شكل استخدام الصين حق النقض (الفيتو) ضد مشروع القرار الأمريكي، يوم 26 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أقوى انخراط صيني في الحرب الإسرائيلية على غزة، ولم تستخدم الصين المصطلحات المعتادة في التعبير عن موقفها من تلك الحرب؛ بل أعلن وزير خارجيتها وانج يي- بكل وضوح، وفي أكثر من مناسبة- أن رد الفعل الإسرائيلي على هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) “يتجاوز حد الدفاع عن النفس”. ويتناقض موقف بيجين هذا مع السياسة الأمريكية الحالية تجاه الحرب في قطاع غزة؛ ولهذا أيدت الصين مرتين مشروعات القرارات التي تقدمت بها روسيا في مجلس الأمن لبناء مسارات إنسانية مستدامة لقطاع غزة، مع الدعوة إلى وقف كامل للحرب، وهو موقف يختلف مع السياسة الأمريكية التي ترفض تمامًا وقف الحرب في الوقت الحالي؛ لإعطاء إسرائيل الوقت الكافي للقضاء على حماس كما تزعم تل أبيب.
ورغم التحذيرات المشتركة الصينية الأمريكية في أثناء زيارة وانج يي لواشنطن، في الفترة من 26 إلى 28 أكتوبر (تشرين الأول) من توسع الحرب وتمددها في المنطقة، فإن الصين ألمحت أكثر من مرة إلى الدور السلبي الذي تؤديه الولايات المتحدة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، عندما قالت وزارة الخارجية الصينية في 14 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إنه يجب على واشنطن أن تؤدي “دورًا مسؤولًا” لوقف الحرب بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتعتقد بيجين أنه كلما تورطت واشنطن أكثر في الشرق الأوسط؛ كان ذلك في صالح الصين، فما الحسابات الصينية في الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزة؟ وهل تستطيع الصين أن تحقق “التوازن العالمي المطلوب” لحل القضية الفلسطينية؟
ظلت المنطقة العربية، وفي القلب منها فلسطين، والقضية الفلسطينية، “الرقم الصعب في “إدارة التنافس” الصيني الأمريكي خلال ربع القرن الأخير، فعندما شنت الولايات المتحدة حربها على الإرهاب، وأنفقت عليها تريليون دولار، أعطت بذلك فرصة للصين لكي تصعد بقوة نحو قمة قيادة الهرم العالمي، وفق حديث الرئيس جو بايدن، كما أن سياسة “الاستدارة شرقًا” التي أعلنتها هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، في عدد مايو (أيار) من مجلة “فورين بولسي”، عام 2010، كانت تعني أن الولايات المتحدة سوف تنقل قواتها وعتادها من “الشرق الأوسط” إلى جنوب آسيا وجنوب شرقها لمواجهة النفوذ الصيني؛ ولهذا تقوم الحسابات الصينية لما يجري الآن من دعم عسكري وسياسي أمريكي لإسرائيل على مجموعة من المعادلات، وهي:
أولًا: العودة الأمريكية إلى الشرق الأوسط: ترى الصين في إرسال الولايات المتحدة نحو 10 آلاف جندي أمريكي إلى المنطقة، منهم 5 آلاف على حاملة الطائرات جيرالد فورد، مؤشرًا على عودة أمريكية مرة أخرى إلى الشرق الأوسط، الذي كانت واشنطن تصفه بالعبء الكبير على السياسة الخارجية الأمريكية منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما. وترى الصين أن هذا تطور إيجابي جدًّا لصالحها؛ لأنه سوف يخفف من الحشد الأمريكي العسكري في شرق آسيا وجنوب شرقها، خاصة أن الحسابات الصينية تعتقد أن الزيادة في العتاد وعدد الجنود الأمريكيين في الشرق الأوسط لن يكون مؤقتًا، أو طارئًا، وسوف يستمر فترة طويلة، بما يفتح جبهة ثالثة للولايات المتحدة مع جبهتي أوكرانيا، وشرق آسيا.
ثانيًا: مكاسب للحلفاء: تفهم الصين أن ما يجري في المنطقة سوف يصب لصالح أحد حلفائها، وهو إيران؛ ولهذا تعتقد بيجين أن كل مستنقع جديد تدخله واشنطن في المنطقة العربية والشرق الأوسط، يخدم مصالحها، كما يوثق تحالف الصين غير المعلن مع إيران؛ ولهذا لا تخفي الصحافة الصينية سعادتها بتورط أمريكا من جديد في القضية الفلسطينية، وتؤكد أن الحرب الإسرائيلية في غزة سوف تقرب المسافات بين الأذرع المسلحة التابعة لإيران والصين، فجميع هذه الأذرع- بلا استثناء- أشادت بالتصريحات الصينية إزاء الحرب، وبموقف الصين في مجلس الأمن.
ثالثًا: الفشل الأمريكي في إجهاض المصالحة السعودية الإيرانية: لاحظت الصين في بداية الحرب على غزة أن الولايات المتحدة تدعي أن إيران هي من دفعت حماس إلى عملية “طوفان الأقصى”، وكان الهدف واضحًا، وهو إجهاض النجاح الدبلوماسي الصيني الذي تجلى في المصالحة السعودية الإيرانية في مارس (آذار) الماضي، لكن الاتصالات بين وزيري الخارجية السعودي والإيراني كشفت فشل واشنطن في التسويق لهذا الهدف، كما أن البيت الأبيض أقر بعد ذلك أنه لا توجد علاقة مباشرة بين إيران وقرار حماس بدء عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
رابعًا: الاستثمار في المقبولية الصينية: فالتصويت الصيني ضد مشروع القرار الأمريكي، ومطالبة بيجين لواشنطن بالتحلي بالمسؤولية تجاه ما يجري في قطاع غزة، واتهام الصين لإسرائيل بتجاوز حدود الرد على هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، كلها عوامل تزيد “المقبولية الصينية” في العالمين العربي والإسلامي، وخاصة في الإقليم العربي، والشرق الأوسط، في مقابل زيادة الرفض العربي للدور الأمريكي المنحاز بالكامل إلى إسرائيل.
خامسًا: صورة نمطية إيجابية عن الصين: فالحرب الإسرائيلية على غزة رسمت صورتين مختلفتين عن الصين والولايات المتحدة؛ فأصبحت صورة الصين في عيون المواطن العربي والشرق أوسطي أنها دولة مسؤولة تعمل على تحقيق وظيفة مجلس الأمن في تحقيق السلم والأمن الدوليين، في حين تساعد الولايات المتحدة على مزيد من عدم الاستقرار و “عسكرة” الشرق الأوسط والمنطقة العربية؛ من خلال إرسال كل هذه الأسلحة والذخيرة إلى المنطقة وإسرائيل.
المؤكد أن الصين لا تدعم استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتطالب بوقف هذه الحرب في أقرب وقت، لكن كل المعادلات والحسابات تقول إن ما جرى ويجري في المنطقة سوف يخفف من الضغط العسكري الأمريكي والغربي على الصين في بحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي، ومنطقة الآسيان، وكل إقليم جنوب آسيا وجنوب شرقها.