أبحاث ودراسات

بعد رحيل رئيسي.. ما مستقبل إيران في قارة الفرص الذهبية؟


  • 31 مايو 2024

شارك الموضوع

مقدمة

ردًا على العقوبات المعوقة المفروضة على إيران، أطلقت الحكومة الجديدة في طهران هجمة دبلوماسية موسعة في الجنوب العالمي من أجل تعزيز علاقاتها التجارية والاقتصادية. وبينما تقدم لإفريقيا الشراكات التجارية والعسكرية، والأسلحة، والطائرات المسيرة، تحصل الجمهورية الإسلامية- في المقابل- على تعزيز نفوذها هناك، وتضمن إطلالتها من البحر الأحمر على منطقة غرب آسيا، وقربها من باب المندب الذي يربط البحر الأحمر بخليج عدن، ومن القرن الإفريقي شرقًا إلى منطقة الساحل غربًا، حيث ترسخ طهران وجودها، لا سيما التوغل الاقتصادي، وتساعدها تلك الدبلوماسية على تجاوز العقوبات الدولية بتأسيس قاعدة جديدة لـمحور المقاومة، وهي أرضية أسستها طهران منذ عقدين.

لكن تلك العلاقات التي تصر إيران على ترسيخها تجد نفسها أمام تحدٍّ جديد بعد مصرع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، ما يطرح جملة من التساؤلات بشأن انعكاسات التغيير المفاجئ برأس السلطة التنفيذية في السياسة الخارجية الإيرانية حيال القارة الإفريقية، وهل سيستمر التقارب الإيراني مع الدول الإفريقية كما كان في عهد الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي الذي كان يتبنى مقاربة إعطاء أولوية للملف الإفريقي، أم سيتراجع التقارب في ضوء انشغال النخبة الإيرانية بترتيب المشهد في الداخل الإيراني على حساب السياسة الخارجية الإيرانية؟ وهل سيتدخل المعسكر الإيراني في دعم الجماعات الإفريقية المتشددة ويمولها؟ أم سيكون هناك اتجاه للتهدئة؟

العقيدة الإيرانية تجاه إفريقيا

بُنيت الجمهورية الإسلامية الإيرانية على أسس أيديولوجية، وتشكلت سياساتها ومؤسساتها على تلك الأسس، حيث يتصور الدستور الإيراني بنية تقوم على ثنائية المضطهدين والظالمين، وبهذا تدعي إيران أنها تقف مع المضطهدين في العالم ضد الظالمين، وقد تم تأكيد هذا في عدة أجزاء من دستورها؛ ومن هذا تنص المادة الـ154 من الدستور الإيراني على أن جمهورية إيران الإسلامية تعتبر سعادة الإنسانية على جميع المستويات أمرًا مثاليًّا، فهي تعترف بالحرية، والعدالة، وسيادة القانون حقًا للإنسانية جمعاء؛ ومن ثم أوضح النظام الإيراني أنه سيقف مع المظلومين ضد الظالمين، بغض النظر عن معتقدهم، أو عرقهم.

منذ الثورة الإسلامية، بدأ اهتمام جمهورية إيران الإسلامية بإفريقيا، لكن على مدار الخمسة والأربعين عامًا التي تلت الثورة، طرأت بعض التغييرات على سياسة إيران تجاه القارة نتيجة للتطورات التي شهدتها الساحتين الداخلية والخارجية لطهران، ومع ذلك، كان هدف إيران الإستراتيجي واضحًا منذ نشأة الجمهورية الإسلامية؛ وهو إبراز إيران بوصفها قوة تتجاوز كونها قوة إقليمية، والضغط على منافسيها، وخاصة الولايات المتحدة، في مناطق جغرافية أخرى للحصول على مزايا سياسية واقتصادية، وتخفيف تأثير العقوبات عليها، وتحييد إستراتيجية العزلة السياسية الموجهة إليها من خلال تشكيل شبكة من التحالفات القوية.

لذا انتهجت إيران سياسة “المحور نحو إفريقيا” استجابة للحاجة إلى مكافحة العقوبات، وتصدير نظرتها الثورية إلى العالم. وفي هذا السياق، هدفت إيران إلى مكافحة العزلة الإقليمية والدولية من خلال تشكيل شراكات مع الدول، والمناطق الذاتية الحكم، والجهات الفاعلة غير الحكومية، ومن خلال استخدام أدوات القوة الصلبة والناعمة في آن واحد في إفريقيا؛ لتوسيع نفوذها الجغرافي خلال القارة.

وفي إطار تلك الرؤية، التزم زعماء إيران على مدى العقود الماضية بترسيخ نفوذهم في القارة السمراء، رغم اختلاف آلياتهم لتحقيق هذا الهدف، فنجد أن إبراهيم رئيسي منذ توليه منصبه في أغسطس (آب) 2021، ارتكز على سياسة خارجية تتماشى مع نظرة خامنئي إلى العالم، حيث دعا خطاب خامنئي إلى تنويع جذري في سياسة إيران الخارجية تجاه القوى الآسيوية الناشئة، والمستعمرات الأوروبية السابقة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وعلى نطاق أوسع، بلدان الجنوب العالمي، فلا تحصر عقيدة خامنئي الامتداد الجيوسياسي لإيران في جوارها المباشر؛ وإنما تدعو إلى رعاية تكتلات مقاومة في جميع أنحاء العالم؛ لذا شجع رئيسي على التعاون الإيراني الإفريقي، وهذا ما ظهر بوضوح في تصريحات الرئيس الراحل المتكررة عن إصرار حكومته على توظيف الموارد الدبلوماسية للبلاد في جهود تفعيل التعاون مع الدول الإفريقية، على عكس سلفه حسن روحاني الذي أهمل التعاون مع القارة الإفريقية كأولوية إستراتيجية، بل تمحورت أجندة الرئيس الأسبق حسن روحاني الخارجية حول رفع العقوبات من خلال السعي إلى الاتفاق مع الولايات المتحدة؛ ما جعل الاهتمام بالمصالح الإيرانية في القارة السمراء يتراجع.

وفي المقابل، نجد أن انخراط رئيسي كان مدفوعًا بالمنافسة مع خصوم إيران الإقليميين الذين وسعوا نفوذهم في إفريقيا مؤخرًا، وبينما تفتقر إيران حاليًا إلى موارد نظرائها الخليجيين والأتراك، تعتقد طهران أن لديها مزايا تنافسية من حيث الموارد البشرية، والشركات القائمة على المعرفة والخبرة التقنية الرخيصة، لا سيما في مجالات الطاقة، والطب، والدفاع، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

الأهداف الإستراتيجية لإيران في إفريقيا

سنحت الفرصة لإيران في التوغل في إفريقيا بعد إعلان الدول الاستعمارية، وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا، عزمها الانسحاب التام من إفريقيا. وفي سبعينيات القرن الماضي، تأسست الشراكة بين إيران وإفريقيا على المصالح الاقتصادية والإستراتيجية. وفي إطار توسيع وجود طهران في إفريقيا، من خلال التركيز الجيوسياسي على ما هو أبعد من محيطها الإقليمي المباشر، تأمل إيران بناء شراكات كجزء من تحولها الإستراتيجي، وعودتها إلى القارة السمراء بصورة أكثر قوة في الفترة الراهنة.

وفي هذا الإطار، تعكس تحركات إيران نحو إفريقيا إستراتيجية جديدة انتهجها النظام الإيراني بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، منذ توليه منصبه 2021، حيث شارك رئيسي في محادثات تهدف إلى تعزيز التعاون البرلماني مع الجمعية الوطنية في جنوب إفريقيا (أكبر شريك تجاري لإيران في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى)، وكذلك في غينيا بيساو، وبعد أشهر عدة، وتحديدًا في يناير (كانون الثاني) 2022، استضاف رئيسي وزير خارجية توغو روبرت دوسي، في طهران؛ لمناقشة مستقبل شراكات اقتصادية وتجارية بين البلدين.

يعزز هذا النهج الإيراني أن معدل النمو الاقتصادي في إفريقيا أعلى من المتوسط العالمي، وهذا يعني فرصة مهمة أمام طهران. وبحلول نهاية 2025 تطمح إيران إلى توفير معارض دائمة للسلع الإيرانية في جميع البلدان الإفريقية المحورية، أو على الأقل جزء منها. وبحلول نهاية هذا العام، سيصل عدد مراكز إيران التجارية إلى 15 مركزًا في إفريقيا. كما تنصب أهداف إيران الإستراتيجية في إفريقيا حول ثروات القارة الزراعية والمعدنية، مع إيجاد وجهات جديدة للصادرات الإيرانية، بما في ذلك الأسلحة المتطورة، كما تحاول شركات الهندسة والبنية التحتية الإيرانية تنفيذ مشروعات كبيرة في إفريقيا في إطار رؤية القارة للتنمية المستدامة في السنوات القليلة المقبلة.

أدوات النفوذ الإيراني في إفريقيا

بنت إيران نفوذًا تدريجيًّا في إفريقيا من خلال التبادلات الدبلوماسية، والسياسية، والأمنية والبحرية، والتجارية، والثقافية المتتابعة، حيث كانت سياسات إيران ترتكز على مبدأ النفعية، وطموحات تصدير نموذجها الثوري للعالم؛ لذا يمكن فهم تبني إيران سياسة محورية في إفريقيا في السياق نفسه، حيث تحلم طهران بمقاومة العقوبات والعزلة التي تفرضها القوى الغربية عليها. ولتحقيق هذه الأهداف الإستراتيجية، تستخدم إيران سياسات مختلفة على المستوى التكتيكي للتوغل في الداخل الإفريقي، يأتي في مقدمتها ما يلي:

1- القوة الناعمة:

تمارس إيران أشكالًا متعددة من القوة الناعمة في القارة، فمنذ الثورة الإسلامية، نفذت طهران هذه الأنشطة من خلال مؤسسات رئيسة، مثل مؤسسة مستضعفان، والهلال الأحمر الإيراني، ووزارة الإرشاد الإسلامي والثقافة، ومنظمة الثقافة والاتصال الإسلامي، وجامعة المصطفى. وبالإضافة إلى هذه المؤسسات، تشارك المجموعات البرلمانية، وجمعيات الصداقة، وغرف التجارة والمنظمات الخيرية، والمعاهد الدينية والجامعات، في تدشين علاقات وثيقة مع شعوب القارة الإفريقية، وتقديم مختلف أنواع الدعم لدول القارة وجماعاتها من خلال برامج التنمية، كما نشطت إيران في بناء تيارات شيعية، وبناء الحسينيات ورفدها بالكتب والمصادر، ففتحت مراكز ثقافية وتعليمية شيعية في ساحل العاج، وليبيريا، والكاميرون، ونيجيريا، والسودان، وكانت وسيلتها في استخدام القوة الناعمة هي الاستثمار في البنية التحتية، وبناء المستشفيات، وإنشاء الشركات، وتقديم القروض.

2- التوغل عبر أذرع إيران الإرهابية:

كُلِّفَ فيلق القدس، التابع للحرس الثوري، بتنفيذ عمليات عبر الحدود، حيث حددت قوة القدس ست نقاط صراع جديدة في إفريقيا، وبعد مقتل قاسم سليماني، شرع إسماعيل قاآني، الذي عينه المرشد الأعلى علي خامنئي، في توسيع العمق الإستراتيجي للبلاد خارج الشرق الأوسط إلى إفريقيا؛ من خلال تنشيط هذه القوى لتوسيع محور المقاومة، من خلال عدد من الآليات، مثل تهريب الأسلحة، وتهريب النفط، فضلًا عن توفير الأسلحة للجماعات الإرهابية، والأنشطة التعليمية.

3- التدخل المباشر:

 تطور إيران علاقاتها مع الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية في القارة الإفريقية على ثلاثة مستويات؛ فإذا كانت الدولة تنتمي إلى دين غير الإسلام فإن إيران تقدم مساعدات إنسانية تلبي الاحتياجات على نحو مباشر، ويشمل ذلك نقل التكنولوجيا، والاتفاقيات الاقتصادية، وبناء المستشفيات ودور الأيتام، والأنشطة التعليمية، وبرامج تبادل الطلاب، وتجارة الأسلحة. وإذا كان الطرف المقابل مسلمًا وليس شيعيًّا، فإن إيران تؤكد الوحدة، بحجة أن الاختلافات الطائفية لا تهم، ووجوب وجود جبهة موحدة ضد أعداء الإسلام. أما المستوى الثالث من التفاعل مع دول إفريقيا فيحدث إذا كان الدولة المستهدفة شيعية، حيث تُبذَل جهود مباشرة لبناء قوة وكيلة داخل محور المقاومة، أما إذا كان التفاعل مع الجماعات المعارضة التي تخضع لهيكل دولة مركزية قوية، فتُجرى أنشطة دعائية لتحقيق مكاسب إيرانية في الدولة المستهدفة، ولكن إذا كانت الجماعة المعارضة تحت هيكل دولة فاشلة، فسيُتَّبَع المسار المؤدي إلى تجارة الأسلحة والمعدات العسكرية.

4- الزيارات الرسمية:

اعتمدت إيران على توثيق علاقاتها الرسمية مع دول إفريقيا، خاصة في عهد الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ففي يوليو (تموز) الماضي، قام رئيسي بجولة في ثلاث دول إفريقية من أجل توسيع علاقات بلاده في القارة، وهي الزيارة الأولى من نوعها لرئيس إيراني منذ أكثر من عقد، تلت هذه الرحلة التي شملت كينيا، وأوغندا، وزيمبابوي، زيارة مماثلة إلى أمريكا اللاتينية، وقد شكلت كلتاهما جزءًا من إستراتيجية أطلقها المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي من أجل تجاوز العقوبات المعوقة المفروضة من الغرب؛ من خلال تطوير علاقات تجارية قوية في الجنوب العالمي، وكانت الجولة التي قام بها رئيسي على رأس وفود دبلوماسية وتجارية رفيعة المستوى، تبعتها مشاركة رئيسي في قمة بريكس بجنوب إفريقيا في أغسطس (آب) الماضي.

5- التغلغل الاقتصادي:

 تعطي طهران الأولوية للتنمية الشاملة للعلاقات مع الدول الإفريقية، ويعزز هذا التوجه انعقاد المؤتمر الأول للتعاون العلمي والاقتصادي لإيران ودول غرب إفريقيا في مارس (آذار) 2023 في طهران، وتم خلال هذا المؤتمر التوقيع على 20 اتفاقية ومذكرة تفاهم متعددة الأطراف وثنائية بين إيران ودول غرب إفريقيا من أجل توسيع التعاون الاقتصادي الشامل وتعميقه، أما المؤتمر الاقتصادي الثاني لإيران وإفريقيا، الذي عقد في طهران في نهاية أبريل (نيسان) الماضي بحضور ممثلين من أكثر من 30 دولة إفريقية، فيعد رمز التصميم في إيران وإفريقيا على توسيع العلاقات كما عبر الرئيس الإيراني آنذاك.

فضلًا عن هذا، تحتفي طهران بالشراكة مع إفريقيا من خلال عمل نحو 10 آلاف شركة إيرانية في القطاعات التكنولوجية والعلمية، ما رفع إجمالي تجارة إيران مع الدول الإفريقية إلى مستوى ملياري دولار سنويًّا. وبعد عقد معرض إيران إكسبو 2024، وهو الحدث التجاري الذي يوفر فرصة لطهران لعرض منتجاتها التصديرية، تتطلع إيران إلى أن يصل حجم التجارة مع إفريقيا إلى 10 مليارات دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة، كما تعتزم منظمة تنمية التجارة الإيرانية زيادة عدد المستشارين التجاريين في القارة الإفريقية من 3 إلى 14 هذا العام، وكذلك حل مشكلات البنية التحتية، بما في ذلك الحاجة إلى إنشاء خط جوي منتظم، وخاصة إلى غرب إفريقيا وجنوبها، حيث تم التوقيع على اتفاق في هذا الصدد، ولكنه لم يُنفَّذ، وأشارت إيران إلى ضرورة وضع تسيير خط شحن إلى غرب إفريقيا وجنوبها.

6- شبكة تهريب الأسلحة:

إن الوسيلة الرئيسة التي تخطط طهران من خلالها لكسب ثقة وكلائها في القارة السمراء، تتمثل في تصدير الأسلحة، خاصة على خلفية رفض اللاعبين المحليين صيغة الشراكة العسكرية مع الولايات المتحدة وفرنسا، فعند زيارة ساديو كامارا، وزير الدفاع لشؤون المحاربين القدامى في مالي، إيران في مايو (أيار) من العام الماضي، أكدت إيران قدرتها على تزويد باماكو بالمعدات العسكرية، وتبادل الخبرات في الحرب على الإرهاب، في حين ظهرت في فبراير (شباط) 2024 تقارير تفيد بأن الجانب الإيراني كان يزود القوات المسلحة السودانية بمسيّرات قتالية متقدمة لاستخدامها ضد قوات الدعم السريع، وكان يُعتقد أن طهران بهذه الطريقة تأمل الوصول إلى ميناء بورتسودان، وهو مرفق يوفر القدرة على استعراض القوة في البحر الأحمر.

ولعل الأخطر في شبكة تهريب الأسلحة غير القانونية التي تمكنت إيران من بنائها في القرن الإفريقي، أنها تسمح لطهران بتهريب الأسلحة، وتزويد الحكومات والجهات الفاعلة غير الحكومية بها. ومع تصدير الأسلحة إلى بلدان القارة، مثل تزويد الجيش الإثيوبي بطائرات مسيرة من طراز “مهاجر-6″، وتزويد الجيش السوداني بطائرات مسيرة من الطراز نفسه، يبدو أن طهران تخطط لزيادة مبيعاتها من هذه الطائرات إلى القارة الإفريقية.

مصير العلاقات الإيرانية الإفريقية بعد مصرع رئيسي

تكثر التكهنات بشأن تداعيات موت الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي على العلاقات الخارجية لطهران، خاصة مع القارة الإفريقية، فربما تتراجع وتيرة تطوير العلاقات بين إيران وإفريقيا؛ نظرًا إلى مستجدات الأوضاع السياسية في إيران، وترتيب المشهد في الداخل الإيراني بعد حادثة وفاة الرئيس. لكن بعد استقرار الأوضاع في الداخل الإيراني، وانتخاب رئيس جديد، من المرجح أن تكون أولوية إيران انتهاز فرصة توتر العلاقات بين الغرب والدول الإفريقية، لا سيما الواقعة في غرب إفريقيا؛ لملء الفراغ الأمني والاقتصادي؛ لتعزيز حضور طهران، ومد نفوذها في غرب إفريقيا.

إن المرحلة التالية بعد رئيسي لن تتغير فيما يتعلق بالنهج الذي تسلكه القيادة الإيرانية، حيث المحدد الأساسي لطبيعة النظام السياسي يعود إلى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، الذي يرسم توجهات الدولة؛ ومن ثم فإن الرئيس القادم لإيران سيمضي في تنفيذ توجهاته، ومن ضمن أبرز تلك التوجهات توثيق العلاقات بين إيران ودول إفريقيا، خاصة تلك الدول التي تتسم علاقاتها مع الغرب بالتوتر؛ لذا ستعود إيران في توظيف كل أدواتها الصلبة والناعمة لتعزيز صورة إيران في القارة السمراء على أنها نموذج تنموي بديل للدول الغربية؛ وهو ما سيؤدي إلى تحقيق عدد من المكاسب الإستراتيجية لإيران، من أهمها تعزيز النفوذ السياسي لإيران في إفريقيا، وتنويع شركائها التجاريين، وفتح أسواق جديدة لمنتجاتها في القارة الإفريقية التي تتمتع بإمكانات اقتصادية كبيرة، إلى جانب كسر العزلة الاقتصادية المفروضة عليها، وتقليل تأثير العقوبات الغربية على اقتصادها.

ويدلل على سيناريو عودة العلاقات الوثيقة بين إيران والدول الإفريقية، وعدم تأثرها بوفاة الرئيس الإيراني، أنه بعد أقل من أسبوع على الحادثة المروعة لرئيسي، اتفق وزير الخارجية السوداني حسين عوض والقائم بأعمال وزير الخارجية الإيراني على باقري، خلال اجتماع جمع بينهما في طهران في 25 مايو (أيار) الجاري، على تسريع عملية إعادة فتح سفارتي البلدين، وهو ما أنهى حالة القلق التي كشفت عنها ردود الفعل من الزعماء والحكومات الإفريقية بعد وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، الذي عُرف بتصميمه على استعادة حضور إيران ونفوذها في إفريقيا، سواء عن طريق المد الشيعي، أو المد الاقتصادي العيني، أو حتى المد العسكري لبعض الجماعات المُتشددة.

الخاتمة

ستظل إفريقيا هدفًا جذابًا للقوى الدولية والإقليمية، وستظل محددًا محوريًّا في علاقة إيران مع الدول الغربية. وعلى عكس حكم الرئيس الأسبق حسن روحاني فترتين متتاليتين، حيث تراجعت علاقات إيران مع إفريقيا، فإن الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي أشار إلى أن إفريقيا ستكون في أولوية علاقاته الخارجية والاقتصادية، ومنذ توليه الحكم عام 2021، ركز على تعزيز العلاقات مع الشرق، خاصةً مع روسيا والصين، والاتجاه إلى تأسيس علاقات مع دول الجنوب العالمي، خاصةً مع إفريقيا، ودول أمريكا اللاتينية.

ومن ثم وجدت أجندة إيران في القارة الإفريقية- خاصة في سنوات حكم رئيسي- جدلًا واسع النطاق بسبب علاقات طهران المشبوهة مع الجهات الفاعلة غير الحكومية، حيث شهدت إيران توترات دبلوماسية مع كثير من بلدان القارة؛ فقد واجهت خلافات خطيرة مع دول مثل المغرب، والسودان، وغامبيا، ومع ذلك لم تنحرف إيران عن أهدافها الإستراتيجية منذ 45 عامًا، المتمثلة في توسيع الحدود الجغرافية لما تسميه محور المقاومة، وزيادة إسقاط قوتها بالانتشار والتوغل بمختلف الأدوات في القارة الإفريقية.

ونظرًا إلى وضع الاقتصاد الإيراني المتدهور، والقيود الصارمة التي تفرضها العقوبات الغربية على علاقاتها التجارية مع العالم الخارجي، ربما لا تثمر طموحات طهران في توسيع حضورها في إفريقيا، مع أن التقنيات والخبرة الفنية الرخيصة قد تكون بديلًا جذابًا عن بعض التقنيات الغربية مع بعض دول القارة، لكن التزام طهران المفرط بمعاداة الولايات المتحدة قد يسفر عن رفع تكاليف التعاون معها إلى مستويات أعلى؛ فمن منظور الدول الإفريقية، لا تزال الأسواق المالية الأمريكية ذات أهمية حيوية لسلامة اقتصاداتها الهشة بالأساس؛ ما سيجعل كثيرًا من دول القارة السمراء تتردد في إقامة علاقات تجارية ودبلوماسية كاملة مع طهران، خاصة في ظل حالة من اللا يقين والقلق من تداعيات مصرع رئيسي على مستقبل علاقات إيران بالعالم.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع