تاريخ الإسلام السياسي في روسيا يقدم نموذجًا فريدًا للتفاعل بين الدين والدولة، وهو تفاعل يمتد إلى أكثر من ألف عام، تشابك خلالها الإسلام مع التقاليد الروسية المتعددة، والإمبراطورية الروسية الواسعة، ولاحقًا الاتحاد السوفيتي، وصولًا إلى الاتحاد الروسي الحديث. تكمن أهمية الإسلام السياسي في روسيا في كونه ليس مجرد جزء من النسيج الديني للبلاد؛ بل هو عنصر حاسم في شكل السياسة الداخلية والخارجية الروسية ومسارها.
الإسلام السياسي في روسيا يمكن تعريفه بأنه تلك الأنشطة والأيديولوجيات التي تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية من خلال أطر ومفاهيم إسلامية. يشمل هذا التعريف الأحزاب السياسية الإسلامية، والحركات الاجتماعية، والجمعيات الدينية التي تنخرط في الحياة السياسية للبلاد. في السياق الروسي، يتميز الإسلام السياسي بتنوعه الشديد، من المنظمات المحافظة التي تسعى إلى الحفاظ على العادات والتقاليد الإسلامية، إلى الجماعات الأكثر تطرفًا التي قد تلجأ إلى العنف لتحقيق أهدافها.
يعود تاريخ الإسلام في روسيا إلى القرن السابع الميلادي، لكن البدايات الحقيقية للإسلام السياسي تعود إلى الفترة التي تلت انضمام القوقاز ومناطق الفولغا إلى الإمبراطورية الروسية، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. خلال هذه الفترة، بدأ المسلمون بتكوين هوية جماعية متأثرة بالسياسات الروسية التي تعاملت معهم بتفاوت بين القمع والتسامح. شهد القرن التاسع عشر تنامي الوعي الإسلامي كرد فعل على السياسات الروسية الرامية إلى تحويل الولاءات الدينية إلى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية.
تغيرت الأوضاع جذريًّا بعد الثورة البلشفية عام 1917، حيث اعتمد النظام الجديد سياسات معادية للدين بهدف بناء مجتمع علماني قائم على أسس ماركسية. سياسة الدولة تجاه الإسلام كانت مزيجًا من القمع والتكيف، حيث حُظرت الأحزاب الدينية، وقُيّدت الأنشطة الدينية، ولكن في الوقت نفسه، أُنشئ “الإسلام السوفيتي” تحت رقابة الدولة، مما أدى إلى تعقيد العلاقة بين الإسلام والدولة.
تحت الحكم القيصري، واجه المسلمون في روسيا تحديات جمّة من أجل الحفاظ على هويتهم الدينية والثقافية. الإمبراطورية الروسية، التي امتدت عبر القوقاز وآسيا الوسطى، ضمت عددًا كبيرًا من المسلمين الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة سياسات التنصير. هذه السياسات أدت إلى نشوء مقاومة سياسية ودينية بين المسلمين، حيث بدأ العلماء والقادة الدينيون بالدعوة إلى التعليم والإصلاح كوسيلة لتحقيق الاعتراف السياسي والديني.
في بدايات القرن العشرين، وتحديدًا في 15 أغسطس (آب) 1905، كان المشهد الإسلامي في الإمبراطورية الروسية على موعد مع تحول مهم في تاريخه السياسي الروسي. في مدينة نيجني نوفغورود، تجمع ممثلون من مختلف أرجاء الإمبراطورية الروسية، منها شبه جزيرة القرم، وشمال القوقاز، وكازان، والأورال، وتركستان، وسيبيريا، في مؤتمر عموم روسيا للمسلمين. هذا المؤتمر، الذي اشتمل على شخصيات بارزة، مثل أليماردان بيك توبشيباشيف، الذي تقلد منصب نائب رئيس المؤتمر، كان مخصصًا لمناقشة البنية التنظيمية للحركة الإسلامية في روسيا.
من خلال مداولاته، انبثقت عن المؤتمر توجهات تسعى إلى توحيد مسلمي روسيا تحت لواء حركة سياسية واحدة. وعلى الرغم من الدعوات التي طالبت بتشكيل حزب سياسي قوي، فقد سادت في النهاية الآراء المعتدلة التي قادت إلى إنشاء اتحاد إسلامي. وقد حُدِّدَت الأهداف التالية للاتحاد:
تُعد هذه الخطوات حجر الأساس في تاريخ الإسلام السياسي في روسيا، وأدّت دورًا حيويًّا في تشكيل مسار النشاط السياسي الإسلامي في مراحل لاحقة، تاركةً بصمة لا تُمحى على خريطة السياسة الروسية.
تأسس حزب “اتفاق المسلمين” في السياق الغني للنضال من أجل الحقوق الدينية والسياسية التي كانت الإمبراطورية الروسية تعيشها في أوائل القرن العشرين. كان تأسيس الحزب نتيجة للمؤتمر الإسلامي الثالث لعموم روسيا، الذي عُقد على أساس الاتحاد الإسلامي لعموم روسيا الذي تشكّل سابقًا. الحزب الذي كان يتألف غالبًا من التتار وغيرهم من المسلمين في روسيا، اعتمد الليبرالية جزءًا من أيديولوجيته، مع التركيز على قضايا الدين والحريات الفردية على نحو خاص.
منذ تأسيسه، عمل حزب “اتفاق المسلمين” على التعاون- تعاونًا وثيقًا- مع الحزب الدستوري الديمقراطي، خاصة في إطار عمل مجلس الدوما. هذا التعاون كان يهدف إلى تعزيز الحقوق الدينية والسياسية للمسلمين في روسيا، وقد أسهم- على نحو فعال- في تعزيز الوعي السياسي والثقافي بين المسلمين.
كان للحزب دور كبير في الأنشطة التعليمية والثقافية، حيث سعى إلى نشر الكتب والمجلات والصحف التي تعزز المحتوى الإسلامي، وتعليم المسلمين في روسيا. كما أنشأ الحزب مكتبات ومؤسسات تعليمية تهدف إلى الارتقاء بالوضع الثقافي والتعليمي للمسلمين، وتعزيز الاستقلال الثقافي والوطني.
على الرغم من التحديات الكبيرة التي واجهها حزب “اتفاق المسلمين”، بما في ذلك المقاومة من السلطات القيصرية، والكنيسة الأرثوذكسية التي استمرت في الحفاظ على مركزها المهيمن، فإن الحزب استطاع أن يحقق كثيرًا من الإنجازات، من بينها تمكُّن الحزب من تحقيق مستوى معين من الحرية الدينية للمسلمين، والمشاركة الفعالة في الحياة السياسية لروسيا.
حزب “اتفاق المسلمين” كان مثالًا على النضال من أجل الحقوق الدينية والسياسية في بيئة كان يسودها كثير من التحديات. من خلال الجمع بين الأنشطة السياسية والتعليمية والثقافية، أسهم الحزب في تعزيز وضع المسلمين في روسيا، وأثر- تأثيرًا كبيرًا- في مجريات الأحداث السياسية والثقافية في الإمبراطورية الروسية في بداية القرن العشرين.
الحرب العالمية الأولى كانت لها تأثيرات مدمرة على المسلمين في روسيا، حيث جُنِّدُوا بأعداد كبيرة للقتال في جبهات متعددة. كما أثرت الحرب في البنية الاقتصادية والاجتماعية للمناطق التي يقطنها المسلمون؛ مما أدى إلى تفاقم التوترات القومية والدينية. بالإضافة إلى ذلك، استغل بعض القادة المسلمين الفرصة للمطالبة بحقوق سياسية وإدارية أوسع خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت الحرب؛ مما زاد تعقيد الوضع السياسي في روسيا.
في أعقاب الثورة البلشفية عام 1917، اعتمدت الحكومة السوفيتية سياسات صارمة تجاه الدين عامةً، والإسلام خاصةً؛ إذ أُغلقت المساجد والمدارس الدينية، وحُظرت الأنشطة الدينية العامة. هذه السياسات كانت جزءًا من محاولة أوسع لإقامة مجتمع علماني قائم على أسس الماركسية- اللينينية. ومع ذلك، في الثلاثينيات، بدأت الحكومة السوفيتية بتنفيذ سياسة “الأممية السوفيتية” التي تهدف إلى تعزيز الهوية السوفيتية، مع الاعتراف بالتنوع العرقي والديني.
خلال العهد السوفيتي، أُنشئت عدة جمهوريات قومية ذات أغلبية مسلمة، مثل جمهورية تتارستان، وجمهورية بشكيريا. هذه الجمهوريات كانت محاولة لتوفير قدر من الحكم الذاتي ضمن الإطار السوفيتي. بالرغم من القيود الشديدة، تمكن بعض القادة المسلمين من استخدام هذه الجمهوريات وسيلةً للحفاظ على الثقافة والهوية الإسلامية.
على الرغم من القمع، لم تختفِ الممارسات الإسلامية تمامًا في الاتحاد السوفيتي؛ بل شهدت بعض المناطق، مثل القوقاز وآسيا الوسطى، استمرار الممارسات الدينية سرًّا. بالإضافة إلى ذلك، في السبعينيات والثمانينيات، بدأت الحكومة السوفيتية بتخفيف بعض القيود على الممارسات الدينية كجزء من إستراتيجية أوسع لتعزيز الولاء الوطني، واستقرار الدولة.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، واجهت الأحزاب السياسية الإسلامية تحديات كبيرة في التكيف مع الواقع السياسي الجديد في روسيا. أحد الأمثلة البارزة على هذا التحدي كان حزب النهضة الإسلامي، الذي تأسس عام 1990، وكان أول منظمة سياسية إسلامية في روسيا بعد السوفيت. تأسس الحزب في أستراخان، وجمع نحو 250 مندوبًا، و100 ضيف في مؤتمره التأسيسي، وانتخب أحمد قاضي أخطايف زعيمًا له.
في البداية، كان حزب النهضة الإسلامي يهدف إلى توحيد المسلمين في الاتحاد السوفيتي السابق، وكان لديه نحو عشرة آلاف عضو. ومع ذلك، بسبب انهيار الاتحاد السوفيتي، تفككت هياكل الحزب الجمهورية، وأصبحت مستقلة. الحزب، الذي لم يشارك مشاركة كبيرة في الحياة السياسية للبلاد، قصر أنشطته على دعاية الإسلام.
مع أن حزب النهضة الإسلامي كان رائدًا في تمثيل الإسلام السياسي في روسيا الحديثة، فإنه لم يحقق نجاحًا يذكر في الانتخابات الفيدرالية. وقد شارك في تأسيسه شخصيات مثل حيدر جمال، وسوبيان عبد اللاييف، الذي أصبح فيما بعد أول نائب لأمير إمارة القوقاز. على الرغم من الأسس القوية والقيادة المؤثرة، واجه الحزب تحديات كبيرة في إيجاد مكانة ضمن المشهد السياسي الروسي الجديد.
في السنوات التي تلت انهيار الحزب، جرت محاولات لتوحيد المسلمين الروس في أحزاب جديدة، مثل الحزب الأوراسي لروسيا، والحزب الإسلامي لروسيا. شاركت هذه الأحزاب في انتخابات مجلس الدوما عام 2003 كجزء من الاتحاد الروسي الأوراسي العظيم، وكتل الوطنيين الحقيقيين، لكنها حصلت على أقل من 0.3 % من الأصوات؛ مما أدى إلى فشل آخر في تأسيس حزب سياسي إسلامي ناجح في روسيا.
يُعد تاريخ الإسلام السياسي في روسيا فصلًا متعدد الأبعاد في سجل التفاعل بين الدين والدولة، وهو يعكس الحركة المستمرة بين التعايش والصراع. منذ دخول الإسلام إلى المجالات الروسية حتى العصر الحديث، شهد المسلمون تغيرات كبيرة في كيفية ممارسة معتقداتهم، ومشاركتهم في الحياة العامة والسياسية.
خلال العهد القيصري، عانى المسلمون تحديات جمة، تمثلت في الضغوط للتنصير والاستعمار الثقافي، وردًا على ذلك، ظهرت حركات إصلاحية وسياسية أبرزها حزب “اتفاق المسلمين”، الذي جسّد محاولة للجمع بين الهوية الإسلامية والمطالبة بحقوق مدنية وسياسية. مع قدوم الثورة البلشفية والنظام السوفيتي، واجه الإسلام تحديات أكبر، تمثلت في السياسات العلمانية القمعية، ولكنه استمر في البقاء عنصر هوية وثقافة لكثير من المسلمين.
في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، تبلورت الفرصة لإعادة تشكيل الحياة السياسية الإسلامية، وقد مثّل حزب النهضة الإسلامي مرحلة جديدة من النشاط السياسي الإسلامي. ومع ذلك، فإن الصعوبات التي واجهت الحزب تؤكد التحديات الجوهرية التي يواجهها الإسلام السياسي في تحقيق مكانة مستقرة في النظام السياسي الروسي الحديث.
إن تاريخ الإسلام السياسي في روسيا تاريخ معقد ومتشابك، يتسم بالتحولات العميقة، والتأقلم مع الظروف المتغيرة. إنه يُظهر تطور المشهد السياسي الديني في بيئة متنوعة، ويُعد الإسلام جزءًا من النسيج الاجتماعي والثقافي في روسيا، مع تأثيرات تمتد من المجال السياسي إلى الاجتماعي والثقافي. في نهاية المطاف، يُعطي تاريخ الإسلام السياسي في روسيا دروسًا قيّمة في التحمل والصمود، ويُعزز فهم التعقيدات التي تميز العلاقات بين الدين والدولة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.