شهد الخطاب الروسي الرسمي، أمس، الثالث من يونيو (حزيران) 2025، تحولًا كيفيًّا لا يمكن أن تخطئه عين المراقب العادي، ويلتزم بقراءته من يحلل الموقف الروسي والصراع الروسي الأوكراني. انتظرت حتى نهاية اليوم حتى أستطيع إجمال كل ما يمكن إجماله من تصريحات اليوم السياسية، وتطوراته العسكرية والميدانية المباشرة.
فبعد صمت رسمي سياسي ليومين على استهداف القواعد الجوية، وتدمير القاذفات الاستراتيجية، توالت التصريحات من رمزين كبيرين في محراب صناعة القرار الروسي، وهما دميتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ودميتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين.
الأول أعلن أن لا عودة إلى مفاوضات إسطنبول، وشدد على أن السلام لن يأتي إلا من فوهات البنادق، ما يعني أن الحسم من وجهة نظره سيكون ميدانيًّا، لا دبلوماسيًّا. والثاني أعاد تأكيد الفكرة نفسها، ولكن بلغة أكثر دبلوماسية وضبطًا -فهو دبلوماسي في الأصل- معترفًا بأن الوقائع الحالية لا تبقي مجالًا لحديث جاد عن التفاوض.
هذا التصعيد في الخطاب السياسي الروسي تزامن مع موجة من الضربات الأوكرانية الجديدة استهدفت منشآت الطاقة في المناطق التي تسيطر عليها روسيا من مقاطعتي زابوروجيا وخيرسون، بل هددت جسر القرم نفسه، وذلك بعد يومين فقط من ضرب القواعد الجوية الروسية.
وسأحاول في هذا التحليل البحث والتمحيص في العلاقة الجدلية بين الخطاب الروسي والسياق الميداني المتغير.. وهل موسكو بصدد إعلان وفاة خيار التسوية السياسية لصالح سيناريو المعركة الطويلة، أم أن هذا الاستنتاج سابق لأوانه؟
وإذا بدأت بتناول تصريحات ميدفيديف وبيسكوف، ومن واقع متابعتي اليومية لكل ما يصدر عنهما على مدى سنوات، رأيت تطابقًا نادرًا في خطاب الأزمة لديهما.
في العادة تُقرأ تصريحات ميدفيديف من زاوية كونه أكثر تطرفًا من الموقف الرسمي المعلن للكرملين. غير أن ما يلفت الانتباه اليوم أن تصريح بيسكوف، الذي يمثل صوت المؤسسة التنفيذية العليا مباشرة، لم يبتعد كثيرًا عن مضمون خطاب ميدفيديف، وإن اختلفت العبارات والكلمات المستخدمة في كلا التصريحين؛ فبيسكوف أقر بأن الوقائع العسكرية والميدانية لا تتيح إمكانية الحديث عن “مفاوضات مجدية”، واعتبر أن “ما يحدث على الأرض يؤكد أن كييف ومن يقف وراءها لا يسعون إلى السلام؛ بل إلى تحقيق مكاسب ميدانية”، وأنا هنا أقتبس بالنص من تصريحاته.
هذا التماثل بين خطاب ميدفيديف وبيسكوف يعكس -في رأيي- أن ما يجري ليس مجرد انفعال مؤقت؛ وإنما توجه إستراتيجي يعاد ترسيخه في دوائر الحكم الروسية العليا. والرسالة هنا -كما أفهمها- هي: انتهى زمن التفاوض، وبدأ زمن فرض الوقائع بالقوة.
لكن ما الذي أحدث هذا التغير في الموقف الروسي؟ والرد بلا تردد: استهداف العمق الروسي هو نقطة تحول في قواعد الاشتباك تفرض على ساكن الكرملين تبني إستراتيجية جديدة.. وإلا..
بالتزامن مع هذه التصريحات، جاءت التطورات الميدانية لتمنحها مضمونًا واقعيًّا غير قابل للتأويل، فقد شنت القوات الأوكرانية -مجددًا، باستخدام المسيرات- هجمات على منشآت طاقة مدنية ذات أهمية كبرى في مقاطعتي زابوروجيا وخيرسون، بعد الهجمات المتزامنة على القواعد الجوية الإستراتيجية.
من الناحية الفنية، أعتقد أنه لا يمكن فصل استهداف القواعد الجوية عن التحديث الأمريكي الأوروبي المستمر للقدرات الهجومية الأوكرانية، وخاصةً بعد توريد الذخائر الجوية العالية الدقة جي دي أيه أم، والقوارب المسيرة، على الرغم من كل تصريحات ترمب والأمريكان بضرورة التفاوض والسلام.
أما سياسيًّا، ففي اعتقادي أن موسكو تقرأ هذه الضربات بوصفها نتيجة مباشرة لتراخي الغرب المقصود في ضبط حدود الحرب؛ ومن ثم فإن ردها -والكلام هنا لميدفيدف- لن يكون موجهًا إلى البنية التحتية الأوكرانية فقط؛ بل إلى من يخططون وينفذون ويأمرون. (ولكم مطلق الحرية في إطلاق الخيال لتخمين من يقصد ميدفيديف بهذا التهديد)
وإذا انتقلت لإجمال التطورات العسكرية الخطيرة التي وقعت أمس، فلا بد أن أشير بالطبع إلى التغير النوعي في الأسلوب الأوكراني وطبيعته، وطبيعة الاستهدافات؛ ففي الساعات الأولى من 3 يونيو (حزيران) 2025 شهدت مقاطعتا زابوروجيا وخيرسون ضربات متزامنة على محطات فرعية لنقل الكهرباء وتوزيعها؛ ما أدى إلى انقطاع التيار الكهربي عن أكثر من مليون شخص، حسب البيانات الروسية الرسمية.
وهذه الحادثة مع أنها لم تستهدف محطات التوليد نفسها، فإنها أصابت مفاصل شبكة النقل، وأظهرت أن استهداف البنية التحتية يمكن أن ينفذ بفاعلية من دون الحاجة إلى تدمير المنشآت الإستراتيجية الكبرى، وهذا تطور نوعي جديد وخطير من جانب أوكرانيا.
هذا النوع من العمليات يعبر عن تصعيد ذكي وخفي من الجانب الأوكراني؛ لأنه يستهدف إنهاك الجبهة الداخلية الموالية لروسيا في هذه المناطق من دون أن يتحول إلى خرق سافر لقواعد القانون الدولي، ظاهريًّا على الأقل. لكن الأثر السياسي لهذه الضربات كان كبيرًا، وأعتقد أنه سوف يجعل موسكو أكثر اقتناعًا بأن التساهل في الرد لن يؤدي إلا إلى مزيد من التمادي.
أضف إلى ذلك العودة مجددًا إلى استهداف جسر القرم، بل أن يُغلَق مرتين أو ثلاثًا خلال يوم واحد، هو أمر غير مسبوق في الحرب المستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات. وأكثر من ذلك، تضارب الأنباء عن طبيعة الاستهداف، بين حديث عن مسيرات تحت- مائية (غواصة صغيرة مسيرة)، أو قارب مسير مفخخ، لكن الثابت أن الهجوم كان معقدًا، ومتعدد الأدوات. فضلًا عن ذلك، فإنه نجح في إحداث شلل مؤقت في شريان النقل الرئيس الذي يربط القرم بالبر الروسي الرئيس.
وهنا لا بد من التوقف عند دلالة هذا الهجوم: جسر القرم لم يكن يومًا مجرد منشأة لوجستية؛ بل هو رمز السيادة الروسية على شبه الجزيرة، واستهداف هذا الجسر -في رأيي- ليس مجرد عملية عسكرية؛ بل رسالة إستراتيجية، دفعت المستشار الأمني للقرم، أوليغ كريوتشكوف، إلى الحديث عن أن “الهجوم الإعلامي والنفسي جاء متزامنًا مع العمليات الأوكرانية في البحر الأسود لاستهداف الجسر”.
الرد الروسي حتى الآن، تمثل فقط في تعزيز التدريبات البحرية المضادة لأعمال التخريب، وضرب مواقع إنتاج المسيرات الأوكرانية، حسب بيانات وزارة الدفاع الروسية، لكن الواضح أن الخطاب السياسي الروسي بدأ ينحو نحو ضرورة تبني سياسة الردع الاستباقي.
وإذا تحدثت عن التداعيات السياسية والعسكرية المحتملة لهذا التحول، فينبغي -بدايةـ الجمع بين عناصر المشهد بمجمله، وأقصد تصريحات ميدفيديف، وتأكيدات بيسكوف، والضربات الأوكرانية على القواعد الجوية، وبعدها استهداف منشآت البنية التحيتية للطاقة، ومحاولات ضرب جسر القرم، ثم الرد الروسي الميداني الباهت حتى الآن بضرب قاعدة جوية أوكرانية شمال غرب أوكرانيا، فإن المحصلة النهائية -في رأيي- تبدو كالتالي:
– لم يعد هناك إجماع داخل النظام الروسي على خيار التسوية السياسية، بل على العكس يُنتَج الآن خطاب رسمي موحد يمهد لمرحلة “الحرب المفتوحة” على طول امتداد الجبهة.
– موسكو تتحرك بثبات نحو تثبيت مناطق السيطرة الحالية كحدود فعلية، تمهيدًا لفرض معادلة “الأرض مقابل التهدئة” لاحقًا، وليس “السلام مقابل الانسحاب”.
– التصعيد الأوكراني في الجنوب والقرم يُقرأ في موسكو بوصفه اختبارًا لمدى تماسك الدفاعات الروسية، وهو ما سيدفع الكرملين -حسبما أعتقد- إلى تعزيز الجبهة الجنوبية، حتى لو تطلب ذلك نقل وحدات من خاركوف وسومي، كانت معدة لاختراق هاتين المقاطعتين خلال الفترة القادمة بعد فشل مسار إسطنبول المتوقع.
وفي الختام، أعتقد أن تصريحات ميدفيديف وبيسكوف، إذا قرأناها في سياقها الزمني والميداني، لا يمكن فصلها عن مشروع سياسي وأمني متكامل بدأ يتبلور في موسكو منذ أشهر، وهو مشروع يقوم على دفن وهم المفاوضات، وإحياء منطق الحسم بالقوة، من فوهات البنادق كما قال ميدفيديف.
وإذا ما استمرت الضربات الأوكرانية بهذا النمط -المنهك لا الكاسح- فإن روسيا -في اعتقادي- قد تذهب إلى أبعد من الردود الميدانية التقليدية، نحو تعديل جديد في العقيدة النووية أو التصعيد الإقليمي في مناطق نفوذ أخرى، كالساحل السوري مثلًا، أو منطقة بريدنستروفيا (ترانسنيستريا).
والاستنتاج الأبرز من كل هذه التطورات الأخيرة، هو أن المنطقة تمضي إلى تطور أكثر خطورة في الأزمة الأوكرانية، عنوانه: “لا عودة إلى إسطنبول.. ولا توقف قبل تغيير المعادلة”.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.