فوزي البدوي مفكر عربي تونسي، وأستاذ في الدراسات اليهودية ومقارنة الأديان في جامعة منوبة التونسية، إلى جانب عدة أعمال ومناصب أخرى أكاديمية. في الوقت الحالي، يتربع د. فوزي البدوي -بلا منازع- على عرش كبار أساتذة علم الاستهواد في العالم العربي، وله إسهامات كثيرة في هذا المجال الشديد الأهمية لنا نحن العرب على وجه الخصوص، في ظل ندرة المتخصصين العارفين بهذا الفن.
يفكك البدوي في محاضراته وكتاباته ولقاءاته المتعددة، الرواية الصهيونية اليهودية والمسيحية، في شقها الديني، والثقافي، والقومي، وكذلك أصحاب نظرية “التراث اليهودي المسيحي المشترك”، ويكاد يكون المقاوم الوحيد في هذا المجال وسط عشرات الأقسام في الكليات والمعاهد والجامعات الإسرائيلية التي تدرس وتحلل الحالة العربية الإسلامية، وارتباطاتها الخارجية مع الجامعات الغربية، التي تزودها بنظريات وأفكار عنا في ظل غيابنا عن هذا المجال.
ربما يعتقد بعضنا أن الصراع مع إسرائيل يكمن حله في المقاومة المسلحة، أو المقاومة السياسية من خلال التفاوض والنضال غير العنيف، ولا يدرك أن هناك معركة أخرى لا تقل قوة، وضراوة، وأهمية، في الحقل الفكري والثقافي والأكاديمي، تسهم في بناء نظريات تتحول فيما بعد إلى سياسات تؤثر في مجرى هذا الصراع. على سبيل المثال، يكفي أن نذكر أن الصهيونية فكرة خرجت من رحم بعض الجماعات المسيحية الإنجيلية والأنجليكانية، ثم زُرعت داخل بعض العقول اليهودية، وتُرجمت في النهاية إلى مشروع إقامة دولة لليهود على حساب العرب في فلسطين من خلال وعد بلفور، ونالت هذه الدولة الوليدة بفضل هذه الأفكار الدعم والحماية البريطانية، والفرنسية، ثم الأمريكية حتى الوقت الحالي. ولعلنا نذكر أيضًا كيف كان رئيس وزراء بريطانيا الأسبق تشرشل يفتخر بأنه صهيوني، وكذلك الرئيس الأمريكي الحالي بايدن، في تأكيد للولاء للفكرة التي تشكل دافعًا للدعم والتأييد والمساندة لإسرائيل، من ضمن عدة أسباب أخرى، وعن طيب خاطر يدفع المواطن الأمريكي تكلفة بقاء هذه الدولة من أموال الضرائب التي يدفعها.
يقدم البدوي تصورًا عصريًّا مبنيًّا على قواعد علم الأديان، أو “تاريخ الديانة” وتطورها، وصولًا إلى شكلها الحالي، والروابط بين الإسلام والمسيحية واليهودية، وتفكيك اللغط لدى البعض من خلال شرح نظرة الإسلام إلى اليهودية المسيهودية (أي تلك الجماعات اليهودية التي ظلت محتفظة بشريعتها وعاداتها اليهودية، مع إيمانها المسيحي الجديد) لا اليهودية التقليدية الحالية، وإلى المسيحية النصرانية، لا مسيحية كنيسة الأمم الحالية أيضًا، وكيف أن اليهودية التقليدية ومسيحية كنيسة الأمم الحاليتين لم يتطرق إليهما القرآن.
كما يشرح في نظريته كيف تمكن الإسلام من هضم الشريعة اليهودية واستيعابها بعد تنقيحها، دون أن يصبح استنساخًا يهوديًّا، والمسيحية بروحانياتها وأخلاقياتها مع الإيمان بالمسيح لكن وفق رؤية ونظرية مغايرة، ونقد نظرية الحصرية اليهودية عبر نظرية مضادة قائمة على أن البكورة في إسماعيل -وفق تقاليد الشرق القديم- تمنحه وبنوه الحق والإرث الأكبر لأبيه من إسحاق وبنيه، وتوسيع دائرة الإبراهيمية لتكون رسالة وعقيدة لا مجرد دعوة ضيقة محددة في قومية واحدة (اليهودية)، أو دين وحيد (المسيحية)، ومن خلال هذه العملية خرج المنتج النهائي البديع في شكل الإسلام، ليُكمل ما كان قبله، ويعترف بالمسيحية واليهودية، وبأنه المتمم لهما.
ينطلق البدوي مما سبق في شرح أهمية هذا السياق في المواجهة الحضارية والثقافية والسياسية لا الدينية فقط، التي خلاصتها أن العرب والمسلمين هم الوريث الشرعي لتراث الحضارات القديمة، وامتدادها اليوناني- الروماني، وعلى هذه الأسس انطلقوا وطوروا في الحضارة والمعارف الإنسانية حتى تسلم منهم الراية الغرب، ومن تراث المسلمين تم التطوير، وبدأ عصر النهضة الغربي وصولًا إلى اللحظة الحالية؛ وعليه، فالعرب شركاء أصيلون في الحضارة العالمية، وذوو عمق وجذور ممتدة حتى الحضارات الأولى المؤسسة، والممثل الشرعي الوحيد المتبقي في عالم اليوم للتراث اليهودي- المسيحي، وهو ما ينقض نظريات الصهيونية الثقافية المرتبطة بالإنجيليين وبعض اليهود، ويهدم الأساس الكامل لفكرة أرض الميعاد، والأحقية في أرض فلسطين، والتحالف المسيحي- اليهودي (المقصود بعض الفرق المسيحية وليس كلها، مثل الإنجيليين والبيوريتانيين والأنجليكانيين).
هذه الموضوعات كانت بحاجة إلى مفكر جريء يُلقي حجرًا في بركة الفكر العربي- الإسلامي الراكدة، التي اختزلت نقاش هذه القضايا من منظور ديني بحت، رغم أهميته وقدسيته، لكنه يخص المسلمين والمؤمنين منهم فقط، ولا يصلح للنقاش والجدل مع الآخرين. دراسة الدين وفق آليات تاريخ الأديان قائمة على أساس اعتبار الدين ظاهرة ثقافية واجتماعية، وفهم سياق ظهور الدين وتطوره، والمؤثرات السياسية والاقتصادية التي رافقت هذا التطور، ولا يُعد نقدًا للدين، أو انتقاصًا منه، حيث لا يتعرض علم الأديان للعقائد بالنقد، أو المدح، أو تفضيل عقيدة على حساب أخرى؛ بل محاولة فهم الدين وتأثيره وفق العناصر السابق ذكرها، والمشتركات والاختلافات بين الأديان، دون اختزال فهم الدين وفق مبدأ الإيمان والحقيقة المطلقة غير المُلزم لسوى معتنقيه من المؤمنين به.
في نقاش شخصي مع د. فوزي البدوي، شرح -بوضوح- جوهر مشروعه، الذي يريد من خلاله إخراج المسلم من وضعية “المسلم الحزين” الذي تحدث عنه المفكر والدبلوماسي المصري حسين أحمد أمين، وما يبدو لأول وهلة للبسطاء أنه رؤى استشراقية معادية للدين، وهو في الحقيقة تمكين للمسلمين من تقوية جهاز المناعة لديهم من أجل الوقوف في وجه المسيهودية الجديدة التي تقود من جهة التنظير العالمي لما تراه “حقًا” لإسرائيل في الولايات المتحدة وأوروبا. باختصار، كما يقول البدوي: “جوهر مشروعي هو استيعاب النقد التاريخي الحديث في أشد صوره فتكًا، وإعادة بناء إسلام قادر على مواجهة هذا كله، في ظل أن كثيرًا من الناس في العالم العربي لا يدركون أهمية هذا الهدف الإستراتيجي”.
يرى البدوي أن المؤسسات الدينية التقليدية ليس من مهمتها التصدي لهذه الأفكار الصهيونية، التي تريد إخراج العرب والمسلمين من سياق الحضارة العالمية، وتصوير إسرائيل على أنها جزيرة للاستقرار والتقدم والحداثة، والجزء الوحيد من الحضارة العالمية وسط محيط من الفوضى و”البرابرة” غير المرتبطين بهذا السياق الحضاري، وهو ما عبّر عنه نتنياهو بوضوح في خطابه الأخير أمام الكونغرس الأمريكي. وفق هذه النظرية، لا بد أن يكون لإسرائيل معاملة تفضيلية خاصة، واعتبارها الحليف الوحيد الجدير بالدعم اللا متناهي من أمريكا والغرب الجماعي.
تعتمد رؤية البدوي على أن الدولة الحديثة هي المنوط بها إقامة هذه الجامعات المتخصصة في الفكر الإنساني، وتقديم رؤيتها وفق معايير العلم لا العقائد، أو تفتح المجال لحرية قيام هذه الجامعات ومراكز الفكر دون اعتراضها.
في النهاية، أتمنى أن يلقى مشروع فوزي البدوي الدعم المطلوب، وأن تُجمَع جهوده مع جهود من سبقوه، ومن يشاطرونه الرؤية نفسها؛ لتأسيس مدرسة عربية في هذا المجال، وقد كان للقاهرة السبق عربيًّا في دراسة اليهودية والعبرية، تليها دمشق وبغداد وتونس، كما أن روسيا لديها مدرستها الخاصة أيضًا في هذا المجال، ويمكن الاستفادة من تجربتها، خاصةً أن روسيا معنية على نحو مباشر بمأساة فلسطين؛ لما عاناه اليهود فيها من اضطهاد في العصر الإمبراطوري، ورغبتهم في الخلاص من هذا السجن الكبير.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.