في إطار إستراتيجية روسيا لتوظيف خبرتها النووية كأداة نفوذ على غرار التحركات الأخيرة المشابهة في إثيوبيا والنيجر، وقبل أيام من تفعيل آلية الزناد رسميًّا على إيران، اختارت موسكو وطهران تعميق شراكتهما من خلال توقيع مذكرة تفاهم نووية تحمل في طياتها أبعادًا تتجاوز مجال الطاقة المدنية. هذه الاتفاقية ليست مجرد مشروع لبناء مفاعلات نووية، بل تمثل انعكاسًا لتحول أعمق في طبيعة العلاقة بين الطرفين من تعاون تقني متقطع إلى تحالف إستراتيجي يربط الأمن بالاقتصاد والسياسة بالطاقة، حيث تزداد أهمية هذه الشراكة في ظل الضغوط الغربية المتزايدة على الطرفين؛ ما يجعلها أداة لتحدي موازين القوى التقليدية في المنطقة، ومن ثم تفتح هذه الخطوة الباب أمام تساؤلات كثيرة لعل من أبرزها: هل تمنح الاتفاقية الجديدة إيران استقلالية أكبر في مواجهة الغرب، أم أنها تكريس لاعتماد طويل المدى على موسكو؟ وهل تسعى روسيا من خلال هذا المشروع إلى بناء نفوذ دائم في الشرق الأوسط يوازن خسائرها في أوروبا، أم أن طهران هي المستفيد الأكبر من توظيف الدعم الروسي لتعزيز مكانتها الإقليمية؟ بهذه الأسئلة وغيرها، يصبح التحالف الروسي الإيراني في إطار الاتفاق الجديد نقطة اختبار حقيقية لمعادلات القوة في الشرق الأوسط، وعنوانًا لصراع الشرق والغرب في مرحلة يعاد فيها تشكيل قواعد اللعبة الدولية.
بدأ التعاون النووي بين إيران وروسيا في تسعينيات القرن الماضي مع مشروع محطة بوشهر، الذي شكل أول تجسيد عملي لشراكة تقنية إستراتيجية بين الطرفين، ورغم العراقيل الفنية والضغوط الدولية وقعت روسيا وإيران اتفاقية لمواصلة بناء المحطة في 1992، وأصرت موسكو على استكمال المشروع، وتزويد إيران بالخبرة والوقود النووي اللازم. وفي سبتمبر (أيلول) ٢٠١١ رُبطت أول وحدة طاقة بالشبكة، وسُلِّمت رسميًّا إلى إيران في سبتمبر (أيلول) ٢٠١٣؛ ما جعل موسكو الشريك الأبرز لطهران في مجال التكنولوجيا النووية. هذا الإرث التأسيسي خلق أرضية من الثقة المتبادلة في الملفات العلمية والتقنية، وأظهر لإيران أن روسيا قادرة على تلبية احتياجاتها في المجالات التي يرفض الغرب التعاون فيها مع إيران.
غير أن تنامي العقوبات الغربية على إيران أدى دورًا محوريًّا في دفع طهران نحو الشرق وتعزيز اعتمادها على موسكو، فمع كل جولة من العقوبات الأمريكية والأوروبية، تراجعت فرص إيران في الحصول على المعدات والخبرات من الأسواق الغربية، في حين ظلت روسيا مستعدة -بحذر- لملء هذا الفراغ، ومن هذا برزت روسيا بوصفها نافذة إيران إلى التكنولوجيا النووية، ليس فقط كمزود للمفاعلات، بل أيضًا كضامن لاستمرار تطوير قدراتها النووية المدنية في ظل القيود المفروضة.
وترسيخًا لهذا الدور، وفي إطار تنفيذ اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة بين البلدين، وقعت شركة إيران هرمز الممثلة لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية وشركة روساتوم الروسية على صفقة بناء أربعة مفاعلات نووية من الجيل الثالث في منطقة سيريك بمقاطعة هرمزجان جنوبي إيران بقيمة 25 مليار دولار في الرابع والعشرين من سبتمبر (أيلول) المنصرم يهدف توليد كل وحدة نحو 1255 ميجاوات من الكهرباء، حيث تبلغ القدرة الإجمالية للوحدات الأربع نحو 5020 ميجاوات، وتزامن هذا التعاون النووي مع توقيع معاهدات اقتصادية وتجارية ودفاعية شاملة، هذا التشابك المتعدد الأبعاد يعكس تحول العلاقة من مجرد تعاون نووي معزول إلى شراكة متكاملة تشمل الطاقة والأمن والبنية التحتية، وهو ما يعزز الرؤية الإيرانية بأن المستقبل يكمن في التوجه شرقًا لبناء بدائل عن الغرب.
يكشف تاريخ التعاون بين البلدين أن التعاون الروسي عادةً ما يشمل عناصر معقدة؛ تصميمات، وإمدادات وقود، وخبرات تشغيلية وصيانة. هذا النمط يولد لدى الدولة المتلقية -إيران- فوائد فورية، لكنه ينسج معها تبعية تقنية؛ لأن استمرار التشغيل والقدرة على تحديث الأنظمة مرتبطة بخدمات ومكونات خارجية لا يمكن استبدالها بسرعة، فالسيطرة على دورة الوقود والتشغيل تصبح مفتاحًا للنفوذ، ويرتبط هذا بالعقود التي تُبرمها شركات مثل روساتوم، حيث تتضمن بنودًا طويلة الأمد عن تزويد الوقود، وإدارة النفايات، وحق التشغيل أو الدعم التقني الممتد. هذه الآليات تمنح الطرف الروسي قدرة على ربط استمرار الخدمة بمستوى التعاون السياسي أو بتسويات مالية وقانونية؛ ما يجعل العقد نفسه أداة ضغط محتملة.
لا تكتفي روسيا بتصدير مفاعل؛ بل تبني علاقات مؤسسية عبر شبكات تمويل وشراكات صناعية وتدريب كوادر، وهذا يُحول البنية التحتية الطاقية إلى شبكة علاقات سياسية، حيث إن قدرة موسكو على التأثير لا تأتي من بند واحد، بل من تراكم عقود، وصلات مالية وقانونية متقاطعة تربط اقتصاد إيران بمؤسسات روسية على مدى عقود. هذا الأسلوب فعال، لا سيما عندما يكون الشريك الغربي غير متاح بسبب العقوبات، ومن منظور إستراتيجي إقليمي، فإن مشروع نووي جديد يدعم رواية طهران بشأن قدرتها على بناء بنيات مدنية متقدمة، وهو ما يرفع ثقلها التفاوضي في مواجهة خصوم إقليميين وغربيين. في المقابل، تستخدم موسكو هذا النفوذ لإظهار أنها اللاعب القادر على كسر عزلة طهران؛ ومن ثم تكتسب موطئ قدم جيوسياسي في منطقة تعد محورًا لحركة الطاقة العالمية، وهو ما يعيد رسم خرائط المصالح في الخليج والشرق الأوسط خلال السنوات المقبلة.
إن الاتفاق الذي أعلنته طهران وموسكو لبناء أربعة مفاعلات نووية في أواخر سبتمبر (أيلول) المنصرم، يجب قراءته ليس بوصفه صفقة طاقة فحسب؛ بل أداة جيواقتصادية وسياسية يمكن لإيران تحويلها إلى سلسلة مكاسب إستراتيجية، تتمثل أبرزها فيما يلي:
يثير الاتفاق الجديد بين موسكو وطهران بشأن المفاعلات النووية الإيرانية مجموعة من المخاطر الإستراتيجية ذات الأمد المتوسط والطويل، قد تتحول إلى عامل ضغط خارجي يقيد هامش القرار الإيراني خلال السنوات المقبلة، من أبرزها التالي:
تحمل هذه الصفقة انعكاسات عدة على أكثر من صعيد؛ إذ تُعد ذريعة لإعادة ترتيب المصالح المحلية والإقليمية والدولية، وتفتح مجالات جديدة للسياسة الخارجية الإيرانية مع أخطار وفرص متشابكة؛ فعلى الصعيد الإقليمي يمثل اتساع التعاون النووي الروسي الإيراني تهديدًا مباشرًا لدول الجوار الإقليمي، خاصة دول الخليج التي قد تفسر المشروع في إطار تعزيز قدرات الدولة الإيرانية المدنية والتقنية؛ ما يستدعي مراجعات أمنية خليجية لمواجهة الخطوات الإيرانية، كما أن الصفقة ترسخ معاهدة الشراكة الشاملة بين البلدين؛ ما يشير إلى توطيد محور أوسع بين طهران وموسكو -وربما مع الصين- في مجالات أمنية وبحرية مستقبلية؛ ما يمنح إيران موقعًا أكثر ثقلًا داخل شبكة جيوسياسية بديلة عن الإطار الغربي، ما يعزز قدرتها على المناورة الإقليمية وبسط النفوذ في المنطقة.
بالإضافة إلى هذا، فإن ازدياد الاعتماد على بنى نووية يرفع قيمة أهداف البنية التحتية للإرهاب، أو الضربات السيبرانية والاستخباراتية؛ لذلك قد تُكثف إيران استثماراتها في حماية هذه المنشآت، وربما تلجأ إلى التعاون مع شركاء آسيويين في برامج حماية، أو من خلال ضمانات أمنية مع روسيا، وهذا يزيد تداخل الأبعاد المدنية والعسكرية في السياسات الداخلية للجمهورية الإسلامية.
على الصعيد العالمي، فإن الصفقة جاءت في ظل بيئة دولية متوترة بشأن الملف النووي الإيراني؛ ما قد يُعطي دوافع للدول الغربية لفرض عقوبات إضافية، أو فرض قيود ثانوية على شركاء إيرانيين، لا سيما إذا رأت الدول الأوروبية أن هذا التعاون يُضعف تأثير الضغوط، أو يسهل تفادي العقوبات. فضلًا عن هذا، فإن تحويل البنية التحتية الحيوية لإيران إلى شبكة مشتركة مع روسيا يمنح موسكو قدرة نفاذ مؤسسي طويل الأمد، ليس فقط كموفر معدات؛ بل كضامن لعمليات التشغيل والتمويل، ما يعطي روسيا ورقة إستراتيجية يمكنها استخدامها في موازين القوى مع لاعبين آخرين، ويضع إيران في موقع تبعية تقنية جزئية ما لم تُدرج آليات توطين سريعة وفعالة.
وفي السياق نفسه، يضع أي توسع نووي إيراني في الفترة الحالية المجتمع الدولي أمام تحديات للتمييز بين برامج نووية مدنية وأخطار الانتشار النووي، خاصة في ظل نظرة وكالة الدولية للطاقة الذرية السلبية إلى تحركات إيران؛ ما قد يفضي إلى عزلة دبلوماسية متزايدة، ولعل الانعكاس الدولي الأهم لتلك الصفقة بين إيران وروسيا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بفتح مجال أكبر لتنسيق متعدد الأطراف، يشمل الصين ودولًا أخرى تبحث عن بدائل للنظام الاقتصادي الغربي؛ ما قد يؤدي إلى شبكات بديلة للتمويل والتجارة، وهو ما يدفع ديناميكية التكتلات الدولية بعيدًا عن الهيمنة الغربية التقليدية، مع ما يترتب على ذلك من إعادة لهندسة العلاقات الدولية.
محصلة القول أن الصفقة النووية الجديدة بين إيران وروسيا تتجاوز إطار التعاون التقني بين البلدين لتتحول إلى نقطة ارتكاز في المشهد الإستراتيجي الإيراني داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، فمن جهة، تمنح الاتفاقية طهران دفعة سياسية واقتصادية مهمة في مواجهة العقوبات الغربية، خاصة بعد بدء تفعيل آلية الزناد، وتوفر لها بنية تحتية نووية مدنية تُعزز مكانتها التفاوضية وقدرتها على المناورة، حيث تسعى إيران إلى استثمار الصفقة بوصفها أداة لإعادة صياغة توازنات القوة في الشرق الأوسط ، ومن جهة أخرى، تكشف عن أخطار مرتبطة بتكريس التبعية التكنولوجية لموسكو، وما قد يترتب على ذلك من قدرة روسية على التأثير في القرار الإيراني من خلال التحكم في مسارات الدعم الفني والوقود النووي، فقد تستخدمها موسكو ورقةً لتعزيز نفوذها في الخليج، وربط حضورها الأمني بمشروعات إستراتيجية طويلة المدى؛ ومن ثم فإن نجاح إيران في استثمار الاتفاق يتوقف على قدرتها على إدارة تلك المعادلة بذكاء، وتوظيف الصفقة أداة تمكين، وليس قيدًا جديدًا يحدّ من استقلالية قرارها الإستراتيجي.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير