أبحاث ودراسات

المحددات الجديدة في إستراتيجية الصين تجاه دول آسيا الوسطى


  • 8 يناير 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: avim.org.tr

يمثل النفوذ الصيني المتزايد في آسيا الوسطى نقطة تحول إستراتيجية في مساعي بكين لتحدي النظام العالمي الذي لا تزال الولايات المتحدة تقوده إلى حد كبير. ومن خلال مبادرة الحزام والطريق ومنظمة شنغهاي للتعاون، تعمل الصين على فرض نفسها لاعبًا مهيمنًا في منطقة كانت تحت سيطرة روسيا فترة طويلة، ومع تحول تركيز موسكو بسبب حربها في أوكرانيا، تستغل الصين هذه اللحظة لتعميق العلاقات مع جمهوريات آسيا الوسطى، إذ يخدم هذا التوسع الإستراتيجي غرضًا مزدوجًا لبكين يرتبط بتأمين حدودها وتعزيز طموحاتها للزعامة العالمية، ولكن مع تحول التحالفات وتداخل المصالح، يطرح هذا تساؤلات جوهرية، من قبيل: كيف ستوازن الصين تطلعاتها في آسيا الوسطى في ظل علاقتها الدقيقة مع روسيا؟ وما الأخطار والمكاسب التي تأتي مع هذا الدفع الإقليمي؟

ملامح الحقبة الجديدة بين الصين وآسيا الوسطى

استجابةً للاتجاه التاريخي السائد، والاحتياجات العملية للتعاون بين الصين والجمهوريات الخمس، أُنشئت آلية الصين وآسيا الوسطى، حيث شهدت مدينة تشنغدو الاجتماع الخامس لوزراء خارجية الصين وآسيا الوسطى في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، عملت الدول الست معًا على تعزيز تطوير ونمو الآلية، وبموازاة هذا رفعت القمة الرئاسية الأولى بين الصين ودول آسيا الوسطى التي عُقدت بمدينة شيآن الصينية  في مايو (أيّار) 2023 آلية الصين وآسيا الوسطى إلى مستوى رؤساء الدول، إيذانًا ببداية عصر جديد في تطوير العلاقات بين الطرفين، يمكن الوقوف على أبرز مقوماته فيما يلي:

  • خطة التنمية الشاملة: تعمل الصين على تنسيق إستراتيجيات التنمية مع دول آسيا الوسطى الخمس، وبذل جهود مشتركة لتعزيز التعاون التكاملي في المنطقة، حيث أعلنت بكين رفع مستوى الاتفاقيات الثنائية في مجال الاستثمار مع دول آسيا الوسطى، وزيادة حجم الشحن عبر الحدود مع المنطقة على نحو شامل، فضلًا عن تشجيعها الأعمال التجارية الممولة في آسيا الوسطى للمساعدة على خلق مزيد من فرص العمل المحلية، وبناء مستودعات خارجية في المنطقة، وإطلاق خدمة قطارات خاصة تهدف إلى تعزيز السياحة الثقافية في آسيا الوسطى، إذ سجلت التجارة بين الصين وآسيا الوسطى رقمًا قياسيًّا بلغ 70 مليار دولار العام الماضي، وجاءت كازاخستان في المقدمة بمبلغ 31 مليار دولار.
  • اتفاقيات جديدة للتعاون الإستراتيجي: تضمن إعلان شيآن إقامة أمانة دائمة لآلية التعاون بين الجمهوريات الخمس والصين في جميع المجالات، مع إعطاء الأولوية للنقل والاقتصاد والتجارة، وأعلن الرئيس الصيني أن بكين ستنفق 26 مليار يوان على تنفيذ البرامج المحددة بالقمة، وستقدم 3.7 مليار دولار مساعدات مالية ودعمًا مجانيًّا لدول المنطقة، وبناءً على هذا، وقعت بكين مع الدول الخمس على سبع وثائق ثنائية ومتعددة الأطراف، وأُعلن افتتاح قنصلية كازاخية جديدة بمدينة شيآن، وهي الثالثة بالصين، وأُطلق عام 2024 ليكون عام السياحة الكازاخستاني في الصين، ووقعت بكين وأستانا اتفاقية للإعفاء المتبادل من التأشيرات، وهي الأولى بين بكين وإحدى دول المنطقة.

وفي هذا الإطار، وُضِعَ حجر الأساس في 27 ديسمبر (كانون الأول) المنصرم، لبناء خط سكك حديدية جديد يربط الصين بدول آسيا الوسطى، خاصةً قرغيزستان وأوزبكستان، ويهدف المسار الجديد، الذي يعد جزءًا من جهود التوسع الاقتصادي للصين، إلى توسيع النفوذ التجاري الصيني في آسيا الوسطى وأوروبا مع تجاوز الأراضي الروسية، حيث سيتضمن الطريق الجديد توريد البضائع من الصين إلى قرغيزستان، ومنها إلى آسيا الوسطى ودول أخرى، منها تركيا والاتحاد الأوروبي.

  • تدشين الشراكات الاقتصادية: حملت النسخة الأولى من منتدى التعاون الصناعي والاستثماري بين الصين ودول آسيا الوسطى في فبراير (شباط) 2023 رسالة الرئيس الصيني لدول آسيا الوسطى عن رغبة بلاده في تعميق التعاون بمجالات الصناعة، ونقل التكنولوجيا المتقدمة، وتعزيز التكامل الصناعي الإقليمي، بالإضافة إلى الزيارات الخارجية للرئيس الصيني شي جين بينغ في سبتمبر (أيلول) 2022، لكازاخستان، ثم أوزبكستان؛ لحضور اجتماع منظمة شنغهاي للتعاون، إذ مثلت هذه الزيارة أهمية محورية؛ لأنها جاءت في إطار مشهد جيوسياسي عالمي معقد،  يرتبط بتطورات الحرب الروسية الأوكرانية، كما كانت الزيارة الأولى للرئيس الصيني منذ انتشار جائحة كورونا.
  • قيادة الترتيب الإقليمي الجديد: تمتلك الصين ميزة نسبية تجعلها تتفوق على الولايات المتحدة في أي صراع محتمل على النفوذ في المنطقة؛ فبالإضافة إلى التكتلات الإقليمية القائمة بين الصين والجمهوريات الخمس، تلتقي الصين جغرافيًّا مع ثلاث من دول آسيا الوسطى، هي كازاخستان، وطاجيكستان، وقرغيزستان؛ لذا يوفر التعاون مع بكين انطلاقًا من التشابك الجغرافي وقدرات الصين التمويلية الضخمة آلية للنمو والاستقرار؛ ما يجعل الصين مؤهلة لبسط نفوذها في المنطقة، مستغلة إغفال الولايات المتحدة لأهمية الجمهوريات الخمس، وضعف روسيا في القيام بالتزاماتها التاريخية نحو تلك البلدان.

مكاسب بكين من آسيا الوسطى

تُعد جهود الرئيس شي المتنوعة في ترسيخ النفوذ الصيني في المنطقة بمنزلة رسالة صريحة بأن الصين ترى في الجمهوريات الخمس مجال نفوذها؛ لذا تتمثل أبرز مكاسب الصين من تعزيز علاقاتها مع دول آسيا الوسطى في:

  • أمن الطاقة: تتمتع دول آسيا الوسطى باحتياطيات وافرة من الوقود الهيدروكربوني؛ ومن ثم فهي ذات أهمية حيوية لتنويع مصادر الطاقة المحلية في الصين، حيث تتمتع هذه الدول باحتياطيات نفط مؤكدة تقدر بنحو 40 مليار برميل، واحتياطيات غاز طبيعي تزيد على 500 تريليون قدم مكعبة؛ ومن ثم يمكن لجمهوريات آسيا الوسطى مساعدة بكين على تقليل اعتمادها على غرب آسيا للحصول على الطاقة. وفي ضوء ارتفاع أسعار الطاقة عالميًّا بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، والحرب الإسرائيلية الدائرة، أصبحت كازاخستان أكثر أهمية للصين، خاصة أنها تمتلك نحو 40% من احتياطيات اليورانيوم في العالم، وهو مورد حيوي لبكين؛ ومن ثم فإن حفاظ الصين على علاقات وطيدة مع كازاخستان يعد أمرًا ضروريًّا لتأمين مصادر الطاقة، سواء التقليدية أو المتجددة.
  • مبادرة الحزام والطريق:  بسبب تمتع آسيا الوسطى بموقع إستراتيجي متميز؛ لأنها تربط الصين بأوروبا والشرق الأوسط، أصبحت الجمهوريات الخمس جزءًا حيويًّا من هذه المبادرة، إذ تمتلك شبكة من الممرات التجارية، يمكن للصين أن تستخدمها كطرق بديلة لنقل الوقود والغذاء وسلع أخرى في حالة حدوث اضطرابات عالمية.
  • معضلة الأمن: يقطن في دول آسيا الوسطى نحو نصف مليون من طائفة الإيغور المسلمة؛ مما دفع الصين إلى إدراك أهمية توطيد علاقتها بدول هذه المنطقة؛ بهدف تأمين حدودها، والتأكد من عدم حصول الإيغور داخل الصين أو في آسيا الوسطى على أي دعم من شأنه أن يشجع انفصالهم عن بكين، خاصةً دعم كازاخستان التي تشترك مع الصين في حدود يبلغ طولها أكثر من 1000 ميل، وهي الدولة الملاصقة لإقليم شينجيانغ الذي تقطنه أقلية الإيغور.
  • تعزيز التعاون الدفاعي بين الصين ودول آسيا الوسطى في مجال مكافحة الإرهاب؛ لذا وثقت بكين ودوشنبه تعاونهما الأمني والعسكري لمواجهة تسلل العناصر من أفغانستان إليها، وبنت الصين قاعدة لحرس الحدود في طاجيكستان، وشارك منذ عام 2016 عشرة آلاف جندي وضابط من الصينيين والطاجيك في تدريبات مقاومة الإرهاب، ثم أسست بكين آلية التعاون والتنسيق الرباعي مع طاجيكستان وباكستان وأفغانستان لضمان الأمن في المنطقة، كما تبحث الصين حاليًا تطوير تلك الآليات في ظل البيئة الأمنية المضطربة في المنطقة.

تحديات الطموح الصيني في آسيا الوسطى

يختلف حضور الصين في آسيا الوسطى عن امتدادها في مناطق أخرى، ارتباطًا  بالاستثمارات المتزايدة، والتركيز الأكبر على الأمن، غير أن هذا الانخراط مرتبط بعدد من المعوقات التي تقيد نشاط الصين في الجمهوريات الخمس، وهي على النحو التالي:

  • التحدي الأمني: تمثل الأقليات العرقية والدينية في دول آسيا الوسطى أدوات ضغط محتملة على مستقبل بكين في تلك المنطقة، حيث تصر الجمهوريات الخمس ذات الأغلبية المسلمة على إدانة انتهاكات الصين في حق أقلية الإيغور المسلمة، كما قد يتصاعد هذا الرفض إلى استهداف المصالح الصينية في بلدان آسيا الوسطى، كما حدث في عام 2020 عندما هاجم المتظاهرون القيرغيز اثنين من مناجم الذهب التي تديرها الشركات الصينية، هذا فضلًا عن احتمالات حدوث أعمال إرهابية تهدد استقرار بكين في المنطقة، لا سيما في ظل انتشار التنظيمات الإرهابية في بلدان آسيا الوسطى؛ ما يرفع احتمالية تسلل المقاتلين الأجانب عبر تلك الدول إلى الصين.
  • التنافس الإقليمي: تفتقد منطقة آسيا الوسطى قيادة إقليمية واضحة تحول دون حدوث فراغ إذا ما تراجع الغطاء الأمني الروسي تحت مظلة معاهدة الأمن الجماعي، وفي هذا السياق سيتصاعد التنافس الأمريكي الصيني على النفوذ الاقتصادي والتعاون الأمني؛ مما سيوفر لدول المنطقة حيز مناورة بين الشركاء المتنافسين، وتسعى الصين إلى أن تحل محل النفوذ الروسي، وأن تحيّد الدور الأمريكي، غير أن الهند لا تزال الخصم التقليدي للصين، التي بدأت تعزز تعاونها مع دول المنطقة، خاصةً في ظل منظمة شنغهاي التي تتمتع تلك الدول بعضويتها، بالإضافة إلى التعاون الصيني الأفغاني المتصاعد الذي يمثل تهديدًا للهند أيضًا.

وفي هذا الصدد،  تسعى الصين إلى بناء محور سياسي جديد بجنوب آسيا يضم الصين وباكستان وأفغانستان، وربما تضم إليه بلدان آسيا الوسطى، وهذا سيضمن دعمًا إقليميًّا سياسيًّا لمواقف بكين الإقليمية ضد منافسيها. كما أن تعزيز التعاون الثقافي، وإحياء التاريخ الصيني الآسيوي المشترك، سيعززان التنافس بين تركيا والصين في تلك المنطقة؛ حيث تسعى الأولى إلى تأكيد الروابط والجذور التاريخية التركية لآسيا الوسطى في ظل عضوية هذه الدول في منظمة الدول التركية، فضلًا عن احتمالات التنافس على المشروعات الاقتصادية لنقل الطاقة، والتحكم في الممرات الجيوسياسية بين بكين وأنقرة وموسكو.

  • تغيّر الرؤى السياسية: تتوافق النخب السياسية الحاكمة حاليًا في آسيا الوسطى مع بكين؛ إذ تجمع بينها وبين الرئيس الصيني علاقات متميزة، بيد أنه إذا تغيرت تلك التوافقات بفعل الانتخابات، أو تغير رؤية القيادة السياسية، أو الاضطرابات المتكررة في دول آسيا الوسطى، فإن ذلك سيعرقل تنفيذ الاتفاقيات الطويلة المدى مع الصين، لا سيما إذا تبنت النخب السياسية الجديدة لتلك الدول أفكارًا مناوئة لبكين، وربما كان هذا دافع الرئيس شي للتحذير من الثورات الملونة التي شهدتها المنطقة.
  • التحول إلى التعاون الدفاعي: طرح الرئيس الصيني في القمة الرئاسية الأولى بين الصين ودول آسيا الوسطى استعداد بلاده لمساعدة الجمهوريات الخمس على تحسين قدراتها في مجال إنفاذ القانون والأمن والدفاع، إذ تعد تلك المرة الأولى التي يطرح فيها رسميًّا تطوير التعاون الدفاعي بين الجانبين، وهو ما يمثل تهديدًا مباشرًا لروسيا التي تمتلك في تلك البلدان قاعدتين عسكريتين في طاجيكستان وقرغيزستان، كما تحظى دول المنطقة بتسليح روسي منذ الحقبة السوفيتية، وتندرج معظمها تحت منظمة معاهدة الأمن والتعاون الجماعي بقيادة روسيا، وتنفذ عشرات المناورات مع موسكو سنويًّا؛ ومن ثم فإن التعاون الدفاعي مع بكين سيمثل تنافسًا للوجود الروسي العسكري في المنطقة، وهو ما يفاقم حدة التنافس الصيني الروسي على زعامة المنطقة.

الخاتمة

تفضل دول آسيا الوسطى الحفاظ على علاقات إيجابية مع كل الشركاء الدوليين والإقليميين؛ خوفًا من الانخراط لمصلحة قوة على حساب أخرى، لكن في سياق التنافس الاقتصادي، تكتسب الصين أولوية كبرى في إطار مبادرة الحزام والطريق التي تعزز الترابط بينها وبين الجمهوريات الخمس، خاصة كازخستان، التي تمثل محور المشروعات الحيوية  في آسيا الوسطى. فضلًا عن هذا، يرتبط أمن المنطقة وازدهارها الاقتصادي بتشابك مصالحها مع منطقة جنوب القوقاز في إطار محور الصين- أوروبا؛ ما يعظّم تحديات التحركات الطموحة للصين في بلدان آسيا الوسطى في ظل التصعيد المنتظر لمواجهة مؤشرات التنافس الجديدة التي وضعتها بكين في مقابل القوى الإقليمية والدولية بهدف بسط النفوذ في المنطقة.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع