبة 25% مقابل تنازلات صينية في مكافحة الفنتانيل. ومع ذلك، يظل موضوع تايوان نقطة احتكاك، حيث يحذر ترمب من أي تحرك صيني، مع الحفاظ على سياسة “الصين الواحدة” التي توفر دعمًا دفاعيًّا غير رسمي لتايبيه. في هذا السياق، تعمل آسيان وسيطًا، حيث حافظت ماليزيا -بوصفها رئيسة- على مركزيتها في مفاوضات السلام بين كمبوديا وتايلاند، واضعة الولايات المتحدة والصين في الخلفية، مما يعزز دور المنطقة بوصفها منصة للدبلوماسية الشاملة.
تتجاوز دلالات قمة آسيان 2025 النتائج الفورية لتصل إلى آثار جيوسياسية عميقة، حيث تعزز فكرة آسيان بوصفها لاعبًا مستقلًا في عالم متعدد الأقطاب. جيوسياسيًّا، يعكس الحضور الأمريكي محاولة لإعادة رسم التحالفات، لكنه يبرز أيضًا هشاشة الإجماع الإقليمي أمام الضغوط الكبرى. أزمة ميانمار، التي أدت إلى نزوح 3.5 مليون شخص داخليًّا، و1.4 مليون لاجئ، وأكثر من 6700 قتيل مدني، تمثل تهديدًا للاستقرار، حيث تفوق الصين نفوذها في الوساطة، مما يضعف مركزية آسيان. النتائج الإيجابية، مثل انضمام تيمور الشرقية عضوًا كاملًا، تشير إلى قدرة المنطقة على التوسع والتكيف، لكنها تحتاج إلى ميزانية أكبر وإصلاحات مؤسسية لمواجهة التحديات.
اقتصاديًّا، تكمن الدلالات في تعزيز التكامل الإقليمي بوصفه وسيلة للصمود أمام الانفصال العالمي. مع هدف رفع التجارة الداخلية إلى 30%، ومراجعة اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة في 2027، توفر القمة دفعة للتنويع، لكن التعريفات الأمريكية تهدد بتعطيل ذلك. في مواجهة الصراع مع الصين، يمثل التعاون في المعادن النادرة خطوة نحو “الاقتصاد المقاوم”، حيث تسعى آسيان إلى استغلال موقعها كمركز لسلاسل التوريد البديلة. الدلالة الأوسع هي أن القمة تعزز من نموذج “الهيدجينج” الآسياني، الذي يجمع بين الشراكات مع الولايات المتحدة والصين؛ مما يمنع المنطقة من الوقوع في فخ الاستقطاب.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير