تقدير موقف

قراءة في تصريحات شيخ الدبلوماسيين الروس

بين “روح” أنكوريج وتعدد النسخ.. كيف تقرأ موسكو خطة ترمب للتسوية في أوكرانيا؟


  • 26 نوفمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: bbc.com

عاد شيخ الدبلوماسيين الروس إلى الأضواء الإعلامية، أمس الثلاثاء 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، بسلسلة من التصريحات القوية البالغة الوضوح للتعليق على خطة الرئيس الأمريكي للتسوية في أوكرانيا.

وبعودته أعاد الدبلوماسي المخضرم، سيرغي لافروف، ضبط الإيقاع السياسي للنقاش أو للغط الدولي بشأن الخطة الترمبية المثيرة، فخلال المؤتمر الصحفي الذي جمعه بنظيره البيلاروسي في قصر ضيافة الخارجية الروسية أصدر الوزير الروسي سلسلة من التصريحات، قدم فيها ما يمكن اعتباره أول تحديد رسمي روسي دقيق لطبيعة هذه الوثيقة، والأهم لما قبلته أو تقبله موسكو والكرملين وبوتين منها، ولما لم تتسلّمه بعد، ولما تنتظره من الأمريكيين.

ما قاله الوزير الروسي لا يفتح بابًا للتفسير، فقد كان قاطعًا ومباشرًا؛ إذ أكد أن روسيا لديها نسخة واحدة فقط من 28 بندًا، ولم تتسلم أي نسخ معدلة، والنسخة الوحيدة المناسبة لها هي تلك التي تعكس تفاهمات أنكوريج الأساسية.

لافروف اتهم أوروبا بأنها تحاول “عبر التسريبات والضجيج والصراخ”، -حسب تعبيره- وإعادة كتابة الخطة لتصبح خارج تلك التفاهمات الأمريكية الروسية، أو لنكن أدق، الترمبية البوتينية لحل الصراع الأوكراني.

انطلاقًا من تصريحات وزير الخارجية الروسي يصبح بإمكاننا رسم تصور للقراءة الروسية الجديدة لهذا المسار برمته، فحديث لافروف عن نسخة واحدة فقط، وأنها ليست رسمية، وتشديده على هذا التفصيل، وحرصه على التصريح أمام كل وسائل الاعلام أن هذه النسخة وصلت إلى موسكو عبر قنوات “غير رسمية”، وأنها لم تتلق بعد أي نسخ أخرى، يجعلنا نطرح عددًا من التساؤلات المشروعة عمّا يهدف إليه الرجل من هذا التصريح.

أولها، هل ترى موسكو أن النسخة المسربة إعلاميًّا هي النسخة الحقيقية أم لا؟ فما دامت واشنطن لم تقدم نسخة رسمية، إذن فموسكو تتعامل عمليًّا مع نص واحد فقط، وهو النص الذي يطابق -حسب كلام لافروف- روح تفاهمات أنكوريج ونصها.

وتفاهمات أنكوريج -كما أفهمها من التصريحات الروسية الرسمية المتكررة- تقوم على ثلاثة مبادئ، وهي الاعتراف بالأمر الواقع على الأرض، وحياد أوكرانيا الدائم، ومعالجة الأزمة داخل إطار أمني أوروبي- روسي مشترك، وليس أطلسيًّا، وما أقصده هنا هو موضوع الضمانات الأمنية المتبادلة التي صدعت رؤوسنا.

التساؤل الثاني، إعلان لافروف عن عدم وجود نسخة رسمية لدى روسيا، ما هدفه؟ هل هو يقصد وصف ذلك بأنه رسالة ضغط أمريكية أم ماذا؟ فمن وجهة نظر موسكو، امتناع واشنطن عن تسليم نسخة رسمية (عبر القنوات الدبلوماسية بحيث يمكن تسجيلها في الملفات واعتبارها وثيقة رسمية، حتى لو لم تكن نهائية) يعني أحد أمرين لا ثالث لهما، إما أن البيت الأبيض يريد اختبار رد الفعل الروسي قبل تثبيت النص النهائي، وإما أن هناك بالفعل انقسامًا داخل الإدارة الأمريكية بين فريقين أو جناحين، وهو ما تناولته في تحليل سابق؛ جناح ويتكوف- كوشنر ضد جناح ماركو روبيو. وهذا الانقسام هو الذي يمنع صدور نسخة موحدة حتى لحظة كتابة هذه السطور.

على كل حال، كلا الاحتمالين يعزز موقع موسكو التفاوضي؛ لأن الخطة في كلتا الحالتين تظل غير نهائية، وفي الوقت نفسه فإن الخلافات داخل المعسكر الغربي أعمق بكثير مما تعكسه التصريحات أو تظهره.

تساؤل آخر: أي نسخة معدلة إذن يجب أن تمر حكمًا عبر موسكو؟ فقول لافروف إنه “لا ينبغي طمس روح تفاهمات أنكوريج ونصها” يعني عمليًّا وتلقائيًّا أن أي تعديل أوروبي أو أوكراني لا يعترف بالوقائع الجديدة على الأرض مرفوض مسبقًا.

فضلًا عن ذلك، نقرأ في تصريحات شيخ الدبلوماسيين الروس رفضًا للعبة الأوروبية القائمة على الضجيج والصراخ والصياح والتسريب. الوزير الروسي قال متهكمًا وساخرًا: “الذين يمارسون دبلوماسية الميكرفونات لا يبتغون أبدًا أهدافًا نبيلة”، وهذه بالطبع إشارة مباشرة إلى باريس وبروكسل، إلى ماكرون ومن لف لفه.

لكن، لكي نكون موضوعيين في التحليل، لا بد أن نطرح سؤالًا آخر مشروعًا: لماذا ترفض موسكو النسخة الأوروبية، التي تتكون من 19 بندًا، حسبما تفيدنا تسريبات الصحافة الغربية، بوليتيكو مثلًا؟

فالحديث اليوم كله عن أن وزير الجيش الأمريكي سيقدم نسخة من هذه الخطة المعدلة لممثلي الجانب الروسي في أبو ظبي، وهنا نجد أنفسنا مضطرين إلى الاعتماد على ما أعلنه الأوروبيون أنفسهم هم والأوكران بعد مشاورات جنيف، فتقليص البنود الـ28 إلى 19 ما هو إلا محاولة أوروبية أوكرانية لشطب الاعتراف بالأقاليم الأربعة، وهو ما كانت الخطة الأولى تنص عليه. ثم تفيدنا التسريبات كذلك أنها تحيد البنود الخاصة بوضعية اللغة الروسية، وهذا أمر حساس شعبيًّا للكرملين وبوتين أمام شعبه، فضلًا عن إلغاء القيود على تعداد الجيش الأوكراني، وهذا أصلًا كان أحد الأهداف الأساسية “للعملية العسكرية الخاصة”، وإن كان تحت اسم آخر، وهو نزع سلاح أوكرانيا.

وبهذا نستطيع إجمال الموقف الروسي في عبارة بسيطة: النسخة التي لا تعكس أنكوريج ليست نسخة قابلة للتفاوض.

لافروف لم يفوت الفرصة ليقدم تشخيصًا للدور الأوروبي، بأن الأوروبيين أضاعوا كل الفرص، ففي واحدة من أكثر العبارات وضوحًا اليوم، قال الوزير الروسي: “أوروبا أضاعت كل الفرص التي كانت لديها منذ 2014، وهي من أفشلت اتفاقيات مينسك”.

وهذا ليس مجرد تصريح نقدي؛ بل هو تأطير سياسي لمسار التفاوض الحالي، فالقراءة الروسية تسم الموقف الأوروبي اليوم بثلاث خصائص، أولاها أن أوروبا تحاول إنقاذ سرديتها السياسية، بمعنى أن الأوروبيين لا يستطيعون الاعتراف بأنهم فشلوا، مع أن الواقع يفرض عليهم إعادة تعريف علاقتهم بالأزمة.

ثانيًا: من الواضح أن أوروبا تعيش اليوم خوفًا إستراتيجيًّا؛ فتصريحات ماكرون، التي وصفها لافروف بأنها “أحلام يقظة”، تعكس مأزقًا بين الرغبة في الظهور بمظهر المتحدي والعجز العملي عن التأثير؛ لذلك تحاول أوروبا العمل على شل خطة ترمب عن طريق إغراقها في التفاصيل، فقد كان واضحًا تمامًا منذ أن ظهرت التسريبات الأولى عن هذه الخطة أن الأوروبيين أصيبوا بحالة ارتباك، وقد كان متوقعًا أن يلجؤوا إلى تكتيكتاهم المعروفة، من خلال التأجيل، ثم التخفيف، ثم التعديل، ثم إعادة التفاوض من الصفر.

اللافت أيضًا في هذه العملية هو دخول الصين اليوم على الخط، والأهم أن موقفها ظهر مجددًا أقرب إلى موسكو من أوروبا؛ ففي تصريحات لنائب وزير الخارجية الروسي أندريه رودينكو قال فيها إن هناك اتصالات روسية جارية مع الصين بشأن خطة ترمب، وكذلك أمريكية.

وأشارت تصريحات الدبلوماسي الروسي أن دخول الصين على خط المشاورات الخاصة بهذه الخطة يهدف إلى موازنة الضغط الأمريكي، وكذلك إلى تثبيت البعد الآسيوي في التسوية، فيما يبدو وكأنه مقابل البعد الأوروبي، ومن هنا نستشف أن روسيا تحاول التذكير بأن الأزمة لم تعد أوروبية أطلسية فقط، ولكنها خرجت خارج هذه الحدود.

لذلك، إجمالًا لكل ما ذكرته أعلاه، وانطلاقًا من تصريحات الوزير لافروف، يمكننا رسم تصور لمسار التسوية المحتملة على الطريقة الروسية، أو بالكيفية التي تراها مناسبة موسكو والكرملين وبوتين، وهي ببساطة أن موسكو لن تقبل أي نسخة معدلة قبل الاطلاع على “النسخة الوسيطة” الرسمية، وأي تفاوض سيكون فقط على أساس النص الذي لم تسلمه واشنطن بعد.

أوروبا تسعى إلى إجهاض الخطة، لا لتطبيقها، وهذا أمر لا جدال فيه، من وجهة نظري الشخصية بالطبع المبنية على قراءتي للفعل والسلوك الأوروبي، وتتبعي له ولتصريحات المسؤولين، وتعليقات الخبراء الأوروبيين منذ لحظة ظهور تسريبات الخطة مرورًا باجتماع جنيف، الاثنين 24 نوفمبر (تشرين الثاني)، وقمة تحالف الراغبين الافتراضية الطارئة أمس.

أما واشنطن فهي مستعجلة، لكن خريطة الطريق لا تزال غير موحدة، فما بين نسخة الـ28 بندًا، ونسخة الـ19 بندًا، والنسخة المتفق عليها مع أوروبا، لم نر حتى هذه اللحظة النسخة الرسمية، لم تعلن ولم تنشر النسخة التي يمكن أن نسترشد بها ونهتدي إليها ونسميها النسخة الأمريكية الحقيقية، وهذا يفسر هدوء أو برود أعصاب بوتين، فهو يمسك بالخيط الحاسم، وينتظر النسخة التي يفترض أن تحسم اللعبة، ويوم 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 -فيما يتعلق بخطة ترمب- لا يمكن اعتباره عاديًّا، ففي هذا اليوم تحديدًا كشفت لنا تصريحات شيخ الدبلوماسيين الروس -بوضوح- موقف موسكو من خطة ترمب للتسوية.

الخطة في نظر موسكو ليست نهائية، والإدارة الأمريكية والغرب منقسمان، وأي محاولة لتعديل روح أنكوريج تعني انهيار المسار قبل بدايته.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع