مقالات المركز

مستندًا إلى الميدان.. الرئيس الروسي يعيد رسم معالم التفاوض وحدود اللعبة مع واشنطن وأوروبا

بوتين يعيد هندسة معادلة الحرب والسلام من بشكيك!


  • 28 نوفمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: reuters

جاءت تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الخميس 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، من بشكيك عاصمة قرغيزيا، على هامش قمة منظمة معاهدة الأمن الجماعي، لتضع عددًا من النقاط المهمة على سطور السياسة الداخلية الروسية، خصوصًا بشأن الشائعات المرتبطة بالموقف من شيخ الدبلوماسية الروسية ورفيق رحلة النهوض في روسيا في عهد بوتين، على سطور مسار المفاوضات المعقد بين واشنطن وكييف وموسكو، وعلى المسار الميداني الذي يتقدم فيه الجيش الروسي على محوري كراسنوارميسك ودميتروف، وعلى مسار إقليمي تسعى فيه موسكو إلى إعادة بناء هندسة أمنية أوراسية جديدة.

إذا طُلب مني وضع عنوان عريض لخطاب بشكيك لوصفته بالإعلان الصريح عن انتقال موسكو إلى مرحلة إعادة بناء قواعد النظام الأمني على المستويين الإقليمي والدولي، وتجاوز مرحلة إدارة الصراع مع الغرب في أوكرانيا.

تابعت المؤتمر الصحفي الختامي لبوتين بعناية شديدة لكل كلمة قالها، وكل إشارة أرسلها، وحسب فهمي الخاص لكلام الرجل، لم يكن حديثه هذه المرة مجرد تقييم ميداني، على الرغم من تقديمه عرضًا وافيًا للصورة الميدانية، بحسب الرواية الروسية بالطبع، التي عادة ما تثبت صحتها في نهاية المطاف كل مرة.

ولم يكن حديثه كذلك مجرد تعليق على مسار مفاوضات جديدة متعثرة بسبب مواقف الأوروبيين، على الرغم من إشارته إلى ذلك، أو اتهامه للأوروبيين في الحقيقة بالوقوف وراء التعثر.

حديث الرئيس الروسي كان أشبه بخريطة مراجعة شاملة لكل المسارات التي ذكرتها أعلاه، والتي تتحرك فيها روسيا اليوم، وعلى رأسها بالطبع الميدان، والمفاوضات التي يفرضها الميدان، وهندسة الأمن الإقليمي الذي تفرضه أحداث ميدان أوكرانيا.

وإذا لاحظتم، فقد ربطت كل المسارات بالميدان، وهذا هو الواقع، فهذا التلاقي بين المسارات هو ما يمنح تصريحات بوتين طبيعة إستراتيجية، فهو لم يكن يتحدث -بحال- عن أمور ظرفية، أو يناور بأمور وقتية؛ بل كان يرسم معادلات لمستقبل أمم خلال عقود مقبلة.

لقد قطع بوتين الطريق في تصريحاته اليوم على رواية أوروبا، وأعاد مركزية القرار في حل صراع أوكرانيا إلى الكرملين. فما قاله بوتين اليوم بوضوح تام عن الدور الرئيس لكبير دبلوماسييه، ودور وزارة الخارجية الروسية في أي عملية تفاوض محتملة، يعيد تموضع الأدوار بوضوح، ويقطع الألسنة التي طعنت في لافروف ودوره.

ففي لحظة تكاثرت فيها التسريبات الأمريكية والأوروبية عن مفاوضات خلفية وخلافات روسية داخلية، وغضب من لافروف، قدم بوتين جوابًا بسيطًا لكنه كان دقيقًا وقاطعًا: إذا أردتم التفاوض على السلام، فسيكون عليكم الحديث مع لافروف، والاتفاق معه أولًا.

بوتين قالها بوضوح: لا انقسامات في فريقي، ولا وجود لقنوات تفاوض بديلة عن تلك التي يحددها الرئيس. وهذه الجملة -وإن لم تُنطق حرفيًّا-  كانت واضحة في مضمون حديثه، وهي -في رأيي- موجهة إلى الغرب قبل الداخل الروسي. والبيت الأبيض يدرك أن أي اختراق تفاوضي يتطلب وحدة قرار روسية، وأن ضرب هذه الوحدة هو الطريق الأقصر لإفساد خطة ترمب.

وبوتين برده الصريح جدًّا أغلق الباب أمام هذا التكتيك.

أما النسخة الأمريكية من خطة السلام، سواء ذات الـ28 بندًا، أو النسخة المختزلة، فيبدو من تصريحات الرئيس الروسي أنها احتلت مركز النقاش في موسكو بين بوتين وفريقه خلال الفترة الماضية. بوتين -ولأول مرة- أعلن بوضوح أنه لم تكن هناك خطط محددة؛ بل مجموعة من الأفكار التي يمكن أن تشكل أساسًا للنقاش، أما الخطة التي سوف تلتزم بها موسكو، فهي تلك التي تعكس روح أنكوريج، ولا شيء آخر.

إذن، كيف نقرأ تصريحات بوتين؟ لا جدال لديّ، وأعتقد لدى كل مراقب يفهم سياسية الكرملين، أن موسكو وبوتين لن يقبلا بأي تفكيك للبنود الأساسية، أو بتعبير أدق الشروط الأساسية للتسوية على الطريقة البوتينية.

والأهم -في رأيي- أن أي خطة تطيح أو تحاول الإطاحة بمبدأ حياد أوكرانيا ستكون بلا قيمة، ومعدومة الجدوى والمغذى.

كما أن نية واشنطن، بوحي من الأوروبيين، فصل ملف الضمانات الأمنية، التي هي صلب مسألة الحياد من وجهة نظر موسكو، عن الملف السياسي، فهو فصل يراه بوتين محاولة لإدامة هشاشة الوضع بعد وقف إطلاق النار.

فضلًا عن ذلك، فإن التسريبات التي انتشرت إعلاميًّا بعد لقاء جنيف تشير إلى أن تعديلات واشنطن على خطتها الأولية أدت عمليًّا إلى تقارب هذه الخطة الأمريكية مع الموقف الأوروبي، وهو ما تراه موسكو والكرملين وبوتين مسارًا لتفريغ الخطة الأولية الجيدة، والجدية بحسب وصف بيسكوف لها، من مضمونها المقبول مبدئيًّا لروسيا.

وهنا بدا لي منطق بوتين صارمًا بدرجة كافية، فمضمون تصريحاته يخبرنا بوضوح أن أي خطة لا تعترف بحدود القوة الجديدة على الأرض، ولا تثّبت حياد أوكرانيا، ولا تضمن وقف تدفق السلاح الغربي إلى كييف ليست تسوية، وما هي إلا هدنة لصالح الغرب.

البيانات التي تذكرها وزارة الدفاع الروسية اليوم بخصوص الوضع في كراسنوارميسك ودميتروف، أو بوكروفسك وميرنوغراد بالتسميات الأوكرانية، والأرقام التي أوردتها عن الخسائر الأوكرانية تؤمن على ما قاله بوتين، وهي ليست في رأيي لإعلان نصر ما بقدر ما هي إشارة إلى أن موسكو مستعدة للتفاوض مستندة إلى حقائق الميدان، وإلى ضغط جيشها، فالميدان -من وحي كلام الرئيس الروسي- هو من يحدد شكل الطاولة.

فخطاب بوتين يذكرنا بمبدأ وموقف روسي شعبي قبل أن يكون نخبويًّا، من واقع قراءتي للداخل الروسي، وهو المبدأ الذي ينص على عقيدة تعرف في التحليلات الروسية بمفهوم “تثبيت الأرض قبل تثبيت السياسة”.

وفيما يتعلق بالعلاقة مع أوروبا، كان بوتين حادًّا بشدة، فقد قدّم الرئيس الروسي صورة للطرف الأوروبي على أنه الطرف الذي يتخفى وراء علو الصوت دون أن تكون لديه قدرة على الفعل، أو التأثير، أو التغيير.

بوتين لم يُظهر أي نية لديه لإشراك بروكسل في صياغة أي تسوية محتملة في أوكرانيا، بل كان حريصًا على إعادة تذكير الأوروبيين بأنه لا ينسى أنهم هم من نقضوا اتفاقات مينسك، وأن بوريس جونسون هو من خرب اتفاق إسطنبول، الذي كان يمكن أن ينهي الحرب في شهرها الثاني، ويوفر على روسيا كل الكلفة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، والأهم يُبقي على أوكرانيا كدولة، ولا يفقدها ما فقدته من أرواح أبنائها، ومن إقليمها.

وبوتين هنا -في رأيي- لم يكن يقدم مراجعة تاريخية، ولا يجتر الماضي؛ بل يحاول تأسيس قاعدة روسية واضحة مفادها أن أوروبا ليست شريكًا، بل معطلًا سياسيًّا ومصلحيًّا.

فتسريبات ماكرون بشأن رفضه تقليص الجيش الأوكراني أكدت لموسكو والكرملين وبوتين أن أوروبا لا تبحث عن تسوية؛ بل عن نموذج جديد من الحرب الباردة على الحدود الشرقية؛ لذلك ترى موسكو أن أوروبا تسعى إلى نقل تكلفة النزاع إلى واشنطن مجددًا، في حين تحاول بريطانيا تحديدًا خنق مبادرة ترمب من أجل إطالة أمد الحرب.

ومن هنا كان بوتين واضحًا، وكأنه يقول للأوروبيين، الفرنسيين والإنجليز في المقام الأول، أنا أراكم وأسمعكم وأفهمكم جيدًا؛ ولذلك كان رد فعله مباشرًا: التفاوض سيكون مع واشنطن، أما أوروبا فستظل تحت عين مراقبتنا.

وقبل أن أختم المقال، لا بد أن أطرح سؤالًا يبدو من وجهة نظري مهمًّا، من وحي قراءتي لتصريحات بوتين في قمة بشكيك: هل يبني بوتين نسخة محدثة من حلف وراسو؟

هنا يظهر العنصر الأكثر حساسية في تصريحات بوتين وخطاب بشكيك. وحتى أكون موضوعيًّا ينبغي أن أقول إن الرئيس الروسي لم يطرح مباشرة حلفًا عسكريًّا جديدًا، لكنه طرح اللبنات الأساسية لنظام دفاع جماعي متطور، يشمل برنامج تسليح موحد لأعضاء منظمة الأمن الجماعي بأسلحة أثبتت فعاليتها في الحرب.

كما أعلن نية روسيا -في إطار رئاستها للمنظمة- تطوير منظومات دفاع جوي مشترك مع دول المنظمة، وإعداد إستراتيجية أوراسية جديدة لمكافحة الإرهاب، فضلًا عن تأكيد أن أمن آسيا الوسطى هو جزء من أمن روسيا القومي المباشر.

وفي هذا السياق والصدد لفت نظري بشدة إعلان بوتين خلال خطابه نية موسكو تنظيم منتدى أمني دولي في موسكو عام 2026 قبيل الاجتماع العام لقادة المنظمة في العاصمة الروسية، على أن تُدعَى الدول الصديقة كذلك إليه، وموضوعه -حسب كلام الرئيس الروسي- هو كيفية التصدي لتقدم البنية التحتية لأحلاف عسكرية واقترابها من حدود دول المنظمة، والأخطار والتهديدات المرتبطة بذلك.

ولا أستبعد أن يكون هذا الاجتماع هو اجتماع إعلان تأسيس حلف موسكو، الذي وُضعت لبناته في بشكيك.

وهنا قد يُطرح سؤال مشروع: على ماذا بنيتُ افتراضي هذا؟ وردي هو: من واقع فهمي لدلالات المصطلحات التي تستخدمها النخبة الروسية، وخصوصًا القيادة، وما تنقله الدوائر المقربة من صنع القرار، فهي تستخدم مصطلحات شديدة الدلالة، مثل: “نسق دفاعي أوراسي مقابل النسق الأطلسي”؛ و”مأسسة التوازن مع الناتو”؛ و”انتقال المنظمة من التعاون الأمني إلى التكامل العسكري”.

لكن هل هذه منظمة وراسو جديدة؟ بالمفهوم التاريخي طبعا لا، لكن بالمفهوم الوظيفي -في رأيي- نعم، وإن كان هذا الأمر لن يحدث دفعة واحدة، بل بالتدريج، وعلى مراحل هادئة.

فما يسعى بوتين إلى بنائه ليس حلف مواجهة بالمعني التقليدي للكلمة؛ ولكن خريطة أمنية موحدة تسمح لروسيا بخلق عمق إستراتيجي يتجاوز حدودها الغربية الملتهبة، ويوازن تمدد الناتو من جهة، ويمنح موسكو قدرة أكبر على صيانة حدود التفاوض من جهة أخرى.

وبهذا المعني، فإن تصريحات بوتين من بشكيك ليست تعليقا على الأزمة؛ وإنما هي وثيقة مفاهيمية لرؤية إستراتيجية يعلن قيصر روسيا المعاصر من خلالها -بوضوح- أن موسكو بعد زهاء أربعة أعوام من المواجهة المباشرة مع الغرب في أوكرانيا أصبحت الطرف الأكثر قدرة على التحكم في معادلة الحرب والتفاوض، وفي هندسة النظام الأمني الذي سيُبنى بعد انتهاء الصراع، سواء بشروط واشنطن، أو بشروط موسكو.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع