ظلّ الأمن القومي الباكستاني مفهومًا مُعقدًا في ظل التحديات الداخلية والخارجية، لا سيما أن أمن الدولة لم يُعد يُحدد بقوتها العسكرية فحسب؛ بل بمرونة مؤسساتها واقتصادها ومجتمعها. ويعكس انعقاد اجتماع آخر للأمن القومي برئاسة السردار أياز صادق، رئيس الجمعية الوطنية، خطورة التحديات التي تواجهها باكستان اليوم في ظلّ الوضع العالمي الراهن. وعلى مر السنين، سعت باكستان إلى ترسيخ نهجها في مجال الأمن القومي، وعُقدت عدة اجتماعات للأمن القومي في مراحل حرجة من تاريخ البلاد، لصياغة سياسات أثّرت في استقرارها ونموها. وكان إنشاء مجلس الأمن القومي في ظل حكومات مختلفة جهدًا لضمان سياسة أمنية منظمة وشاملة.
رغم هذه الإجراءات، استمرت التهديدات الأمنية في التطور، مما يتطلب تكيفًا مستمرًا. ويشكل تجدد الإرهاب مؤخرًا، لا سيما في بلوشستان وخيبر بختونخوا، تحديًا خطيرًا. ويؤكد اختطاف قطار جعفر إكسبريس، والخسارة المأساوية لأرواح الأبرياء، الحاجة الملحة إلى معالجة التمرد بنهج متجدد وإستراتيجي لمكافحة الإرهاب. ويؤكد استمرار وجود جماعات، مثل جيش تحرير بلوشستان، وحركة طالبان باكستان، ضرورة تعزيز شبكات الاستخبارات، ونشر تقنيات المراقبة الحديثة، وتعزيز التنسيق بين الوكالات لتحييد هذه التهديدات قبل أن تتفاقم إلى هجمات مدمرة.
وقد أكدت السياسات السابقة أهمية الأمن الاقتصادي إلى جانب الجاهزية العسكرية، فالاستقرار الاقتصادي يُشكل ركيزة الصمود الوطني؛ لذا بدأت إسلام آباد بالانتقال من إطار أمني مُركز على الدفاع فقط إلى إستراتيجية أوسع وأكثر شمولًا، تشمل الأمن البشري، والتنمية الاقتصادية، فضعف الاقتصاد يُعرّض الدولة لضغوط خارجية، ويُقوّض قدرتها على الحفاظ على استقلالها الإستراتيجي؛ لذا تُعدّ مواءمة السياسات الاقتصادية الباكستانية مع الأهداف الأمنية الطويلة المدى أمرًا بالغ الأهمية، حيث تواجه إسلام آباد انخفاض قيمة الروبية، والتضخم، وأزمة الطاقة المستمرة؛ ما يفرض عليها ضرورة تعزيز الشراكات التجارية مع الحلفاء الرئيسين، مثل الصين والمملكة العربية السعودية ودول الخليج، في حين ينبغي أن تؤدي الدبلوماسية الاقتصادية دورًا محوريًّا في تقليل الاعتماد على الخارج. ويمكن لتوسيع القطاعات الصناعية والتكنولوجية أن يُعزز الأمن الاقتصادي، ويُقلّل الاعتماد على المساعدات الخارجية، ويضمن التنمية المستدامة.
يُعدّ الاستقرار الإقليمي مصدر قلق رئيس آخر. لا يزال الوضع في أفغانستان غامضًا، مع استمرار عدم الاستقرار على طول الحدود الغربية لباكستان. تُعد الإدارة الفعّالة للحدود، وزيادة تبادل المعلومات الاستخباراتية مع الحلفاء الإقليميين، والتواصل الدبلوماسي مع القيادة الأفغانية، عوامل أساسية لمنع امتداد العنف والتطرف إلى باكستان. ولا تزال التوترات مع الهند، وخاصةً بشأن كشمير، تُشكّل السياسات الأمنية الباكستانية. وبينما يظلّ التأهب العسكري أمرًا بالغ الأهمية، يجب أيضًا استكشاف السبل الدبلوماسية لمنع التصعيد، وضمان حماية المصالح الأمنية الباكستانية من خلال التعاون الإقليمي والدولي.
ويؤدي الاستقرار السياسي الداخلي دورًا حاسمًا في تشكيل الأمن الوطني. يُضعف الاستقطاب السياسي والصراعات المؤسسية قدرة الدولة على الاستجابة بفاعلية للتهديدات الأمنية. ينبغي أن يكون الأمن الوطني قضيةً غير حزبية، حيث تُقدم عملية صنع القرار الجماعي على التنافسات السياسية. يجب أن تقوم العلاقات المدنية- العسكرية على نموذج تعاوني، حيث تُملي المصلحة الوطنية الإستراتيجية بدلًا من الطموحات الفردية أو المؤسسية. يجب أن يعمل البرلمان وقوات الأمن والمؤسسات المدنية بتناغم لوضع سياسات تضمن الاستقرار والتقدم.
يعتمد نجاح هذا الاجتماع للأمن القومي على اعتماد إستراتيجيات واضحة وقابلة للتنفيذ. ينبغي إضفاء طابع مؤسسي على مجلس أمن قومي أقوى وأكثر صلاحيات، بما يضمن اتخاذ القرارات الأمنية ضمن إطار منظم ودائم بدلًا من اتخاذها على أساس ارتجالي. ويجب تكثيف إجراءات مكافحة الإرهاب من خلال تحسين التنسيق بين أجهزة الاستخبارات، ونشر تقنيات المراقبة الحديثة. ويمكن أن يؤدي إحياء الهيئة الوطنية لمكافحة الإرهاب دورًا حاسمًا في توحيد الجهود ضد تهديدات المتمردين.
يظلّ التفاعل الدبلوماسي أداةً أساسيةً في ضمان المصالح الوطنية الباكستانية، فالمشاركة الفعّالة في حوارات السلام الإقليمية، وتحسين العلاقات مع الدول المجاورة، والاستفادة من منتديات مثل منظمة التعاون الإسلامي للدفاع عن المخاوف الأمنية الباكستانية، كلها عوامل تُسهم في بناء تحالفات تُعزز المرونة الوطنية. كما أن تعزيز الشراكات مع الصين وتركيا ودول الخليج، مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الغربية، سيضمن بقاء باكستان في موقع إستراتيجي في بيئة عالمية متزايدة الاستقطاب.
ويُعدّ التفاعل العام والوحدة الوطنية أساسًا للأمن على المدى الطويل، فالمجتمع القوي والمتماسك هو خط الدفاع الأول ضد التهديدات الداخلية والخارجية. إن تعزيز الوئام بين الأديان، وتعزيز التكامل الوطني، وضمان التنمية العادلة في جميع المحافظات، من شأنه أن يُعالج التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية التي غالبًا ما تُفضي إلى الاضطرابات والتطرف. كما أن تعزيز هياكل الحوكمة المحلية سيُحسّن إنفاذ القانون، وتقديم الخدمات، والحوكمة عامةً؛ مما يُقلل من مساحة الفرص المتاحة للجهات التي تسعى إلى استغلال ثغرات الحوكمة.
لذا ستكون للقرارات التي اتُخذت في اجتماع الأمن القومي اليوم آثارٌ طويلة الأمد. تقف باكستان عند مفترق طرقٍ حاسم، حيث يعتمد بقاؤها على نهجٍ منسقٍ جيدًا يجمع بين القوة العسكرية والمرونة الاقتصادية والاستقرار السياسي والبصيرة الدبلوماسية. ولم يعد من الممكن النظر إلى الأمن القومي بمعزلٍ عن العوامل الاقتصادية والاجتماعية، فالقوة المُجتمعة لهذه العناصر هي التي ستُحدد قدرة باكستان على التعامل مع تعقيدات العالم الحديث. ولن يُقاس نجاح هذا الاجتماع بالسياسات التي يقترحها فحسب؛ بل بالتزام جميع الجهات المعنية بتنفيذها بفاعلية. إذا أفضت قرارات هذه الجلسة إلى إجراءاتٍ حاسمة، يُمكن لباكستان حينئذٍ أن تخرج أقوى، وأكثر أمنًا واستعدادًا للتحديات المُقبلة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.