مقالات المركز

ملفات معقدة وغياب رؤية وجمود سياسي

المبعوثة الأممية الجديدة إلى ليبيا


  • 30 يناير 2025

شارك الموضوع

ما زال المشهد العام في ليبيا يمر بمرحلة ضبابية، وحالة من الجمود السياسي المتزايد من جرّاء تصرفات الأطراف المحلية، سواء السياسية أو العسكرية، التي تتصارع من أجل النفوذ والسيطرة والمال، وفي ظل هذا التنازع تختفي أبجديات التحول الديمقراطي، وانتقال ليبيا إلى دولة قوية ذات سيادة وأمن قومي مَصون.

ويأتي الدور الأممي في ليبيا ليحاول تحريك مياه راكدة أزكمت رائحتها أنوف المواطنين، سواء بضغطه على الأطراف المحلية، أو انتهاجه إستراتيجية الترضية والمحاصصة، أو استعمال عصا التجاوز والتلويح برفع غطاء الشرعية.

وحضر الدور الأممي في ليبيا منذ الإطاحة بنظام العقيد الراحل معمر القذافي، بالمراقبة في بداية الثورة الليبية، ثم الانتقال إلى تعيين مبعوث أممي خاص للدولة الليبية، تتلخص مهمته في تحقيق حالة توافق وتسوية سياسية، ومراقبة الوضع السياسي والأمني، وضمان عدم انفجاره والعودة إلى الصفر، لكن إخفاقات المبعوثين الأممين توالت مع توالي تعيين شخصيات مختلفة، وهذا نابع من تعقيدات المشهد الليبي من جانب، وصيرورة الأحداث وتسارعها من جانب آخر بوتيرة تفوق الخبرات المتراكمة لكل من وُجِدُوا على رأس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.

من المراقب إلى المشارك

وسرعان ما انتقلت منظمة الأمم المتحدة من دور المراقب للشأن الليبي إلى المنخرط فيه والمشارك من خلال تعيين مبعوث رسمي للأمين العام للأمم المتحدة، وبدأ سيل المبعوثين بتعيين البريطاني إيان مارتن، في سبتمبر (أيلول) 2011، رئيسًا لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وبدأ الرجل خطواته عبر إستراتيجية التدريب الأمني، إذ درَّب أفراد الأمن المحليين للإعداد لأول انتخابات برلمانية تشهدها البلاد.

وبعد الانتخابات التشريعية الأولى في ليبيا، وتسلُّم المؤتمر الوطني مهامه رسميًّا من المجلس الانتقالي، عُيّن اللبناني طارق متري رئيسًا لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، على أمل أن تسعفه خبرته الدبلوماسية وإدارته للنزاع، في إحداث اختراق للمشهد الضبابي والمحتقن في ليبيا، لكن الاشتباكات والحروب والاقتتال بين معسكري الشرق والغرب قضى على كل الآمال.

ومن الدبلوماسية اللبنانية إلى الإسبانية؛ إذ عُيّن الدبلوماسي والسياسي الإسباني برناردينو ليون ممثلًا خاصًّا للأمين العام للأمم المتحدة، ورئيسًا للبعثة الأممية في ليبيا، في أغسطس (آب) 2014، وكان الهدف حينذاك إجراء حوار ومفاوضات سياسية، بعيدًا عن فوهة البنادق، وبالفعل وصلت البلاد إلى اتفاق سياسي وُقِّعَ بمدينة الصخيرات في المغرب 2015، وما زالت البلاد تسير على ضوء مواده ومخرجاته حتى الآن.

ورغم نجاحاته في رعاية الحوار وصولًا إلى الصخيرات، غادر ليون منصبه ليعيّن الأمين العام للأمم المتحدة، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، الدبلوماسي الألماني مارتن كوبلر ممثلًا خاصًّا ورئيسًا لبعثة الأمم المتحدة في ليبيا، وكانت فترة توليه المنصب من أصعب الفترات، حيث فوضى السلاح والتنظيمات الإرهابية؛ ما جعل بصمته القوية لا تظهر في إنجاز ما يمكن أن يحرك المشهد إيجابًا، ليغادر منصبه في عام 2017.

بعد ذلك عادت الأمم المتحدة إلى الدبلوماسية اللبنانية مرة أخرى من خلال تعيين الدبلوماسي اللبناني غسان سلامة ممثلاً خاصًّا للأمين العام للأمم المتحدة حينذاك، أنطونيو غوتيريش، في 22 يونيو (حزيران) 2017. وكالعادة واجه سلامة إشكالية استمرار حالة الاقتتال والاحتراب التي وصلت إلى ذروتها في عام 2019، وبعدها هاجمت قوات القيادة العامة بشرق البلاد، بقيادة خليفة حفتر، العاصمة طرابلس، وانتهت بعودة قواته بعد تدخل تركي ما زال موجودًا حتى اللحظة.

بعد ذلك عُيِّنَ وزير خارجية سلوفاكيا السابق يان كوبيتش لقيادة البعثة في ليبيا منتصف يناير (كانون الثاني) 2021، وكانت مهتمه تتلخص في تهيئة البلاد لانتخابات في عام 2021، لكنه فشل في ذلك؛ ما دفع الأمين العام إلى تعيين الدبلوماسية الأمريكية ستيفاني ويليامز مستشارةً خاصة له بشأن ليبيا، التي نجحت في وضع خريطة طريق مع أعضاء الملتقى السياسي الليبي، نتج عنها تشكيل مجلس رئاسي جديد، وحكومة وحدة وطنية، وتحديد موعد للانتخابات يوم 24 ديسمبر (كانون الأول) 2021، لكن حتى الآن لم تعرف ليبيا صناديق الانتخابات العامة.

وغادرت ستيفاني ويليامز ليأتي مكانها الدبلوماسي السنغالي عبد الله باتيلي في منصب رئيس البعثة الأممية لدى ليبيا، وبعد جولات شرقًا وغربًا وجنوبًا يقدم باتيلي استقالته من منصبه، وتظهر الدبلوماسية الأمريكية الجديدة ستيفاني خوري في منصب المبعوث الأممي بالإنابة، وتطرح مبادرة للحل في ليبيا.

مبعوث جديد.. ما الجديد لديه؟

وبعد أيام من طرح مبادرة خوري للحل في ليبيا، قرر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، تعيين الوزيرة الغانية السابقة هانا سيروا تيتيه مبعوثة أممية جديدة إلى ليبيا، خلفًا للسنغالي عبد الله باتيلي، الذي استقال من المنصب في شهر أبريل (نيسان) 2024، على أن تستمر الدبلوماسية الأمريكية ستيفاني خوري في منصبها نائبة للمبعوثة الجديدة.

ولاقى القرار ترحيبًا ودعمًا من عدة جهات محلية ودولية، فقد رحبت بعثة الاتحاد الأوروبي لدى ليبيا بالخطوة، مؤكدة دعمها لجهود الوساطة التي تبذلها الأمم المتحدة، والتزامها بحل سياسي مستدام، في حين أكد السفير البريطاني لدى ليبيا، مارتن لونغدن، تطلع بلاده إلى مواصلة شراكاتها الوثيقة مع البعثة الأممية لدعم حل سياسي شامل في ليبيا.

وكسابقيها، ستجد المبعوثة القادمة من إفريقيا عدة ملفات غامضة ومتشابكة، وستلتقي بأطرف ما زالت متعنتة، لكن حتى الآن لم نعرف بعد الرؤية والإستراتيجية التي ستتبناها “تيتيه” في التعامل مع التعقيدات الليبية المتراكمة، وأدواتها في فك حالة الجمود المتزايدة.

“تيتيه” ستأتي إلى ليبيا لتجد هذا المشهد باختصار:

  • لدينا حكومتان تتنازعان الشرعية؛ حكومة الوحدة برئاسة الدبيبة تعتمد على شرعيتها الدولية وعلاقاتها الخارجية، وتتمترس في طرابلس وبعض مناطق الجنوب، وحكومة الاستقرار برئاسة أسامة حماد، وهي مدعومة من مجلس النواب ومن المشير خليفة حفتر، وتتمترس في شرق البلاد وأغلب مناطق الجنوب.
  • لدينا مجلس نواب يعقد جلساته في شرق البلاد فقط، لكنه ما زال متحدًا رغم ما مرَّ به من حالة انقسام سرعان ما عالجها، ينسق أحيانًا مع المجلس الأعلى للدولة، وأحيانًا يعارضه ويتجاوزه ويصادمه.
  • لدينا المجلس الأعلى للدولة ومقره طرابلس، وهو الآن انقسم إلى جزأين: مجموعة تعتبر “خالد المشري” رئيسًا فائزًا في انتخابات أغسطس (آب) 2024، وأخرى تتبع “محمد تكالة” وتراه الرئيس الشرعي المستمر؛ لعدم شرعية الانتخابات.
  • عسكريًّا، ستجد “تيتيه” رئاسة أركان في غرب البلاد تتبع المجلس الرئاسي الليبي الذي يؤكد أنه صاحب صفة “القائد الأعلى للجيش”، وشرقًا ستجد رئاسة أركان وقيادة عامة برئاسة المشير خليفة حفتر، الذي يعد الحاكم الفعلي في شرق ليبيا، لكن هناك أيضًا عقيلة صالح، رئيس البرلمان، الذي منح نفسه صفة “القائد الأعلى للجيش الليبي”، لكن حتى الآن يوجد اتفاق وقف إطلاق النار بين الطرفين، وتضمنه اللجنة العسكرية المشتركة 5+5.
  • انتخابيًّا، لدينا قوانين انتخابية أقرتها لجنة تسمى 6+6 مشكلة من مجلسي النواب والدولة، يؤكد البرلمان أنها قوانين محصنة لا يمكن تعديلها، وبعض المعترضين في المجلس الأعلى للدولة يرون أنها قوانين معيبة، ويجب تعديل النقاط الخلافية فيها.
  • أمميًّا، لدينا مبادرة للمبعوثة بالإنابة ستيفاني خوري، ملخصها تشكيل لجنة استشارية تكون مهمتها مراقبة تشكيل حكومة موحدة، وتعديل القوانين الانتخابية، والمضي قدمًا نحو الانتخابات والاستقرار.

ما سبق هو الجزء الأكبر من التركة التي ستتعامل معها المبعوثة الأممية الجديدة، وحتى تنجح؛ فإن عليها أن تلتزم برؤى مختلفة وإستراتيجيات جديدة رادعة للأطراف المحلية. ويمكن تلخيص أدوات النجاح في:

  • تبني إستراتيجية قوية وملزمة للجميع بتوقيتات زمنية محددة تتم برعاية البعثة الأممية وإشرافها، وجمع كل أطراف المشهد من حكومتين ومجلسين وجيشين ليوقعوا على اتفاق أقوى من الصخيرات، يُنجَز بعده ما تبقى من خطى.
  • الابتعاد تمامًا عن نهج سياسة الترضية والمحاصصة؛ من أجل ضمان عدم عرقلة الخطى، أو اعتراض طرف وتعنته، وعدم قبول الابتزاز المناطقي، والقبلي، والعسكري.
  • تحشيد موقف دولي وإقليمي لدعم أي خطوة تتخذها البعثة لتُقنع هذه القوى الدولية والإقليمية أو تضغط على حلفائها في الداخل للقبول بها.
  • تبني موقف دولي موحد تجاه الملف الليبي، يكون شعاره “الانتخابات والاستقرار” فقط، بعيدًا عن مارثون تصفية الحسابات عبر منصة مجلس الأمن، وتحويل أراضي ليبيا إلى ساحة حروب بالوكالة.
  • توقيع ميثاق شرف والتزام من كل الأطراف بكل خطوة تُنجز، والتلويح بعقوبات دولية حقيقية لكل من يتعنت أو يربك المشهد بقرارات سياسية أو عسكرية.

وعليه

فإن مهمة المبعوثة الجديدة صعبة جدًّا؛ لأنها تأتي في ظل تناحر وجمود سياسي وعسكري قابل للانفجار في أي لحظة؛ لذا فإن التلكؤ والخطى الباردة والبطيئة ستسمح لهؤلاء الفوضويين بتنفيذ مخططاتهم؛ لأن الفوضى والصدام والإرباك إستراتيجيات جربتها بعض الأطراف المحلية، ونجت في إبقائها في المشهد سنوات؛ لذا فإن على “تيتيه” -ومن قبلها المجتمع الدولي- قطع الطريق على كل هؤلاء، واتخاذ خطوات استباقية لإفشال مخططاتهم في إدخال البلاد في مراحل انتقالية تضمن استمرارهم في مناصبهم؛ وهنا قد تنجح “تيتيه”، وإلا  فسيكون المصير كمن مرَّ من منصبها نفسه، وغادر بلا بصمة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع