تقدير موقف

تقدير موقف استراتيجي حول القمة الخامسة والعشرين لمنظمة شنغهاي للتعاون 2025

النظام الدولي بين تعددية مضطربة وقواعد مهزوزة.. قراءة في قمة تيانجين 2025


  • 7 سبتمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: المصدر: Sergey Bobylev/Kremlin Press via Getty

عُقدت في مدينة تيانجين الساحلية، الواقعة في شمال الصين على شاطئ بحر بوهاي، القمة الخامسة والعشرون لمنظمة شنغهاي للتعاون، بحضور أكثر من 20 زعيم دولة، و10 رؤساء منظمات دولية، في الفترة من 31 أغسطس (آب) إلى 1 سبتمبر (أيلول) 2025. وقد اعتُبر هذا الحشد الكبير، الذي ترافق مع احتفال الصين بالذكرى الثمانين لانتصارها في الحرب العالمية الثانية، والعرض العسكري الذي ركّز على عاملي الإبهار وإبراز القوة، مؤشرًا على أن بكين قد تخلّت عن شعار دينغ شياو بينغ “اخفِ قدراتك وانتظر وقتك” (韬光养晦)، أو أن الوقت قد حان بالفعل لتعلن عن نفسها بلا تحفظ بوصفها قوة عالمية سياسية وعسكرية، إلى جانب قوتها الاقتصادية المعلنة.

تباينت ردود الفعل بشأن هذه القمة وما بدا فيها من “تحالف” للثالوث النووي العالمي (الصين، وروسيا، كوريا الشمالية)، الذي كثيرًا ما حذّر منه الباحثون الأمريكيون. وفي أعقاب قمة ألاسكا بين الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين، التي زعم البعض أنها قد تمهّد لتباعد روسيا عن الصين مقابل التقارب مع الولايات المتحدة، في إشارة إلى السياسة المعكوسة التي تبنّتها واشنطن في سبعينيات القرن الماضي عندما تقاربت مع بكين على حساب موسكو. كما كان لافتًا الاستقبال الحافل من الرئيس الصيني شي جين بينغ لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، وهو ما فتح المجال أمام كثير من التحليلات التي يرى أصحابها أن العالم على موعد مع نظام عالمي جديد قائم على التعددية القطبية، فيما يرى آخرون أن هذه القمة مجرد عرض استعراضي يهدف بالأساس إلى لفت أنظار واشنطن إلى أن هناك قوى عظمى أخرى لا بد من مراعاة مصالحها، وأنها لن تظل رهينة لرغبات واشنطن، وما تبدو عليه سياساتها من تقلبات، وغياب للإستراتيجية والقواعد الواضحة.

من هنا تبرز الحاجة إلى تقدير موقف لفهم أبعاد هذه القمة، ودلالاتها على موازين القوى الإقليمية والدولية.

قصة تأسيس منظمة شنغهاي للتعاون

في يوم 26 ديسمبر (كانون الأول) 1991، تفكك الاتحاد السوفيتي على نحو فاجأ الجميع، ووجدت الصين نفسها محاطة من الشمال الغربي بثلاث دول جديدة (كازاخستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان) إلى جانب روسيا في الشمال، بعدما كانت هذه الحدود البالغة (4,300-4,380) كيلومتر مع دولة واحدة هي الاتحاد السوفيتي. كانت الصين آنذاك قوة نامية ناهضة بفضل التوافقات التي جرت بين بكين وواشنطن، والتي بدأت رسميًّا منذ عام 1972 مع إدارة نيكسون، ومهدت لتطبيع كامل وشامل في العلاقات بين البلدين عام 1979 مع إدارة كارتر، وفتحت المجال لتعاونهما في مواجهة الاتحاد السوفيتي (العدو المشترك) لكلا البلدين في ذلك الوقت، إلى جانب الإصلاحات الجذرية التي قادها مهندس النهضة الصينية الحديثة دنغ شياو بنغ.

نتيجة لتعدد حدود الصين من الشمال والشمال الغربي، لتضم أربع دول بدلًا من دولة واحدة، ومع اشتداد الحرب الأهلية في أفغانستان، واقتراب حركة طالبان من السيطرة على العاصمة كابول، وجدت بكين أن هناك حاجة إلى تأسيس منظمة إقليمية هدفها إعادة تثبيت الاتفاقيات الخاصة بالحدود والأمن والتعاون التي أبرمتها الصين الشعبية مع الاتحاد السوفيتي في 16 مايو (أيار) 1991، وإلزام الدول الجديدة بها، وخلق إطار تعاون إقليمي أمني حتى لا تتحمل وحدها العبء الأمني في هذه المنطقة الهشة مما يشغلها عن مشروعات التنمية. وقد شاطرها في هذا الهدف الاتحاد الروسي، الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي، وتوافق الطرفان على استخدام نفوذهما لتأسيس منظمة أمنية إقليمية تحت اسم مجموعة شنغهاي الخماسية (The Shanghai Five) في 26 أبريل (نيسان) 1996، التي ضمت إلى جانبهما كازاخستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان.

في مارس (آذار) 2001، انتُخب فلاديمير بوتين رسميًّا رئيسًا للاتحاد الروسي، بعدما كان رئيسًا مؤقتًا. ومع وجود قيادة جديدة شابة، بدت صارمة ولديها طموح، عرضت بكين توسيع المجموعة وتحويلها إلى منظمة إقليمية أكثر فاعلية وتوسعًا، وبالفعل وافق بوتين على المقترح، وانضمت أوزبكستان إلى المجموعة التي غيرت اسمها إلى منظمة شنغهاي للتعاون (SCO)، وعقدت اجتماعها الأول في 15 يونيو (حزيران) 2001 بمدينة شنغهاي الصينية. وفي العام التالي للمؤتمر الأول، وُقّع ميثاق المجموعة بين الدول الأعضاء الست، التي تقدر مساحتها بثلاثة أخماس مساحة القارة الأوراسية، ويبلغ عدد سكانها 1.5 مليار نسمة، أي ربع سكان العالم. بالإضافة إلى الدول الأعضاء الست، ضمت منظمة شنغهاي للتعاون عضوين جديدين، هما الهند وباكستان في 9 يونيو (حزيران) 2017، وإيران وبيلاروس في 4 يوليو (تموز) 2023 و2024، ليصبح عدد الأعضاء عشر دول، ودولتين بصفة مراقب هما أفغانستان ومنغوليا، و14 شريك حوار، وهم: أذربيجان، وأرمينيا، والبحرين، ومصر، وكمبوديا، وقطر، والكويت، وجزر المالديف، وميانمار، ونيبال، والإمارات، والسعودية، وتركيا، وسريلانكا. وقد صرّح وزير الخارجية الصيني وانغ يي للصحفيين أن لاوس انضمّت إلى منظمة شنغهاي للتعاون شريكًا، وبذلك ارتفع عدد الدول الأعضاء والشركاء إلى 27 دولة.

الأهداف العامة لمنظمة شنغهاي كما وضعتها لنفسها:

  • تعزيز الثقة المتبادلة والصداقة، وحسن الجوار بين الدول الأعضاء.
  • تشجيع التعاون الفعال بين الدول الأعضاء في مجالات مثل السياسة والتجارة والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا والثقافة والتعليم والطاقة والنقل والسياحة وحماية البيئة وغيرها.
  • العمل على ضمان وحفظ السلام والأمن والاستقرار في المنطقة.
  • تعزيز نظام سياسي واقتصادي دولي جديد ديمقراطي وعادل وعقلاني.

المنظمة وقّعت عدة اتفاقيات تعاون مع منظمات دولية وإقليمية، منها: الأمم المتحدة (UN) في 2004، ورابطة الدول المستقلة (CIS) في 2005، ورابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN) في 2005، ومنظمة الأمن الجماعي (CSTO) في 2007، ومنظمة التعاون الاقتصادي (ECO) في 2007، ومنتدى التفاعل وتدابير بناء الثقة في آسيا (CICA) في 2014، واللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) في 2017.

عقدت المنظمة مؤتمرها السنوي  بانتظام في بلدان الدول الأعضاء، وقد بلغت منذ عام 2001 في شنغهاي حتى القمة الأخيرة في مدينة تيانجين الصينية 25 مؤتمرًا، باستثناء عام 2020 الذي عُقد  افتراضيًّا عبر تقنية الفيديو كونفرانس بسبب تداعيات تفشي وباء كوفيد-19.

منظمة شنغهاي.. مظلة أمنية في مواجهة الفوضى الإقليمية والتحديات العالمية

منظمة شنغهاي للتعاون، كما اتضح من الشرح السابق لقصة نشأتها، منظمة إقليمية في الأساس، هدفها الرئيس والمعلن وسبب قيامها حماية الصين وروسيا من التداعيات الجيوسياسية الزلزالية التي تعرضت لها أوراسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. وقد حققت المنظمة بالفعل عدة نجاحات بارزة في هذا المجال، من أهمها:

  • حسم الخلافات الحدودية، وإغلاق هذا الملف تمامًا بعد سلسلة طويلة من الاتفاقيات انتهت بالتوقيع النهائي في 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2008، على ترسيم الحدود الأطول بين روسيا والصين.
  • التصدي لخطر تسرب المقاتلين الإسلاميين من أفغانستان في أثناء فترة حكم طالبان الأولى (1996- 2001)، وكذلك مواجهة تداعيات الغزو الأمريكي لأفغانستان.
  • مواجهة ما تُسمّى في روسيا والصين “الثورات الملوّنة”، التي يدّعي كلا البلدين أنها مدعومة غربيًا، مثل: “ثورة الزهور” في جورجيا (2003)، و”الثورة البرتقالية” في أوكرانيا (2004)، و”ثورة التوليب” في قرغيزستان (2005)، ومنع تسربها إليهما.
  • مواجهة ارتدادات ما يُسمّى “الربيع العربي” منذ نهاية عام 2010، ومنع انتقالها إلى الداخل الصيني والروسي.
  • التصدي المبكر لظاهرة الجماعات السلفية الجهادية التي استهدفت شمال غرب الصين وشمال القوقاز الروسي.
  • معالجة قضايا الهجرة غير الشرعية، وعمليات التهريب عبر الحدود.
  • منع إقامة قواعد أمريكية جديدة على حدود الصين وروسيا.
  • إدارة التنافس في منطقة آسيا الوسطى وجنوب القوقاز بما يحفظ توازن العلاقات بين موسكو وبكين، ويحول دون استغلال أطراف ثالثة للخلافات.

كما أن التوسعات الإضافية للمنظمة، التي ضمّت الهند وباكستان وإيران وبيلاروس، ودولًا بصفة مراقب، مثل أفغانستان ومنغوليا، وشركاء الحوار الأربعة عشر، جاءت لتصب في الهدف نفسه، وهو توسيع نطاق التعاون الأمني في إطار إدراك متزايد من كل هذه الدول بالأخطار المشتركة، خاصةً الإرهاب، والحركات الاحتجاجية، وفي ظل ارتباطها بعضها ببعض داخل نطاق أوراسيا.

الاستنتاجات

نشأت منظمة شنغهاي للتعاون بوصفها منظمة إقليمية هدفها الأول والأساسي إنشاء مظلة أمنية في مواجهة الفوضى الإقليمية والتحديات العالمية في منطقة أوراسيا.

نجحت المنظمة في تحقيق الهدف الرئيس لها لخدمة الصين وروسيا، وتوسعت في إطار مصلحة مشتركة للدول الأعضاء، الذين يقع أغلبهم داخل منطقة أوراسيا، لمواجهة تحديات الإرهاب والاحتجاجات الشعبية التي يرون أنها أداة غربية لتهديد الاستقرار الداخلي.

لا تمتلك المنظمة رؤية واضحة لشكل النظام العالمي، ولا يجمع أعضاءها منظومة قيم مشتركة، أو اتفاقيات دفاع جماعي، أو سوق اقتصادية موحدة، ولا يبدو أن هناك نية -على الأقل في المستقبل القريب أو المتوسط- لتبني هذا التوجه.

تسعى الصين -ويبدو أنها ستنجح في ذلك- إلى توسيع نفوذها الاقتصادي عن طريق المنظمة، وذلك من خلال مجموعة من المشروعات الاقتصادية والقروض. وقد أعلن الرئيس شي جين بينغ خططًا أولية لإنشاء بنك تنمية تديره المنظمة، وطرح منصة للتعاون في مجال الصناعات الخضراء وصناعات الطاقة، كما تعهّد بتقديم قروض بقيمة 1.4 مليار دولار أمريكي على مدى السنوات الثلاث المقبلة لأعضاء المنظمة. وأضاف شي أنه يمهّد الطريق أمام الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون لاستخدام نظام بايدو (BeiDou) للملاحة عبر الأقمار الاصطناعية، بديلًا لنظام تحديد المواقع العالمي (GPS) الخاضع لسيطرة الولايات المتحدة. أعرب الرئيس فلاديمير بوتين -من جانبه- دعمه لمبادرات شي، مؤكدًا اعتقاده أن منظمة شنغهاي للتعاون “بإمكانها الاضطلاع بدور قيادي في الجهود المبذولة لبناء نظام حوكمة عالمي أكثر عدلًا ومساواة”.

الخلافات بين الهند وباكستان، والتوتر بين الصين والهند، والصراعات بين روسيا ودول جنوب القوقاز الثلاث: أرمينيا وأذربيجان وجورجيا، وحالة الشك والريبة المتزايدة بين روسيا ودول آسيا الوسطى، ولاسيما بعد الحرب الروسية- الأوكرانية، وتباين المواقف بين تركيا وإيران، فضلًا عن تباين توجهات بقية الأعضاء والمراقبين وشركاء المنظمة، تجعلها مجرد إطار فضفاض شبيه بمجموعة “بريكس”. وإلى جانب ذلك، فإن مشروعات التنمية والقروض وبدائل أنظمة الملاحة الأمريكية تصب في صالح تعزيز الهيمنة الصينية، وهو ما قد تتحفظ عليه دول عدة، وقد يسبب للبعض الآخر مشكلات مع الولايات المتحدة لا تملك القدرة على مواجهتها.

ورغم هذه الخلافات والتباينات، فقد جمع دول منظمة شنغهاي للتعاون في القمة الأخيرة بمدينة تيانجين عامل مشترك أساسه العلاقة المتوترة مع واشنطن، في ظل سياسة دونالد ترمب المتقلبة، وفي ظل ما تشهده العاصمة الأمريكية من اضطراب سياسي، وغياب للاستراتيجية الواضحة، ورغبة جميع الدول الأعضاء، رغم اختلاف دوافعهم، في توجيه رسالة موحدة إلى واشنطن مفادها: “الشراكة معنا طريق إلى الاستقرار والمنفعة المتبادلة، في حين أن الصدام مقامرة غير محسوبة، والرهان على غياب البدائل رهان خاسر”.

كعادته، أدلى الرئيس دونالد ترمب بتصريح مثير للجدل، قال فيه إنه يبدو “أننا فقدنا الهند وروسيا لصالح الصين”، وذلك في إطار تأكيده فشل إدارة بايدن، ومن قبله أوباما.

وعلى عكس ما يروّج له بعض العرب المتحمسين للتخلّص مما يرونه “هيمنة أمريكية” و”أحادية قطبية”، ويشاطرهم فيه بعض المعلقين الروس والصينيين، لا تسعى بكين ولا موسكو إلى هدم النظام الدولي القائم؛ فالصين استفادت منه، وبفضله تحولت إلى الاقتصاد الثاني عالميًّا، وروسيا تطمح إلى العودة للنظام الذي تبلور بعد الحرب العالمية الثانية. وتعتقد موسكو أن واشنطن هي من انقلبت على هذا النظام في نشوة تفكك الاتحاد السوفيتي، مع بروز أطروحات مثل “نهاية التاريخ”، واعتبار النموذج الأمريكي مرجعًا مهيمنًا بلا شريك.

تسعى بكين وموسكو إلى العودة لقواعد النظام الدولي التي تمأسست في مؤتمر يالطا، فبراير (شباط) 1945، الذي قاد إلى تقاسم النفوذ العالمي بين المنتصرين الرئيسين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا العظمى. ومع استبعاد الأخيرة، التي ترى فيها بكين وموسكو أنها فقدت مكانتها بوصفها قوة عظمى معتبرة عسكريًّا وجيوسياسيًّا واقتصاديًّا، فإن الصين تطمح إلى ملء هذا الفراغ، وهذا ما يفسر خشية لندن من أي توافق أمريكي- روسي قد يمتد ليشمل العلاقة مع بكين، ويؤسس لثلاثية عالمية جديدة: واشنطن- بكين- موسكو، وهو ما يُخرجها تمامًا من معادلات القوة والتأثير الدولي. ويمكن في هذا السياق فهم مواقف بريطانيا، التي خالفت -لأول مرة منذ الحرب الباردة- سياسات واشنطن  صراحة؛ بل تحدتها من خلال استعادة التنسيق النشط مع أوروبا رغم خروجها من الاتحاد الأوروبي، والمبادرة بتأسيس “تحالف الراغبين” لتقديم بديل عن الدعم الأمريكي لأوكرانيا، وخلق كتلة أوروبية رافضة لأي مساعٍ لترمب لتسوية الصراع بشروط تصب في صالح موسكو.

يعتقد البعض في العالم العربي، وبعض القوى الإقليمية في ما يُسمّى “الجنوب العالمي”، أن نظامًا دوليًّا متعدد الأقطاب سيكون في صالحهم. لكن وفق هذا التصور، إن تحقق، فسيكون مبنيًا على تقاسم النفوذ بين القوى الكبرى الثلاث: الولايات المتحدة والصين وروسيا، مع منح دور محدود لأوروبا. وفي هذه الحالة، ستجد هذه الدول نفسها رهينة لإحدى هذه القوى. أما العالم العربي خصوصًا، فسيبقى في الغالب ضمن دائرة الغرب، لأن أولوية موسكو وبكين هي إحكام السيطرة على جوارهما القريب، بينما يبقى النفوذ في العالم العربي مجرد مكسب إضافي، إن تحقق كان جيدًا، وإن لم يتحقق فلن يشكل لهما معضلة. أما الرأي الآخر، فيرى أن الفوضى الحالية تمنح القوى المتوسطة هامش مناورة واسعًا، إلا أن هذا التصور وإن بدا وجيهًا تكتيكيًّا، فإنه يحمل خطرًا إستراتيجيًّا كبيرًا؛ إذ قد يؤدي إلى تكريس نظام فوضوي قائم على “حق الفتح”، وتسليح الاقتصاد العالمي (The Weaponized World Economy)، كما حذّر منه العدد الأخير من مجلة فورين أفيرز الأمريكية في مقال كتبه هنري فاريل (Henry Farrell) وأبراهام إل. نيومان (Abraham L. Newman)، حول خطر هذه السياسات، التي تعيد إنتاج نزعات وحشية عرفها العالم في القرنين التاسع عشر والعشرين.

يظل النظام الدولي القائم على القواعد (RBO)، رغم كل ما اعترى مسيرته من قصور، الخيار الأفضل للبشرية جمعاء، وبالأخص للعالم العربي ودول “الجنوب العالمي”. وهو يتطلب إصلاحات هيكلية حقيقية، وهذا ما ينبغي أن يكون محور نضال القوى الإقليمية الكبرى والمتوسطة والناهضة، مثل مصر والسعودية والإمارات، وبقية دول الخليج، وتركيا والهند وباكستان وجنوب إفريقيا والبرازيل، وأوروبا كذلك، فهذا النظام يمثل طوق نجاة، وخيارًا أكثر أمانًا مقارنة بمنطق القوة المنتمي إلى العصور الوسطى، أو التعددية القطبية القائمة على تقاسم النفوذ بين القوى الكبرى.

من المتوقع أن تُبدي روسيا استعدادًا أكبر للالتزام بالنظام الدولي القائم على القواعد، إذا ما فُهمت هواجسها الأمنية بعيدًا عن الصور الذهنية المتأثرة بحقبة الحرب الباردة، أو الرؤى الأيديولوجية التي صاغها منشقون سابقون، وروّج لها لاحقًا بعض الباحثين الغربيين. فروسيا اليوم تشعر بالضعف، وأنها محاصرة بين قوة سكانية وعسكرية واقتصادية جبارة ممثلة في الصين، وكتلة عسكرية واقتصادية متماسكة يمثلها الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، مما يجعلها عرضة لتهديد مزدوج. هذه الظروف تدفعها إلى البحث عن مظلة أمنية خارج حدودها. أما الصين، فقد تبدو أكثر تشددًا في قبول قواعد هذا النظام، لكن في حال تكاتف العالم العربي، ومعه قوى الجنوب العالمي، وصنع توافق مع روسيا، إلى جانب مبادرة أوروبا والولايات المتحدة لتقديم وجه أكثر إنسانية للسياسة الغربية بعيدًا عن التعالي الذي عبر عنه جوزيب بوريل، الممثل الأعلى السابق للاتحاد الأوروبي، حين وصف أوروبا بأنها “حديقة” وما عداها “غابة”، وفي ظل تراجع السياسات الأمريكية “الترمبية” القائمة على الصفقات؛ فإن الصين لن تستطيع معارضة هذا الإجماع الدولي، وفي الغالب سترضخ وتلتزم بالاتفاقيات الأمنية والعسكرية الخاصة بخفض ومراقبة التسلح كما كانت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي سابقًا، ثم الاتحاد الروسي لاحقًا، مع الحفاظ على مبدأ حرية التجارة كأعظم مكسب حققته البشرية. غير أن هذه الحرية ينبغي ألا تُفهم بوصفها تحريرًا مطلقًا للتجارة بلا قواعد، بل في إطار أكثر عدالة وإنصافًا يراعي تحولات الدول من حالة نامية إلى صناعية متقدمة، ويفرّق بين الدول ذات الدخل المرتفع والمنخفض.

إن النضال من أجل نظام دولي قائم على القواعد، مع معالجة أوجه القصور التي لحقت به، وتخلّي الغرب بقيادة الولايات المتحدة عن وهم الاستثنائية والانفراد بالهيمنة، والكفّ عن تبنّي المعايير المزدوجة في مقاربته للأزمات، حيث صوّر التدخل الروسي في أوكرانيا غزوًا وحشيًّا، في حين صمت وواصل تقديم الدعم لإسرائيل في الوقت الذي تؤكد فيه كل المنظمات الدولية معاناة سكان غزة من مجاعة، والعودة إلى صيغة تعاونية قابلة للتجديد والمراجعة، لن يخلق عالمًا مثاليًّا، لكنه سيجنب البشرية الانزلاق إلى واقع وحشي محكوم بالقوة، يجعل مصائر الأمم والشعوب رهينة لصراعات القوى الكبرى.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.

انعقدت القمة الخامسة والعشرون لمنظمة شنغهاي للتعاون في تيانجين بالصين (31 أغسطس- 1 سبتمبر 2025)، وسط حضور دولي واسع تزامن مع احتفال الصين بذكرى انتصارها في الحرب العالمية الثانية. حملت القمة رسائل رمزية قوية، إذ أظهرت بكين نفسها بوصفها قوة سياسية وعسكرية كبرى، متجاوزة سياسة “إخفاء القدرات” التي انتهجها دنغ شياو بينغ. وقد أثارت مشاهد القمة تحليلات بشأن تشكّل “تحالف نووي ثلاثي” (الصين، وروسيا، وكوريا الشمالية)، وسط جدل بشأن احتمالات تقارب روسي- أمريكي على حساب بكين، أو بروز نظام متعدد الأقطاب.

خلفية تأسيس المنظمة

نشأت المنظمة في سياق ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، إذ وجدت الصين نفسها محاطة بدول جديدة على حدودها الشمالية الغربية. ولتفادي أعباء أمنية منفردة، اتفقت بكين مع موسكو على تأسيس مجموعة شنغهاي الخماسية (1996) لتسوية النزاعات الحدودية. وفي عام 2001 توسعت المجموعة لتصبح منظمة شنغهاي للتعاون، مع انضمام أوزبكستان وتوقيع ميثاقها. لاحقًا انضمت الهند وباكستان (2017)، ثم إيران وبيلاروس (2023–2024)، لتضم اليوم عشر دول، إضافة إلى مراقبين (أفغانستان، ومنغوليا)، و14 شريك حوار من آسيا والعالم العربي.

أهداف المنظمة

وضعت المنظمة لنفسها أهدافًا تشمل: بناء الثقة وحسن الجوار، وتعزيز التعاون في الاقتصاد والطاقة والثقافة والتعليم، وحفظ الأمن والاستقرار، والدعوة إلى نظام دولي “عادل وعقلاني”. ونسجت المنظمة روابط مع كيانات إقليمية ودولية مثل الأمم المتحدة، وآسيان، ومنظمة الأمن الجماعي.

إنجازات المنظمة

حققت المنظمة نجاحات بارزة، منها:

  • تسوية نهائية للنزاعات الحدودية الصينية- الروسية (2008).
  • التصدي لتهديدات طالبان والمقاتلين الإسلاميين.
  • مواجهة “الثورات الملوّنة” وارتدادات “الربيع العربي”.
  • إحباط محاولات أمريكية لإقامة قواعد قرب الصين وروسيا.
  • إدارة التنافس في آسيا الوسطى ومنع استغلاله من أطراف ثالثة.

قمة تيانجين 2025

جاءت القمة الأخيرة في سياق توترات مع واشنطن، خاصة مع سياسات الرئيس دونالد ترمب المتقلبة. طرح الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرات اقتصادية، منها: بنك تنمية للمنظمة، وتعاون في الصناعات الخضراء والطاقة، وقروض بـ1.4 مليار دولار. كما دعا لاستخدام نظام الملاحة “بايدو” بديلًا عن GPS الأمريكي. أكد بوتين -من جانبه- قدرة المنظمة على قيادة نظام عالمي أكثر عدلًا، غير أن الخلافات بين الهند وباكستان، والتوتر الصيني- الهندي، والريبة الروسية من دول آسيا الوسطى، تضعف تماسك المنظمة، وتجعلها أقرب إلى إطار فضفاض شبيه بمجموعة “بريكس”.

البعد الدولي

رغم توسعها، تفتقر المنظمة إلى رؤية موحدة للنظام العالمي، أو قيم مشتركة أو دفاع جماعي. وتُظهر بوضوح أنها أداة لتعزيز النفوذ الصيني؛ ما يثير تحفظات بعض الأعضاء. ومع ذلك، تظل نقطة الالتقاء الأساسية هي توتر علاقاتها مع واشنطن، ورسالتها الموحدة أن الصدام مع هذه القوى مقامرة، في حين أن الشراكة تضمن الاستقرار.

دلالات أوسع

لا تسعى موسكو وبكين إلى هدم النظام الدولي القائم بقدر ما تطمحان إلى إعادة إحيائه وفق قواعد يالطا (1945)، لكن مع دور قيادي جديد للصين. أوروبا، خصوصًا بريطانيا، تخشى تهميشها إذا ما ظهر محور واشنطن- بكين- موسكو. أما العالم العربي و”الجنوب العالمي”، فرغم آماله في تعددية قطبية، قد يجد نفسه تابعًا لإحدى القوى الكبرى. البديل الواقعي والأكثر أمانًا يبقى إصلاح النظام الدولي القائم على القواعد (RBO)، بما يضمن عدالة أكبر في التجارة، ويكبح منطق القوة والفوضى.

الخلاصة

تظهر قمة تيانجين أن منظمة شنغهاي للتعاون تُعزز موقع الصين وروسيا في مواجهة الهيمنة الأمريكية، لكنها تظل إطارًا أمنيًّا مرنًا أكثر من كونها تحالفًا متماسكًا. النظام الدولي يمر بمرحلة اضطراب، والتحدي الحقيقي أمام القوى الصاعدة والمتوسطة ليس تقويضه؛ بل إصلاحه لضمان نظام قائم على القواعد، أكثر عدلًا واستقرارًا، يمنع العودة إلى “اقتصاد مسلح”، أو صراعات النفوذ الكلاسيكية.



شارك الموضوع