أبحاث ودراسات

الهند والمنتديات المتعددة الأطراف


  • 17 نوفمبر 2024

شارك الموضوع

يولد من ساحات المعارك في أوكرانيا، وغزة وجنوب لبنان، وصولًا إلى مياه بحر الصين الجنوبي، حالة من عدم اليقين التي تتجاوز الحدود الإقليمية، وتجبر الدول على إعادة النظر في المواقف الراسخة، وتعزيز الأمن والتحالفات الإستراتيجية. وفي هذا السياق، يُطرح سؤال: هل تستطيع الهند تحقيق هذا التوازن الدقيق، والوقوف إلى جانب حلفائها ذوي القيم المشتركة دون الإخلال بالعلاقات الثنائية مع الشركاء التقليديين أو التجاريين؟

معضلة المنتديات المتعددة الأطراف

يجب أن ننظر إلى معادلات القوة التي تحدد النظام العالمي كما هو اليوم، فقد كانت حقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى متعددة الأقطاب، بمعنى أنها كانت تضم سبع “قوى عظمى”، وهي فرنسا وألمانيا وبريطانيا العظمى وإيطاليا واليابان والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. وبحلول عام 1947، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبح من الواضح أن العالم يتجه نحو ثنائية القطبية، مع الولايات المتحدة وحلفائها على جانب، والاتحاد السوفيتي وحلفائه على الجانب الآخر. وكان تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 مرحلة لم يشهدها العالم من قبل قط؛ مرحلة أحادية القطبية مع الولايات المتحدة بوصفها القوة المهيمنة.

توصل الآن قسم من المحللين الجيوسياسيين إلى استنتاج مفاده أن العالم قد يتجه مرة أخرى نحو ثنائية القطبية، حيث تكون الولايات المتحدة قطبًا واحدًا، وتكون الصين قطبًا آخر. ومع أن هذه الحجة تستند -إلى حد كبيرـ إلى دبلوماسية “المحارب الذئب” التي تنتهجها بكين، ومبادرة الحزام والطريق الطموحة التي تضم أكثر من (150) دولة، فإنها معيبة إلى حد ما؛ لأن الأمر سيستغرق عقودًا من الزمن قبل أن تتمكن الصين من ترسيخ نفسها كقوة عظمى، سواء من الناحية العسكرية، أو من الناحية الاقتصادية.

إن اجتماع مجموعة “بريكس+”، ومن قبله منظمة شنغهاي للتعاون، يسلط الضوء على المأزق الجيوسياسي الحالي الذي تعيشه الهند؛ فهي مضطرة إلى إنفاق كثير من الوقت والطاقة، واستثمار كثير من رأس المال السياسي في تجمع يعاني كثيرًا من الصراعات الخطيرة بين المصالح، حيث لا تستطيع الهند أن تبتعد عن روسيا، التي أصبحت الآن قريبة من الصين. إن استخدام تعبير “الهند المعزولة” سوف يكون مبالغًا فيه، ولكن في ضوء التكامل الروسي- الصيني يصبح حديث وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في لقاء فكري رفيع المستوى في دلهي (حوار رايسينا الذي تنظمه مؤسسة أو آر إف) بمنزلة تحذير جاد للهند، من خلال تذكيرها بأن روسيا هي الدولة الوحيدة التي يربطها بها تحالف إستراتيجي مكتوب (معاهدة).

ولقد نشأت المنظمات المتعددة الأطراف خلال العقدين اللذين شهدت فيهما الهند والصين نموًا كبيرًا. وحتى الآن، فازت الصين بالسباق نحو التفوق والتأثير في البلدان الأخرى، في حين فشلت الهند في تولي زمام المبادرة من خلال رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي، وأصبح المنتدى في معظمه بلا قيمة، وهل لو توسع المنتدى وضم تايلاند، وجمهوريات آسيا الوسطى، وإيران، وروسيا، ستنضم الصين إليه؟ وإذا حدث هذا، فهل يظل من الممكن للهند أن تحتفظ بأي قدر من الهيمنة؟

بالعودة إلى كيفية نشأة أولى المنظمات المتعددة الأطراف، وهي منظمة شنغهاي للتعاون، فقد كانت في البداية نتيجة اجتماع ما أطلق عليه “خمس شنغهاي” عام 1996: الصين وروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان. وقد أسفرت القمة التي عقدت في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1996 عن “معاهدة تعزيز الثقة العسكرية” بين هذه الدول الخمس المجاورة. وقد تم الاتفاق على الأصول العسكرية الإستراتيجية الأساسية للمنظمة من خلال قمة موسكو، في 24 أبريل (نيسان) 1997، وتوقيع معاهدة خفض القوات العسكرية في المناطق الحدودية، كما وقع بوريس يلتسين وجيانج تسه مين على إعلان مشترك بشأن “عالم متعدد الأقطاب”. وكانت فترة منتصف التسعينيات ذروة الأحادية القطبية، حيث كانت روسيا والصين في أشد الحاجة إلى إنشاء منطقة محصنة ضد النفوذ الأمريكي.

بالتزامن مع هذا، بدأ رئيس الوزراء الهندي بي في ناراسيمها راو النظر غربًا. وتبعه فاجبايي ومانموهان سينغ حتى ناريندرا مودي الذي عاد معه الحنين إلى سنوات عدم الانحياز إلى الهند، ربما كرد فعل غريزي على انتقادات المؤسسات والحكومات الغربية وتساؤلاتها عن سجل حكومته في مجال حقوق الإنسان والحريات المدنية والأقليات. لقد أعاد تجدد الشكوك في الغرب التعددية إلى الواجهة، لكن من الصعب على نيودلهي أن تجد مصالحها في منظمات أسستها أو هيمنت عليها الصين.

وهذه هي المشكلة التي تواجه منظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة البريكس، ومنظمة التعاون الاقتصادي، وما يزيد المشكلة تعقيدًا هو أن الهند فشلت -على مدى عقود من الزمان- في بناء منتدى إقليمي خاص بها قادر على خلق شعور بالتعددية المحدودة جيوسياسيًّا، مهما كانت محدودة. إن هذه الهيئات، وخاصة منظمة شنغهاي للتعاون بالنظر إلى أولوياتها العسكرية الإستراتيجية، لا تساعد الهند في سعيها إلى تحقيق الاستقلال الإستراتيجي؛ بل على العكس من ذلك، فهي تحد من ذلك فقط. واليوم، إذا جلست روسيا والصين على الطاولة نفسها، فالهند تعلم أي صداقة أقوى، وأي علاقة عدائية. وتعمل هذه الهيئات مجتمعة على تقييد خيارات الهند في التجمعات التي تكمن فيها مصالحها الإستراتيجية الحالية، على سبيل المثال، الرباعية (الولايات المتحدة، أستراليا، اليابان، الهند).

حقيقة عالم أحادي القطب

نشر ستيفن جي بروكس، وهو أستاذ في كلية دارتموث، وأستاذ زائر في جامعة ستوكهولم، وويليام سي. وولفورث، وهو أستاذ في كلية دارتموث، مقالًا في مجلة الشؤون الخارجية بتاريخ أبريل (نيسان) 2023، يجادل أن “العالم ليس ثنائي القطب، ولا متعدد الأقطاب، ولن يصبح كذلك على الإطلاق”. ويضيفان أن “هيمنة الولايات المتحدة تضاءلت بالفعل على مدى العقدين الماضيين، لكنها لا تزال على رأس التسلسل الهرمي للقوة العالمية، وتتصدر في كل مقياس مهم تقريبًا، من الناتج المحلي الإجمالي والإنفاق العسكري السنوي إلى النسبة المئوية للأرباح العالمية في صناعة معينة، أو المدفوعات مقابل استخدام الملكية الفكرية”. ماذا إذن عن التعددية القطبية التي تدافع عنها بعض البلدان، ومن بينها الهند؟

يزعم عالما السياسة توماس جيه كريستنسن، وجاك سنايدر، في ورقة بحثية نشرت في مجلة المنظمة الدولية عام 1990، أن الدول في ظل التعددية القطبية يُقال عنها إنها “تتعرض هيكليًّا لخطين متعاكسين يعملان على زعزعة استقرار النظام المتوازن. فمن ناحية، قد تربط نفسها دون قيد أو شرط بحلفاء متهورين يعتبرون بقاءهم أمرًا لا غنى عنه للحفاظ على التوازن، ومن ناحية أخرى، قد تلقي باللوم على أطراف ثالثة لتحمل تكاليف الهيمنة”. وقد أصبح هذا الانتقاد للتعددية القطبية معروفًا باسم حجة “العصابات المتسلسلة والمسؤولية المتبادلة”. مع أخذ هذه العوامل النظرية في الحسبان، هناك تيار سياسي في الهند يتحدث عن ضرورة تعزيز حضور نيودلهي في الرباعية بوصفها تحالفًا أمنيًّا جديًّا، وإرسال إشارة إلى المجتمع العالمي بأنها تفضل عالمًا أحادي القطب مع مجتمع حر، وأسواق حرة، ونظام ديمقراطي للحكم. ومن الأهمية بمكان أيضًا أن تدرك نيودلهي أن علاقتها مع الولايات المتحدة أمر بالغ الأهمية لأمن الهند واقتصادها.

إن حقيقة أن الولايات المتحدة هي الرائدة العالمية في مجالات التكنولوجيا والتمويل والأمن، فضلاً عن حقيقة أن الدولار الأمريكي كان ولا يزال، ومن المرجح أن يظل العملة الاحتياطية الأكثر شيوعًا، هي تأكيد جديد لنطاق هذه الشراكة “الإستراتيجية العالمية الشاملة”. ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ أن العالم أصبح منقسمًا على نحو متزايد بين الديمقراطيات الحرة الرأسمالية والحكومات الديكتاتورية التي تميل إلى السيطرة الاقتصادية المفرطة. وتشكل الصين مثالًا واضحًا على ذلك، وغني عن القول أن الهند تقع في معسكر الديمقراطيات الحرة التي تتمتع باقتصاد السوق الحرة.

ولكن هذا لا يعني أن الهند لا بد لها أن تختار جانبًا، أو أن يُنظَر إليها بوصفها منحازة إلى جانب واحد؛ فهي لا تحتاج إلى معارضة روسيا أو الصين؛ نظرًا إلى العلاقات الاقتصادية والشعبية المهمة. وعلى نحو مماثل، لا تستطيع الهند أن تتجاهل تجارتها مع الصين، أو روسيا، أو إيران. ولكن ربما تعيد نيودلهي تقييم مدى وعيها بحقائق النظام العالمي اليوم، وإلى أي مدى يمكنها أن تذهب للدفاع عن استقلالها الإستراتيجي.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع