تقدير موقف

الموقف الروسي تجاه غزة.. وتحليل تأثير التصريحات الأمريكية في التوتر الإقليمي


  • 10 فبراير 2025

شارك الموضوع

في ظلّ تصاعدٍ غير مسبوق للتداعيات الإنسانية في قطاع غزة، تحوّل -بحسب التوصيف الرسمي الروسي- من “مأساة إلى كارثة”، تطفو على السطح تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب المثيرة للجدل، التي اقترح فيها “إعادة توطين” سكان القطاع في دول الجوار، كالأردن ومصر، مع خطط للسيطرة الأمريكية على غزة وتحويلها إلى “واحة تنموية” بالتعاون مع فرق دولية. هذه التصريحات، التي وصفتها المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا بأنها “شعبوية، وسخيفة، وصادمة”، أثارت عاصفةً دبلوماسيةً واسعةً، لا سيما في ظلِّ تحذيرات روسية من أنها “تُفاقم التوتر في منطقةٍ تعاني أصلًا تداعيات حربٍ طاحنة.”

من جهة موسكو، يُعد الموقف الروسي واضحًا في رفض أي خططٍ تتعارض مع “حل الدولتين” وفق قرارات الأمم المتحدة، إذ شدّد الكرملين على أن أي تسوية دائمة للقضية الفلسطينية يجب أن تستند إلى الشرعية الدولية. وفي هذا السياق، أكدت زاخاروفا أن الأولوية الآن هي “ضمان تنفيذ الاتفاق بين إسرائيل وحماس”، و”تقديم المساعدة الإنسانية العاجلة”، معتبرةً أن الحديث عن مخططات تهجير هو “تدابير تخفيفية غير مجدية.”

لكنّ ردود الفعل الإقليمية والدولية كشفت عن انقساماتٍ عميقة: فبينما رحّب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بخطة ترمب، واصفًا إياها بـ”الفرصة لإعادة إعمار غزة”، اندفعت حركة حماس إلى رفضها رفضًا قاطعًا، واصفةً إياها بـ”مشروع تهجيرٍ ممنهج”، ومطالبةً بعقد قمة عربية طارئة لمواجهة هذه الخطط . كما انضمّت دول عربية وإسلامية، مثل مصر والأردن، إلى رفض الفكرة، في حين عبّرت الصين عن معارضتها أي “تهجير قسري.”

في خضم هذا الجدل، تُعيد روسيا تموضعها بوصفها فاعلًا دوليًّا يسعى إلى ملء الفراغ الناجم عن تراجع الدور الأمريكي التقليدي، مُشدّدةً على ضرورة عقد مفاوضاتٍ مباشرة تحت مظلة الأمم المتحدة، لكنّ التعقيدات تظلُّ قائمة: فالاتهامات المتبادلة بين القوى الكبرى، والانقسامات العربية بين دعم الملف الفلسطيني، وضغوط التطبيع مع إسرائيل، بالإضافة إلى التصعيد العسكري الإسرائيلي في الضفة الغربية تحت اسم “السور الحديدي”، تُذكِّر بأن غزة لم تعد مجرد ساحة صراع محلي؛ بل تحوّلت إلى بؤرة لصراعٍ جيوسياسي أوسع، تُدار فيه حسابات القوة بعيدًا عن معايير العدالة الدولية.

هذا المشهد المُعقّد يطرح تساؤلاتٍ عن مدى جدية الخطط الأمريكية، وما إذا كانت تُخفي أجنداتٍ لتصفية القضية الفلسطينية، أو إذا كانت مجرد “بالونات اختبار” لقياس ردود الفعل؛ فبينما تُحاول موسكو تقديم نفسها “وسيطًا نزيهًا”، تُظهر واشنطن -من خلال خطاب ترمب- انحيازًا كاملًا إلى الرواية الإسرائيلية؛ مما يُعمّق أزمة الثقة بالسياسة الدولية.

النظرة التاريخية للصراع في غزة        

تعود جذور الصراع في قطاع غزة إلى بدايات القرن العشرين، حين سعت الحركة الصهيونية إلى إقامة دولة يهودية على أراضٍ خاضعة للانتداب البريطاني آنذاك. ومع صدور “وعد بلفور” عام 1917، ظهرت بوادر التوتر بين السكان العرب والمستوطنين اليهود الذين تزايد عددهم تدريجيًّا. وبعد الحرب العالمية الثانية، وتسارع وتيرة الهجرة اليهودية، أقرّت الأمم المتحدة عام 1947 خطة التقسيم التي قسّمت فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية، فيما وُضع جزء من القدس تحت إدارة دولية. لم يقبل العرب هذه الخطة، واندلعت حرب 1948 التي أفضت إلى تأسيس دولة إسرائيل، وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين، الذين لجأ كثيرٌ منهم إلى غزة.

أصبحت غزة تحت الإدارة المصرية بعد حرب 1948، لكن القطاع بقي يعاني أوضاعًا اقتصادية واجتماعية صعبة نتيجة اكتظاظه باللاجئين، وندرة الموارد. وفي حرب يونيو 1967 (النكسة)، تمكّنت إسرائيل من احتلال غزة والضفة الغربية، إلى جانب أجزاء أخرى من الأراضي العربية. ومنذ ذلك التاريخ تعاقبت سياساتٌ إسرائيلية مختلفة لفرض السيطرة على القطاع، بدءًا من بناء المستوطنات فيه، ومحاولة تطويق الحياة الاقتصادية، وصولًا إلى فرض حصار خانق أواخر العقد الأول من الألفية الجديدة.

في تسعينيات القرن الماضي، شهدت المنطقة محاولاتٍ للسلام تمثّلت في اتفاقيات أوسلو (1993)، إذ حصلت السلطة الوطنية الفلسطينية على حكمٍ ذاتي محدود في بعض مناطق الضفة والقطاع، لكن الاتفاق لم يُنهِ الصراع، إذ تكرّرت جولات التصعيد وتوسّعت الاستيطانات في الضفة، في وقتٍ ازداد فيه نفوذ حركات المقاومة الفلسطينية في غزة، وعلى رأسها حركة حماس. وفي عام 2005، أعلنت إسرائيل انسحابًا أحاديًّا من مستوطنات غزة، بيد أنّ القطاع خضع لاحقًا لحصارٍ شديد، وتحكُّمٍ محكمٍ في المعابر الحدودية، مع تكرار جولات عسكرية إسرائيلية عنيفة، كان أشدّها في أعوام 2008 و2012 و2014.

في المسار التاريخي نفسه، اكتسبت قضية غزة بُعدًا إقليميًّا ودوليًّا متعاظمًا؛ إذ اعتُبرت غزة رمزًا للمعاناة الفلسطينية، تبرز فيها ملفات اللجوء والاحتلال والحصار. وقد أدت المتغيّرات السياسية في العالم العربي -خاصة بعد الثورات العربية 2011- إلى تنامي أدوار بعض القوى الإقليمية التي دعمت أطرافًا مختلفة في الساحة الفلسطينية. كما أن التحولات في السياسة الأمريكية بين إداراتٍ متعاقبة أثّرت تأثيرًا كبيرًا في مسار الصراع: من إدارة أوباما التي تبنّت بعض أشكال الضغط المحدود على إسرائيل، إلى إدارة ترمب التي قدّمت دعمًا غير مسبوقٍ للمطالب الإسرائيلية، وسعت نحو “صفقة القرن” التي تجاهلت كثيرًا من الحقوق الفلسطينية.

في هذا السياق التاريخي، مثّلت غزة منطقةً تتضارب فيها المصالح: إسرائيل ترى فيها خطرًا أمنيًّا، وتعمل على تحجيم المقاومة الفلسطينية، فيما يجد الفلسطينيون -خاصة اللاجئين- أنها معقل صمود أمام مخططات التصفية التي تطلّ برأسها من حين إلى آخر. وعلى مرّ العقود، لم تكن غزة مجرد بقعة جغرافية صغيرة؛ بل صارت محورًا لصراعٍ أوسع، تنخرط فيه قوى عالمية تبحث عن نفوذٍ إقليمي وإستراتيجي. كل هذه التراكمات رسّخت جذور تعقيداتٍ سياسية واجتماعية واقتصادية ما زالت تتفاعل حتى اللحظة، لتجعل غزة ملفًا مفتوحًا أمام قراراتٍ أممية كثيرة ظلت غير مفعّلة، في ظلّ تشابك الحسابات الإقليمية والدولية؛ ولذا، لا يمكن لأي مبادرة كتلك التي اقترحها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لإعادة توطين سكان القطاع أن تُفهم إلا ضمن هذا السياق التاريخي المعقّد الذي يمتزج فيه حق العودة للاجئين بصراعات السيادة والنفوذ، وتطلّعات الفلسطينيين إلى إقامة دولة مستقلة.

تصريحات ترمب وخلفياتها السياسية    

أثارت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بشأن قطاع غزة جدلًا واسعًا؛ إذ اقترح “إعادة توطين” سكان القطاع في دول الجوار، مثل مصر والأردن، مع منح الولايات المتحدة دورًا محوريًّا في “إعادة بناء غزة” بالتعاون مع أطراف دولية. ومع أن هذه التصريحات جاءت في سياق خطابٍ داخلي أمريكي يُحاول ترمب من خلاله جذب قاعدةٍ شعبية مؤيدة لإسرائيل، فإنها كشفت أيضًا عن نهجٍ جديدٍ -ليس منفصلًا كليًّا عمّا سبق- من الرؤى الأمريكية التي تسعى إلى تجاوز الأسس المتعارف عليها في القانون الدولي، وعلى رأسها “حل الدولتين”، وحق اللاجئين في العودة.

ما يلفت الانتباه في كلام ترمب هو توقيته وحمولته السياسية؛ لذا يرى مراقبون أنّ هذه التصريحات تُعدّ جزءًا من حملةٍ شعبوية هدفها استمالة اللوبي المؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة، فضلًا عن تيارٍ يميني يعتنق تصوراتٍ تقوم على حسم الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي لمصلحة إسرائيل بصورةٍ شاملة. ومع أنّ هذه الرؤية ليست بعيدة عن “صفقة القرن” التي عُرضت إبّان رئاسة ترمب السابقة، فإن المطروح هذه المرة جاء أكثر حدّةً بإشارةٍ صريحة إلى تهجير سكان القطاع.

تاريخيًّا، طرحت دوائر أمريكية وإسرائيلية عدّة أفكارٍ تمسّ مصير غزة وسكانها؛ فبعض الأصوات داخل إسرائيل دعت صراحةً إلى دفع سكان القطاع للهجرة الطوعية من خلال الضغط الاقتصادي، أو التلويح بالتدخل العسكري، وقدّمت بعض المراكز البحثية الإسرائيلية والأمريكية دراساتٍ “تحليلية” تقترح سيناريوهات لتخفيف الكثافة السكانية في غزة. وجاء ترمب ليبلور هذه الأفكار في مقترحٍ يستند -ضمنيًّا- إلى أن “المشكلة” تكمن في وجود سكانٍ كثيرين على رقعةٍ ضيقة، بدلًا من الاعتراف بأن جوهر القضية هو الاحتلال والحصار.

خلفيات هذا الطرح لا تنفصل عن سياساتٍ أمريكية، حيث اعترفت الإدارة الأمريكية تحت رئاسة ترمب بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقلت سفارتها إليها، وقطعت الدعم عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، كما أغلقت مكاتب منظمة التحرير في واشنطن، وانتهجت مسارًا تطبيعيًّا بين إسرائيل ودول عربية تحت اسم “اتفاقيات أبراهام”، مع تجاهلٍ كامل لمطالب الفلسطينيين. كل تلك الخطوات أعطت ضوءًا أخضر لليمين الإسرائيلي بالمضي قدمًا في مخططات الاستيطان والضمّ، ودُفعت صفقة القرن بوصفها مقترحًا يلغي حق اللاجئين في العودة، ويشكّل خريطةً مجتزأة للدولة الفلسطينية المقترحة.

لكنّ المستجد في التصريحات الأخيرة أنّها وضعت غزة في صلب مشروعٍ للتهجير والاستحواذ. وفيما أكّد ترمب أنّ تحقيق “تنمية اقتصادية” يتطلّب إعادة صياغة التركيبة السكانية، وتغيير الواقع الجغرافي، عاد ليتحدث -في صيغة غير مباشرة- عن إمكانية وضع القطاع تحت إدارةٍ دولية بزعامة أمريكية. هذا الطرح يثير تساؤلاتٍ عن البعد القانوني؛ إذ يتنافى مع قرارات أممية عالجت القضية الفلسطينية بوصفها قضية احتلال، ويصطدم بمبادئ القانون الدولي الإنساني التي تحظر التهجير القسري.

وتجدر الإشارة إلى أنّ ردود الفعل لم تأتِ فقط من الأطراف الفلسطينية التي رأت في هذه التصريحات إهانة لحقوق الشعب الفلسطيني، بل أيضًا من روسيا التي وصفتها بـ”الشعبوية والخطيرة”؛ لأنها تزيد حدة التوتر في منطقةٍ تواجه نزاعاتٍ متعددة. لقد أشارت موسكو -بوضوح- إلى أن طرح مسألة التهجير يتعارض مع أي تسويةٍ ذات مصداقية، وأن الأولوية يجب أن تكون لتخفيف الأزمة الإنسانية، والبحث في حلولٍ تستند إلى قرارات الشرعية الدولية، لا إلى اقتراحاتٍ تجتزئ أصل المشكلة، وتجترح حلولًا “معجزة”، لا تراعي الحقوق والوقائع التاريخية.

الأطراف الإقليمية والدولية.. تفاعلات ومواقف  

لم تتأخر أطرافٌ كثيرة في التعليق على تصريحات ترمب بخصوص تهجير سكان غزة، أو “إعادة توطينهم”؛ إذ رحّب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالمقترحات، واصفًا إياها بـ”الفرصة الاستثنائية” لإعادة إعمار غزة، وهو تعبيرٌ يراه كثيرٌ من المراقبين مُضلّلًا؛ لأنّ مضمونه الفعلي يتصل بإفراغ القطاع من عنصره البشري الذي يُشكّل معضلة ديموغرافية وأمنية لإسرائيل.

في المقابل، رفضت حركة حماس رفضًا قاطعًا هذه الخطة التي وصفتها بـ”المشروع التهجيري الممنهج”، مطالبةً بعقد قمةٍ عربية طارئة لبحث سبل التصدّي لها. ويُقرّ الكثيرون أنّ حماس سعت في السنوات الأخيرة إلى إدارة شؤون القطاع ضمن معطياتٍ محلية وإقليمية معقدة، وتؤكد باستمرار أنّ القضية الفلسطينية لا تُختزل في تحسين أوضاعٍ اقتصادية تحت الاحتلال، أو نقل سكانٍ إلى مناطق أخرى؛ بل تكمن في إنهاء الاحتلال، وإقامة دولةٍ ذات سيادة، وعودة اللاجئين. كذلك، نددت السلطة الوطنية الفلسطينية (في رام الله) بتصريحات ترمب، معتبرةً إياها “تطاولًا على حقوق الشعب الفلسطيني ورغباته المشروعة” في دولةٍ مستقلة.

مصر والأردن -بصفتهما الدولتين المحاذيتين لقطاع غزة- رفضا أيضًا هذه الأفكار، مشددين على أنّ مجرد التفكير في نقل سكان القطاع يتعارض مع التزامات دولية وإقليمية سابقة؛ فلا القاهرة تودّ زعزعة أمنها القومي، خاصة في منطقة سيناء التي تعاني مسبقًا تحدياتٍ أمنية، ولا عمّان تقبل إضافة تحدياتٍ سكانية واقتصادية في ظل أوضاعها الداخلية الصعبة. بالإضافة إلى ذلك، ارتبطت كلتا الدولتين باتفاقاتٍ أو معاهدات سلام مع إسرائيل، يُفترض فيها أن تكون إطارًا لاستقرار إقليمي، لا لتوسيع رقعة النزاع، أو خلق أزماتٍ سكانية جديدة.

على الصعيد الدولي، تبنّت روسيا خطابًا حادًّا في وجه تصريحات ترمب، واصفةً إيّاها بأنّها تمثل “تحريكًا غير مسؤول لملف اللاجئين، وزيادةً للضغوط في منطقةٍ تعاني أساسًا احتقانًا”. ويأتي هذا الموقف في إطار مساعي موسكو إلى ترسيخ حضورها في الشرق الأوسط بوصفها لاعبًا يطرح نفسه وسيطًا بديلًا أو منافسًا للولايات المتحدة، مستفيدةً من الانسحاب الأمريكي النسبي من ملفاتٍ إقليمية عدة. ولعلّ ردّ فعل روسيا الحازم يعود أيضًا إلى رغبتها في الحفاظ على علاقاتٍ جيدة مع الدول العربية والإسلامية، مع الاحتفاظ بقنوات تواصلٍ مع إسرائيل.

أما في الساحة الدولية الأوسع، فقد عبّرت دولٌ إسلامية، مثل تركيا وإيران وقطر، عن رفضها المبدئي لأي تهجيرٍ للفلسطينيين، وألمحت إلى أنّ خطوةً من هذا القبيل قد تشعل موجةً جديدةً من الغضب في العالمين العربي والإسلامي. أما الدول الغربية في أوروبا، فإن بعضها ما زال ملتزمًا رسميًّا بـ”حل الدولتين” بوصفه إطارًا رئيسًا لتسوية الصراع، لكنه لم يُصدر بيانات صارمة ترفض تصريحات ترمب، وهو ما أعاد انتقادات النشطاء والمنظمات الحقوقية بأن الموقف الأوروبي لا يزال غير قادرٍ على التصدي -بوضوح- للسياسات الأمريكية والإسرائيلية.

من جانب آخر، تبدو الأمم المتحدة حذرةً في التعليق؛ إذ تطالب باستمرار بحلٍّ يقوم على القرارات الأممية، واحترام حقوق الإنسان، لكنها نادرًا ما تتخذ مواقف حاسمة تردع تصريحاتٍ من هذا النوع، خاصةً إذا تعلقت بالخطاب الأمريكي. وفي ضوء هذا المشهد المتعدد الأطراف، يتبيّن أن قضية غزة تخضع لموازين قوى لا تراعي دائمًا المعاناة الإنسانية، بقدر ما تلتفت إلى حساباتٍ سياسية وإستراتيجية.

السياق الإنساني والاقتصادي في غزة   

رغم تعدّد الأطروحات السياسية، وتنوّع المواقف الدولية، فإن الواقع الإنساني في غزة يظلّ المحور الأهم الذي ينبغي التركيز عليه لفهم خطورة أي طرحٍ يقترح تهجير السكان، أو تغيير التركيبة الديموغرافية. يعيش في القطاع أكثر من مليوني نسمة ضمن مساحةٍ ضيقة لا تتعدى 365 كيلومترًا مربعًا؛ ما يجعله من أكثر المناطق اكتظاظًا في العالم. وبحسب تقارير الأمم المتحدة قبل أحداث 7 أكتوبر (مثل تقارير “أونكتاد”، و”الأونروا”)، فإن أكثر من نصف سكان غزة يعانون الفقر، فيما تتجاوز معدلات البطالة 40%، وترتفع النسبة أكثر لدى فئة الشباب.

هذا الوضع تفاقم نتيجة الحصار الذي تفرضه إسرائيل منذ عام 2007، والذي يمنع حرية الحركة للبضائع والأفراد، فضلًا عن القيود الشديدة على الواردات الأساسية، والمستلزمات الطبية، والمواد الخام اللازمة لتشغيل المصانع. أدّت هذه السياسة إلى تدهور البنى التحتية، بما في ذلك شبكات الكهرباء، والمياه، والصرف الصحي. وتعاقبت ثلاث حروب واسعة النطاق شنتها إسرائيل على غزة (2008- 2009، و2012، و2014) أودت بحياة الآلاف من المدنيين، ودمّرت أحياءً كاملة؛ مما فاقم المعاناة، وأدّى إلى تهجير داخلي لعشرات الآلاف، وإن لمددٍ متفاوتة.

ومن الناحية الصحية، تواجه مستشفيات القطاع صعوباتٍ جمة في توفير الأدوية الأساسية، وأجهزة التشخيص والعلاج المتطورة. كما يُبدي المسؤولون في المؤسسات الإغاثية قلقًا متزايدًا من انتشار الأمراض المرتبطة بسوء التغذية، ونقص المياه النظيفة. وفي هذا الإطار، أدّت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) دورًا حاسمًا في تأمين خدمات التعليم والرعاية الصحية والإغاثة، لكنها تعرّضت -خاصةً في حقبة ترمب- لضغوطٍ، ووقفٍ للتمويل الأمريكي جعلها تعاني شللًا ماليًا كاد يهدد استمرار عملياتها.

أما من حيث البعد الاقتصادي، فإن القطاع معزولٌ تقريبًا عن الأسواق الخارجية، باستثناء ما يمرّ خلال أنفاق التهريب على الحدود مع مصر، أو من خلال موافقاتٍ محدودة من الجانب الإسرائيلي. وقد شهدت غزة محاولاتٍ كثيرة لإقامة مشروعات صناعية أو زراعية لتخفيف البطالة، لكنها تصطدم دائمًا بغياب حرية التجارة والاستثمار، وغياب الدعم الكافي من المجتمع الدولي. وفي مقابل هذه المعطيات، يتنامى الإحباط لدى فئاتٍ كثيرة من الشباب الذين يرون مستقبلهم في الهجرة، لولا أن الحدود مغلقة.

ما يعنيه هذا الواقع الإنساني والاقتصادي هو أنّ الحديث عن إعادة توطينٍ في دولٍ أخرى ليس مجرّد شعارٍ استعراضي؛ بل قد يُنظر إليه على نه طريقة للتخلص من “القنبلة السكانية” في غزة، بدلًا من السعي إلى رفع الحصار، وتطبيق القرارات الأممية التي تنصّ على حق العودة والتعويض؛ وبذلك يصبح السكان المُنهكون أصلًا عرضةً لمشاريع مختلفة تطرح نفسها حلولًا إنسانية “مُحسنة”، في حين أن جذور المشكلة تكمن في الاحتلال والحصار. ولطالما حذّرت منظمات حقوق الإنسان من مخططاتٍ إسرائيلية تهدف إلى تقليل الوجود الفلسطيني في الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية من خلال تكثيف القيود الاقتصادية والعسكرية.

في المحصلة، إنّ أي مشروعٍ يتحدث عن “إنقاذ غزة” لكنّه يتهرّب من معالجة جوهر الأزمة (وهو الحصار والاحتلال، وتبعات اللجوء) قد لا يكون سوى حلقةٍ جديدة من سلسلةٍ تاريخية تبرّز الجانب الاقتصادي أو التنموي، دون الالتزام بحقوق الشعب الفلسطيني الأساسية. هذا هو التحدّي الأكبر الذي يواجه أي مبادرةٍ دولية في المستقبل، ويجعل الرأي العام الفلسطيني متوجسًا من الطروحات التي يقدّمها قادةٌ أمريكيون لا يُخفون انحيازهم إلى إسرائيل.

السياق الأمني والعسكري.. تشابك الجبهات وتداعيات التصعيد   

لا يمكن فصل الأوضاع في غزة عن السياق الأمني والعسكري الأوسع في المنطقة، خاصةً أنّ القطاع يُعد إحدى أهم بؤر التوتر بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية المسلحة. بعد الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من غزة عام 2005، ظنّ البعض أنّ التهدئة قد تتحقق، لكن الواقع أثبت العكس؛ إذ اشتدّت حدّة العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد القطاع، وتتابعت جولات صراعٍ شرسة رافقها قصفٌ جوي وبري وبحري دمّر البنى التحتية، وأوقع آلاف القتلى والجرحى.

من ناحية إسرائيلية، تبرّر الحكومة هذه العمليات العسكرية بضرورة الرد على إطلاق الصواريخ من جانب الفصائل الفلسطينية التي تعدّها “منظماتٍ إرهابية”. وتتبنى إسرائيل سياسة “السور الحديدي”، أو ما يُعرف أحيانًا بـ”الجدار الحديدي” في العقيدة العسكرية، التي تقوم على مبدأ الحسم والقوة الرادعة إلى حين قبول الطرف الآخر بالشروط الإسرائيلية. لكن هذه الإستراتيجية لم تُنهِ المقاومة الفلسطينية؛ بل عزّزت شعبيتها في بعض الأوساط الفلسطينية والغزاوية على وجه التحديد، وخلقت واقعًا أكثر تعقيدًا، إذ تطورت قدرات الفصائل عسكريًّا مع مرور الوقت.

إقليميًّا، يُنظَر إلى غزة على أنها منطقة خطر دائم، وهذا يرتبط بعوامل عدّة، أبرزها:

  • تغيّر المزاج السياسي في المنطقة:

 مع انخراط بعض الدول العربية في موجة تطبيع مع إسرائيل، لم تعد القضية الفلسطينية مركز الاهتمام العربي كما في السابق؛ ما قد ينعكس على مدى توافر الغطاء السياسي والمالي للمقاومة.

  • التدخلات الإقليمية والدولية:
  • دولٌ مثل إيران وتركيا وقطر تؤدي دورًا في دعم المقاومة الفلسطينية ماليًّا أو سياسيًّا، فيما تحافظ دولٌ أخرى على علاقاتٍ وثيقة مع إسرائيل.
  • حروب الوكالة:
  • بعض الصراعات الإقليمية، كالذي يحدث في اليمن، وفي السابق في سوريا والعراق، قد ترتبط بأجنداتٍ أكثر تعقيدًا، تجعل غزة جزءًا من لعبة النفوذ الإقليمي بين إيران والسعودية وتركيا وإسرائيل.

إزاء هذا الواقع، فإن أي حديثٍ عن “إعادة توطين” سكان غزة سيصطدم بجدارٍ من التعقيدات الأمنية؛ فإسرائيل تُريد “تهدئة دائمة” وفق شروطها الأمنية، فيما ترى المقاومة الفلسطينية أي نقلٍ للسكان بمنزلة إخراجٍ لهم من المشهد تمهيدًا لإضعاف خيارات الكفاح. كما أنّ المنطقة تعجّ بقوى دولية، أبرزها الولايات المتحدة وروسيا، كلٌّ منهما تحاول رسم خريطة نفوذٍ في الشرق الأوسط؛ فإذا كانت واشنطن تقف تاريخيًّا إلى جانب إسرائيل، فإن موسكو تحاول استثمار أخطاء السياسة الأمريكية لتقديم نفسها وسيطًا قادرًا على تحقيق توازن في العلاقات مع مختلف الأطراف.

في حالة تجاهل هذه المعادلة العسكرية والأمنية المعقدة، سيظلّ كل مشروعٍ دولي مهددًا بالانهيار عند أول تصعيدٍ جديد، فلا بدّ من معالجة الإطار العام للصراع، بدءًا من إنهاء الحصار، مرورًا بالتعامل الجاد مع المطالب السياسية الفلسطينية، وصولًا إلى وضعٍ أكثر استقرارًا يضمن عدم تكرار الحروب، أو الإفراط في استخدام القوة. وبالإضافة إلى ذلك، ستبقى غزة عنوانًا لمعارك مستقبلية، تُستخدم فيها التصريحات الشعبوية -كتصريحات ترمب- وقودًا لاستقطابٍ دولي وإقليمي، من دون مراعاة الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية؛ ومن ثم، فلا عجب أن الموقف الروسي الراهن، وغيره من مواقفٍ دولية، يُنبّه لخطورة تبني خططٍ سطحية تُعالج النتائج دون الأسباب الجذرية، وتنزلق نحو تغييرٍ قسري لتركيبةٍ سكانية تشكّل جوهر معادلة الصراع.

الاستنتاجات

توضّح هذه النظرة الشاملة أنّ قضية غزة تنطوي على أبعادٍ تاريخية وسياسية وإنسانية وأمنية شديدة التعقيد، بما يجعل أي فكرةٍ تستهدف إعادة توطين سكان القطاع، أو تهجيرهم، مشروعًا محكومًا عليه بالفشل والرفض، فمنذ تأسيس القضية الفلسطينية، ظلّت غزة رمزًا لصمود اللاجئين أمام مخططات التصفية. ورغم الحصار الخانق والحروب المدمّرة، بقيت مكانًا يحمل ثقلًا سياسيًّا وشعبيًّا لا يمكن تجاوزه بقراراتٍ دولية، أو مبادراتٍ أحادية.

إنّ مقترحات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب تعكس توجهًا دوليًّا متصاعدًا نحو اختزال القضية الفلسطينية في حلولٍ اقتصادية أو “تنموية”، دون الالتفات إلى الحقوق الوطنية المشروعة. كما يتبيّن أنّ هذه المقترحات تتناغم مع رغبات إسرائيلية في إفراغ القطاع من جزءٍ كبيرٍ من سكانه، ما يشكّل خطرًا على مستقبل القضية برمّتها، ويزداد هذا الخطر إذا ترافَق مع تراجع التضامن العربي والإسلامي، وتشرذم المواقف الإقليمية، والانفتاح الواسع لبعض الدول العربية على إسرائيل بمعزلٍ عن التقدم في الملف الفلسطيني.

في المقابل، تظهر روسيا بوصفها لاعبًا دوليًّا ساعيًا إلى توظيف الخلل في السياسة الأمريكية لتوسيع نفوذه في الشرق الأوسط. وتؤكّد التصريحات الروسية الرافضة لطرح ترمب أنّ موسكو ترى فرصةً لتقديم نفسها شريكًا إستراتيجيًّا لدول المنطقة، فيما تبقى مواقف أوروبا والأمم المتحدة مترددةً وغير قادرة على بلورة مبادراتٍ فاعلة؛ لذا، قد تتكرّر مثل هذه المخططات، أو تبرز بأشكالٍ جديدة، ما لم يكن هناك توافقٌ دولي واضح على احترام القرارات الأممية، وضمان الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.

وعلى صعيدٍ إنساني واقتصادي، تظلّ الحاجة الملحّة في غزة هي رفع الحصار، وتوفير مقومات حياة كريمة للسكان، لا انتزاعهم من أرضهم، فكل الحلول التي تغفل جذور المسألة -من احتلالٍ وحصارٍ وحرمان من حق العودة- تفتح المجال لمزيدٍ من التوتر والعنف، وتجعل أي “تسوية” هشّة، وقابلة للانهيار. بعبارةٍ أخرى، إنّ التعامل مع غزة على أنها مشكلة ديموغرافية، أو قنبلة إنسانية موقوتة، ليس إلّا تحايلًا على حقائق أساسية حظيت بتوافقٍ عالمي، أبرزها حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

ختامًا، تُجمِع أغلب التحليلات على أنّ إنهاء مأساة غزة لا يمكن أن يتحقق إلا ضمن حلٍّ شامل للقضية الفلسطينية، يضمن السيادة للشعب الفلسطيني في دولةٍ مستقلة على حدود عام 1967، وعودة اللاجئين أو تعويضهم وفق قرارات الشرعية الدولية. وإن لم يتحقق ذلك، فإن أي “مقترحاتٍ” أخرى، من قبيل التهجير، أو الإدارات الدولية، ستظل حبرًا على ورق، أو بذرةً لمواجهةٍ جديدة. إنّ السياسة الدولية الحقيقية تُختبر بمدى التزامها بإنفاذ القانون الدولي، والوقوف على مسافة عادلة من حقوق الشعوب، وليس بدعم خططٍ قد تحرق ما تبقّى من آمالٍ في تحقيق السلام.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع