تقدير موقف

تحولات في المقاربة الروسية للحل في أوكرانيا.. قراءة في موقف الكرملين الجديد


  • 6 مايو 2025

شارك الموضوع

تحول منتدى “المعرفة” الذي يرعاه الكرملين، والذي انعقد في موسكو، 30 أبريل (نيسان) 2025، إلى منصة مناسبة ليعلن منها المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف ما يمكن وصفه بالتحول الجديد في المقاربة الروسية للحل في أوكرانيا. أصدر بيسكوف عددًا من التصريحات اللافتة تناولت آفاق تسوية النزاع في أوكرانيا، والدور الأمريكي في هذه التسوية، أو -لأكون أدق- كيف يرى الكرملين هذا الدور في الوقت الحالي، فضلًا عن موقف روسيا من المسار التفاوضي.

وتكمن أهمية هذه التصريحات -من وجهة نظري- في كونها تمثل امتدادًا للرؤية الإستراتيجية للكرملين، وليست مجرد مواقف إعلامية عابرة. وسأحاول في السطور التالية تقديم تحليل يفكك أبرز هذه المواقف، واستكشاف دلالاتها السياسية والدبلوماسية.

لماذا الاتفاق مع كييف لا واشنطن؟

أهم تصريحات بيسكوف اليوم هو تأكيده أن الحوار يجب أن يكون مع كييف لا واشنطن، حيث أكد بيسكوف -في إطار رده على سؤال لصحفي أجنبي عن هذا الأمر- أن إي اتفاق سلام يجب توقيعه مباشرة مع أوكرانيا، وليس مع الولايات المتحدة.

تعكس هذه الرؤية محاولة روسية لتأكيد أن الصراع ذو طابع ثنائي من حيث المخرجات النهائية، حتى لو كانت الأطراف الغربية فاعلة ميدانيًّا وسياسيًّا؛ فمن زاوية العلاقات الدولية، تنسجم هذه المقاربة مع ما يُعرف بإعادة تعريف النزاع لتقليص عدد الفاعلين المباشرين، وتحقيق سيطرة أكبر على شروط التفاوض.

وهذا التوجه المعلن اليوم على لسان المتحدث باسم الكرملين يشير إلى رغبة روسيا في استبعاد الصيغة الغربية لصالح مسار سياسي منخفض الوساطة، وهو ما قد يسهل فرض معادلات جديدة على طاولة المفاوضات.

هل تغيرت نظرة الكرملين إلى دور واشنطن؟

بالرغم مما سبق ذكره، تحدث بيسكوف كذلك عن عناصر كثيرة في الرؤية الأمريكية تتقاطع مع الموقف الروسي بشأن أوكرانيا. قد يُقرأ هذا التصريح على أنه جس نبض سياسي للإدارة الأمريكية، وفي الوقت نفسه رسالة إلى كييف مفادها أن واشنطن قد لا تتمسك بجميع خطوطها الحمراء السابقة؛ ما يضعف الموقف الأوكراني التفاوضي. وفي المقابل، قد تستخدم هذه الإشارات لإعادة تموضع روسيا دوليًّا من خلال خطاب “الانفتاح على الحوار”.

تتوافق هذه المقاربة مع نظريات إدراة النزاع، حيث تُستخدم الرسائل غير المباشرة لإحداث تصدع داخل التحالف المقابل، خاصةً في لحظة تعقيد عسكري، أو تراجع تعبوي.

واقعية الكرملين تنعكس بوضوح في إصراره على سرية العملية التفاوضية

من اللافت كذلك أن بيسكوف شدد مجددًا على ضرورة أن يُدار أي مسار تفاوضي بعيدًا عن الأضواء.

يتوافق هذا الموقف مع مقاربات المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، التي ترى أن المفاوضات الفاعلة غالبًا ما تتم خارج المجال الإعلامي؛ تجنبًا للضغوط الداخلية والخارجية. كما أنه -أي الموقف الروسي- يشير إلى أن ثمة قنوات اتصال مفتوحة (غير معلنة) يُبلوَر من خلالها ما يمكن أن يكون نواة اتفاق.

كما يعكس هذا التصريح احتمال أن تكون روسيا منخرطة فعليًّا في مفاوضات غير رسمية، أو في مرحلة تهيئة داخلية لتقبل حل تفاوضي تدريجي.

إذن، انفتاح بوتين على الحوار دون شروط مسبقة: حقيقة سياسية أم تكتيك تفاوضي؟

بيسكوف أعلن في الوقت نفسه أن الرئيس الروسي مستعد للدخول في مفاوضات مباشرة مع أوكرانيا، ولم يقل مع زيلينسكي، دون شروط مسبقة.

مع أن هذا الموقف يبدو مرنًا ظاهريًّا، فإن غياب الشروط المعلنة لا يعني بالطبع غياب المطالب الفعلية، خاصةً أنها تكررت مرارًا وتكرارًا على لسان كل المسؤولين الروس سابقًا. من منظور تحليلي، يمكنني اعتبار ذلك يأتي في سياق المبدأ المعروف باللا شرط الضمني، أي إن بعض الشروط تُثبت في بنية الحوار لا خطابه.

الرسالة هنا بالطبع -في رأيي- موجهة إلى الغرب (الإدارة الأمريكية، وشعوب الدول الأوروبية) أكثر من أوكرانيا، وتهدف إلى إظهار روسيا على أنها طرف عقلاني ومستعد للحل، في مقابل تقديم كييف على أنها جهة متعنتة، أو خاضعة بالكامل للإملاءات الخارجية.

تقدير الموقف

تشير مجمل تصريحات بيسكوف إلى تحول نوعي في مقاربة الكرملين للنزاع، من منطق الحسم العسكري إلى منطق إدارة التوازن السياسي والدبلوماسي. وبينما تحاول موسكو إظهار مرونة محسوبة، فإن ثوابت موقفها الإستراتيجي لا تزال حاضرة، وإن لم تصرح بها مباشرة.

وفي ضوء هذه التصريحات، التي تعكس تطورًا جديدًا في الموقف الروسي، يُرجح أن تشهد المرحلة المقبلة تفعيل “قنوات خلفية” للحوار، برعاية دولية غير مباشرة؛ ما قد يفضي لاحقًا إلى مفاوضات علنية، أو على الأقل إلى “هدنة تفاوضية” طويلة المدى.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع