
شهدت القاهرة يومي 19 و20 ديسمبر (كانون الأول) 2025 انعقاد المؤتمر الوزاري الثاني لمنتدى الشراكة الروسية- الإفريقية، بمشاركة رفيعة المستوى من أكثر من 50 دولة إفريقية، وحضور واسع على المستوى الوزاري، إلى جانب عدد من رؤساء المنظمات الإقليمية. يأتي تنظيم هذا الحدث الكبير في مصر استكمالًا للزخم الذي أرساه المؤتمر الوزاري الأول للمنتدى الذي عُقد في مدينة سوتشي الروسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، ويهدف إلى تعزيز التعاون والشراكة بين إفريقيا وروسيا في مختلف المجالات. ركزت النسخة الثانية من المؤتمر الوزاري على دفع أوجه التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري، فضلًا عن دعم الاستقرار والسلم والأمن في القارة الإفريقية، وتحقيق التنمية المستدامة. وناقش المؤتمر سُبل تطوير التعاون المشترك في مجالات حيوية، مثل التجارة والاستثمار والطاقة والبنية التحتية، إلى جانب القضايا ذات الاهتمام المشترك المرتبطة بالأمن والاستقرار في إفريقيا، بما يسهم في دعم جهود السلم والتنمية، وتعزيز شراكة إفريقية- روسية مستدامة تحقق المصالح المشتركة للجميع. وعلى هامش المؤتمر، نُظِّمَ حدثان جانبيان أحدهما تناول دور الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية في تعزيز التعاون مع الدول الإفريقية، والآخر بحث آفاق التعاون الثلاثي، وسبل تحقيق التنمية الشاملة.
يهدف منتدى الشراكة الروسية- الإفريقية، الذي انطلق أول مرة عام 2019، وقد شهد ذلك العام انعقاد أول قمة روسية- إفريقية في سوتشي برئاسة مشتركة بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين أرست حجر الأساس لهذا المنتدى، إلى تعزيز التعاون الروسي الشامل مع دول إفريقيا بجميع أبعاده السياسية والأمنية والاقتصادية والعلمية والتقنية والثقافية والإنسانية. في نسخته الوزارية الثانية المنعقدة بالقاهرة، سعى المنتدى إلى البناء على ما تحقق في القمة الروسية- الإفريقية الأولى (سوتشي 2019) والثانية (سانت بطرسبورغ 2023) التي شهدت اعتماد خطة عمل مشتركة للشراكة للأعوام من 2023 إلى 2026، وكذلك على مخرجات الاجتماع الوزاري الأول عام 2024؛ من أجل دفع التعاون الثنائي والإقليمي نحو مستويات جديدة. وأشارت مصر إلى أن الشراكة الروسية- الإفريقية منذ إطلاقها تمثل إحدى قصص النجاح في التعاون الدولي بين شركاء تجمعهم قواسم مشتركة، لا سيما في عالم يشهد تحولات متسارعة، وتراجعًا في فاعلية الآليات التقليدية. تركز جدول أعمال المؤتمر على مجموعة من الأولويات والمحاور الرئيسة، جاء في مقدمتها تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري بين روسيا ودول إفريقيا. وقد شهد حجم التبادل التجاري بين الطرفين تناميًا مطردًا في السنوات الأخيرة، حيث تجاوز 24 مليار دولار عام 2023 صعودًا من نحو 18 مليار دولار في 2022، لكنه لا يزال دون الإمكانات المتاحة مقارنة بشركاء دوليين آخرين، مما يفسر التركيز على تنميته خلال المؤتمر. كما أولى المشاركون اهتمامًا خاصًا لدعم جهود الاستقرار والسلم والأمن في القارة؛ إيمانًا بأن الأمن والتنمية عنصران متلازمان يُعزز كل منهما الآخر. ومن القضايا التي حظيت بالنقاش كذلك: سبل تطوير البنية التحتية، وتعزيز التعاون في مجالات الطاقة، وتبادل الخبرات والتكنولوجيا، فضلًا عن دفع التكامل الإقليمي عبر اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية. كما لم تغفل أجندة المنتدى الجوانب العلمية والثقافية والإنسانية، حيث تم تأكيد أهمية تعزيز التبادل الثقافي والعلمي والتعليمي بين روسيا وإفريقيا، بما في ذلك زيادة المنح الدراسية للطلاب الأفارقة في الجامعات الروسية، وتوسيع برامج التوءمة بين المؤسسات البحثية والتكنولوجية؛ لما لذلك من دور في بناء جسور التواصل، وتعميق الفهم المتبادل بين الشعوب. وعلى هامش المؤتمر، عُقدت ورشتا عمل جانبيتان لتعميق النقاش في بعض المجالات، تناولت الأولى دور الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية في تعزيز التعاون مع الدول الإفريقية وبناء القدرات، فيما ركزت الثانية على التعاون الثلاثي بوصفه آلية لتحقيق التنمية الشاملة في القارة.
اتسم مؤتمر القاهرة بحضور إفريقي رفيع المستوى يعكس الاهتمام الكبير بتعزيز الشراكة مع روسيا، فقد شاركت في أعماله وفود رسمية من أكثر من خمسين دولة إفريقية يمثلها وزراء الخارجية وعدد من الوزراء المعنيين بمجالات التعاون المطروحة، مما وفر منصة جامعة لمناقشة أولويات القارة مع أحد الشركاء الدوليين الرئيسين. وعلى مدار يومي المؤتمر، انعقدت جلسات عمل مكثفة تناولت مختلف محاور التعاون الاقتصادي والأمني والتنموي، وشهدت مداخلات من رؤساء الوفود الإفريقية استعرضوا خلالها تجارب بلدانهم وأولوياتها في إطار هذه الشراكة. كما شهدت أروقة المؤتمر لقاءات ثنائية جانبية بين عدد من الوزراء ورؤساء الوفود ونظرائهم الروس، بُحثت خلالها مجالات تعاون محددة بين دولهم وروسيا، بما من شأنه الدفع قدمًا بالعلاقات الثنائية ضمن الإطار الأوسع للشراكة الروسية- الإفريقية، علمًا بأن هذه هي المرة الأولى التي ينعقد فيها المنتدى الوزاري للشراكة على أرض إفريقية بعد أن استضافت روسيا النسخة الأولى، وهو ما يعكس حرص إفريقيا على أن تكون طرفًا فاعلًا ومضيافًا في هذه الشراكة المتنامية. إلى جانب التمثيل الوطني، شارك أيضًا في المؤتمر رؤساء مفوضية الاتحاد الإفريقي والتجمعات الإقليمية الإفريقية (مثل الكوميسا، وإيكواس، ومجموعة شرق إفريقيا، وسادك) وممثلوها؛ تأكيدًا للتكامل بين البعد القاري والجهود الإقليمية في بلورة رؤية موحدة للتعاون مع روسيا. ترأس الجلسة العامة للمؤتمر وزير الخارجية المصري الدكتور بدر عبد العاطي بصفته رئيس وفد الدولة المضيفة، إلى جانب نظيره الروسي سيرغي لافروف، ووزير خارجية أنغولا تيتي أنطونيو، الذي تتولى بلاده الرئاسة الحالية للاتحاد الإفريقي. عكس وجود هذه الشخصيات الرفيعة حجم الالتزام الإفريقي والروسي بالمضي قدمًا في تعزيز الحوار السياسي والتعاون العملي بين الجانبين. وفي كلمته أمام المؤتمر، أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حرص بلاده على أن تكون شريكًا موثوقًا به للتنمية في إفريقيا، مستعرضًا مجالات التعاون الحالية والمستقبلية بين روسيا والدول الإفريقية في قطاعات متنوعة، ومشددًا على دعم موسكو للمبادرات الإفريقية في إرساء السلام، وتحقيق التنمية. أشاد وزير خارجية أنغولا، تيتي أنطونيو، الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي، بروح الشراكة التي تسود المنتدى، مؤكدًا أن إفريقيا تأتي إلى طاولة الحوار برؤية موحدة وأولويات واضحة، وأنها تجد في روسيا شريكًا مصغيًا يتجاوب مع شواغلها وطموحاتها. وقد أكد جميع المشاركين أهمية هذه المنصة المشتركة في تحقيق التفاهم المتبادل، وبناء الثقة، وتنسيق المواقف حيال القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك. كما ناقش المشاركون أفكارًا عن التعاون الثلاثي الذي يجمع إفريقيا وروسيا وشركاء دوليين آخرين لتنفيذ مشروعات تنموية في الدول الإفريقية، بما يسهم في حشد الموارد والخبرات لصالح تحقيق التنمية المستدامة.
على هامش المؤتمر الوزاري الثاني، استقبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يوم 20 ديسمبر (كانون الأول) 2025 الوزراء ورؤساء الوفود الإفريقية المشاركين وممثلي مفوضية الاتحاد الإفريقي والتجمعات الإقليمية. أعرب السيد الرئيس خلال اللقاء عن سعادته بهذا الجمع الإفريقي- الروسي على أرض مصر، مؤكدًا تطلعه إلى مستقبل أفضل لشعوب القارة الإفريقية في ظل شراكات بنّاءة تحقق المنفعة المتبادلة. وأشار الرئيس السيسي إلى ما تزخر به إفريقيا من موارد طبيعية وبشرية ضخمة تؤهلها لاحتلال المكانة التي تستحقها عالميًّا، لكنه شدد في الوقت نفسه على أن القارة لا تزال تواجه تحديات معروفة، وأن الأهم هو كيفية الإدارة الناجحة والفعالة لتلك الموارد وتنفيذ الخطط التنموية اللازمة لتجاوز العقبات، وضرب مثالًا بامتلاك بعض الدول الإفريقية ثروة حيوانية ضخمة، مما يستدعي بناء صناعة متطورة للحوم لتحقيق الاكتفاء الذاتي على مستوى القارة، والتصدير إلى الخارج. كما نوه بأن كميات الأمطار والمياه في إفريقيا تفوق احتياجاتها الفعلية، شريطة حسن إدارتها، واستخدامها بكفاءة. وأكد الرئيس أن غياب الاستقرار والأمن يمثل العائق الأكبر أمام جذب الاستثمارات وتحقيق التنمية المنشودة؛ ومن ثم دعا إلى بذل كل الجهود الممكنة لتحقيق الأمن والاستقرار في ربوع القارة، محذرًا من أن استمرار الاضطرابات والصراعات يزيد أخطار الاستثمار، ويثني رؤوس الأموال عن القدوم. وتمنى الرئيس السيسي في حواره مع الحضور أن تنعم جميع الدول والشعوب الإفريقية بالاستقرار والتنمية والازدهار، وشدد على أن تحقيق استقرار أي دولة إفريقية ينبغي ألا يكون على حساب مصالح دولة أخرى، بل من خلال التعاون والتكامل الإقليمي. واستعرض السيد الرئيس بعض جهود مصر في دعم التنمية الإفريقية، مشيرًا إلى أنه خلال رئاسة مصر للاتحاد الإفريقي عام 2019 طالبت القاهرة بضرورة توفير بنية أساسية مناسبة للدول الإفريقية كركيزة للتنمية. وقد حرص في لقاءاته مع قادة الدول الأوروبية والغربية في المحافل الدولية على تأكيد أهمية دعم مشروعات البنية التحتية في إفريقيا لتقليص الفجوة التنموية. وفي سياق متصل، تطرق الرئيس السيسي إلى مسألة العلاقات مع إثيوبيا، مؤكدًا أن مصر ليس لديها أي موقف عدائي تجاه الأشقاء هناك، وإنما تطالب فقط بعدم المساس بحقوقها التاريخية في مياه النيل، وجدد الدعوة إلى التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن سد النهضة الإثيوبي بما يضمن مصالح جميع الأطراف، وأوضح أن سياسة مصر ثابتة قائمة على عدم التدخل في شؤون الدول، وعدم زعزعة استقرارها، فبالرغم من الخلاف القائم بشأن سد النهضة، لم تلجأ مصر قط إلى توجيه أي تهديد أو تصعيد ضد إثيوبيا؛ إيمانًا منها بأن الخلافات يمكن حلها عن طريق الحوار والحلول السياسية البنّاءة. كما جدد الرئيس تأكيد أن امتلاك بنية أساسية قوية وشبكات ربط إقليمية في إفريقيا هو مفتاح تحقيق الاستقرار، وتقليص النزاعات، ودفع عجلة التقدم، فوجود طرق ومشروعات كهرباء ومواصلات حديثة يمنح الشعوب الأمل بمستقبل أفضل، على عكس الحلول العسكرية التي لا تخلق سوى أزمات جديدة. وقد أثنى الوزراء الأفارقة المشاركون على هذه الرؤية المصرية، معربين في كلماتهم خلال المؤتمر عن تقديرهم لدور مصر المحوري في دعم قضايا السلم في أفريقيا والشرق الأوسط، وفي مساندة جهود التنمية بالقارة، وأكدوا تطلعهم إلى مواصلة مصر تقديم دعمها وخبراتها لدول إفريقيا لتحقيق التنمية والرخاء، مشيدين بالمشروعات التنموية الرائدة التي تنفذها مصر وشركاتها في أنحاء إفريقيا. كما أشاد المتحدثون بما تقدمه روسيا من دعم مستمر لدول إفريقيا، سواء في بناء القدرات من خلال المنح الدراسية والتدريبية، أو في تقديم المساعدات التقنية والإنسانية، معربين عن تطلعهم إلى استمرار وتعزيز هذا الدعم في إطار الشراكة الإستراتيجية المشتركة.
في الكلمة الرسمية التي ألقاها وزير الخارجية المصري د. بدر عبد العاطي -نيابةً عن الرئيس السيسي- خلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، سلّط الضوء على رؤية مصر المتكاملة للتنمية في إفريقيا، التي ترتكز على خمسة محاور رئيسة:
وأكدت الكلمة أن مصر تعمل على توظيف مختلف أدوات التعاون المتاحة لتحقيق هذه الرؤية، بما في ذلك تشجيع الشركات المصرية على توسيع استثماراتها وشراكاتها في الدول الإفريقية. وفي هذا السياق، أُنشئت وكالة مصرية لضمان الصادرات والاستثمارات في إفريقيا بهدف دعم رجال الأعمال وتشجيعهم على دخول الأسواق الإفريقية. وقد أثمرت هذه الجهود عن تجاوز إجمالي الاستثمارات المصرية في إفريقيا حاجز 12 مليار دولار، فيما تخطى حجم التبادل التجاري بين مصر ودول القارة 10 مليارات دولار. إلى جانب ذلك، تواصل مصر تقديم برامج بناء القدرات وتنمية الموارد البشرية للأشقاء الأفارقة من خلال “الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية”، التي نفذت -منذ تأسيسها- أكثر من 700 برنامج تدريب في مجالات متنوعة تتوافق مع أولويات الدول الإفريقية. تعكس هذه الأرقام والمبادرات مدى التزام مصر العملي بدعم التنمية في إفريقيا، وترجمة الرؤية إلى إنجازات ملموسة على الأرض. كما تم خلال المناقشات تأكيد أهمية التعاون مع روسيا في دعم الأمن الغذائي الإفريقي، حيث تُعد روسيا من أبرز موردي الحبوب والأسمدة لكثير من دول القارة، مما يجعل تعزيز التعاون الزراعي والتجاري معها عنصرًا حيويًّا لضمان استدامة إمدادات الغذاء. كما تم التطرق أيضًا إلى آفاق التعاون في مجال علوم الفضاء والاستشعار عن بعد، حيث تمتلك روسيا خبرات واسعة يمكن أن تدعم الطموحات الإفريقية في هذا المجال، لا سيما مع وجود وكالة الفضاء الإفريقية حديثة النشأة التي تستضيف مصر مقرها.
أبرز المؤتمر الوزاري كذلك التزام الدول الإفريقية وروسيا بالعمل نحو نظام دولي أكثر عدالة وتوازنًا يعبر عن واقع العالم المتعدد الأقطاب. وأكدت كلمات القادة المشاركين مبادئ احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، واحترام وحدة أراضيها، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وفقًا لميثاق الأمم المتحدة. وقد شددت مصر في هذا السياق على ضرورة أن تُمثّل المؤسسات الدولية -وفي مقدمتها مجلس الأمن الدولي، ومؤسسات التمويل العالمية- المصالح الحقيقية لشعوب إفريقيا، وألا تبقى أسيرة لاختلالات الماضي. وأكد المتحدثون أن صوت إفريقيا، بما تمثله القارة من ثقل بشري واقتصادي وسياسي، يجب أن يكون حاضرًا ومؤثرًا في صياغة القرارات الدولية الكبرى؛ ومن هنا جدّدت الدول الإفريقية مطالبتها بتمثيل عادل في مجلس الأمن وفق توافق “إيزولويني” وإعلان “سرت”، وكذلك بإصلاح منظومة التمويل الدولية بما يكفل توفير الدعم والموارد بشروط ميسرة تلبي احتياجات الدول النامية. وترى مصر -ومعها الدول الإفريقية المشاركة- أن الشراكة الروسية- الإفريقية تشكل إحدى الأدوات المهمة لتحقيق تلك الأهداف على الساحة الدولية، فالحوار السياسي المنتظم بين إفريقيا وشركائها الدوليين -وفي مقدمتهم روسيا- هو حجر الزاوية لبناء تفاهم متبادل، وتعزيز الثقة، وتنسيق المواقف حيال القضايا العالمية. وفي هذا الإطار، يمثل منتدى الشراكة منصة مؤسسية تمكن الجانبين من توحيد الرؤى والمطالب الإفريقية، سواء فيما يتعلق بدعم أجندة الاتحاد الإفريقي 2063 “إفريقيا التي نريدها”، أو في دفع التفعيل الكامل لاتفاقية التجارة الحرة القارية، بما يحقق النمو الشامل والرخاء الاقتصادي والاجتماعي لشعوب القارة بعيدًا عن أي إملاءات خارجية. كما أكد المشاركون أن إصلاح النظام الدولي وجعله أكثر استجابة لاحتياجات اليوم لم يعد خيارًا؛ بل ضرورة، وهو ما يتطلب تضافر جهود الدول النامية وحلفائها من الشركاء -مثل روسيا- للدفع نحو تغيير حقيقي يضمن التمثيل العادل والتنمية للجميع. أكدت مصر -من جانبها- أنها ستواصل بذل كل جهد ممكن في إطار ريادتها لملف إعادة الإعمار والتنمية ما بعد النزاعات، ورئاستها للجنة التوجيهية لرؤساء دول وحكومات الـ”نيباد”؛ من أجل دعم جهود التنمية، وحشد التمويل للمشروعات القارية الطموحة. كما ستستمر مصر في مساعيها للدفاع عن المواقف الإفريقية في المحافل الإقليمية والدولية، لا سيما فيما يتعلق بمطلب إصلاح مجلس الأمن، وتطوير هيكل النظام المالي العالمي بما يحقق تمثيلًا أكثر عدالة للقارة.
لم يغفل المؤتمر التحديات الأمنية والإنسانية التي تؤثر في مسار التنمية في دول القارة الإفريقية، فقد أعربت مصر وباقي الدول الإفريقية عن بالغ القلق إزاء تصاعد التوترات الدولية، وتنامي النزاعات المسلحة والتهديدات الإرهابية في بعض مناطق القارة؛ لما لذلك من آثار مدمرة على استقرار الدول ونموها الاقتصادي. وفي هذا السياق، شدد المتحدثون على أهمية تسوية النزاعات بالطرق السلمية والحوار، ورفض التدخلات الخارجية التي تؤدي إلى تأجيج الأزمات بدلًا من حلها. كما أشاد المشاركون بقرار مجلس الأمن رقم 2719 الرامي إلى توفير تمويل مستدام لعمليات دعم السلام الإفريقية، واتفقوا على أن تمكين الدول الإفريقية من تولي زمام مبادرات حفظ السلام والاستقرار على أراضيها أمر أساسي، دون الاعتماد المفرط على المساعدات الخارجية. وفي هذا الصدد، أُبرز الدور المنتظر لصندوق السلام التابع للاتحاد الإفريقي، وآليات التمويل الإقليمية في دعم بعثات حفظ السلام الإفريقية، وأعلنت مصر في هذا السياق عزمها المشاركة في بعثة الاتحاد الإفريقي الجديدة في الصومال “أوصوم” للمشاركة عمليًّا في دعم استقرار منطقة القرن الإفريقي، مع مواصلة جهودها لحشد التمويل الدولي والإقليمي اللازم لهذه البعثة. وفيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، شاركت مصر تجربتها في التصدي لهذه الظاهرة التي وصفتها بالخبيثة، مؤكدة أن النجاح في دحر الإرهاب يتطلب اتباع مقاربة شاملة تراعي الأبعاد الأمنية والتنموية والفكرية والاجتماعية، وقد نوهت بدور المؤسسات الدينية والفكرية الوسطية -مثل الأزهر الشريف- في محاربة الفكر المتطرف، إلى جانب برامج بناء القدرات التي يقدمها مركز القاهرة الدولي لتسوية النزاعات وحفظ السلام في إفريقيا؛ لنشر ثقافة السلام وتعزيز قدرات الدول الإفريقية في مجالات حفظ الأمن. شهدت جلسات المؤتمر أيضًا نقاشًا بشأن الأوضاع الإقليمية في محيط القارة، وتأثيرها المتبادل في أمن إفريقيا واستقرارها، فتطرق المشاركون إلى جهود مصر المكثفة التي أسهمت في التوصل إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة مؤخرًا، والدعوة إلى البدء الفوري في إعادة إعمار القطاع، وتقديم الدعم الإنساني للأشقاء الفلسطينيين، كما أكدوا رفض أي محاولات لفرض حلول أحادية، أو تغيير الواقع الديموغرافي والجغرافي في الأراضي الفلسطينية، أو تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه. وناقش المشاركون أيضًا الأزمة السودانية وسبل حلها سلميًّا، حيث أكدت مصر ضرورة تضافر الجهود الإقليمية والدولية لإنهاء الصراع الدائر في السودان عن طريق الحوار بين الأطراف السودانية دون إقصاء. وفي الشأن الليبي، جددت مصر دعوتها إلى دعم حل سياسي ليبي- ليبي بقيادة الليبيين أنفسهم، دون تدخلات خارجية، بما يحفظ وحدة ليبيا وسيادتها. أما فيما يتعلق بمنطقة القرن الإفريقي، فقد أكدت مصر رفضها أي إجراءات أحادية قد تزيد التوتر في هذه المنطقة الحساسة، أو تمس بسيادة دولها. كما شددت على أهمية ضمان أمن الملاحة في البحر الأحمر كجزء لا يتجزأ من الأمن الإقليمي والدولي. ولم تغفل المناقشات التحديات في منطقة الساحل الإفريقي، حيث ثمّنت الدول المشاركة الجهود المشتركة في مكافحة الإرهاب هناك، وكذلك مساعي استعادة الاستقرار في منطقة شرق الكونغو. وفي سياق الحديث عن الأمن المائي، كررت مصر تأكيدها احتفاظها بحقها الأصيل في حماية أمنها المائي بجميع السبل السلمية المتاحة وفق قواعد القانون الدولي، في إشارة إلى قضية مياه نهر النيل وسد النهضة. واتُّفِقَ في ختام المناقشات الأمنية على أن التنمية لا يمكن أن تزدهر دون بيئة آمنة ومستقرة، وأن السلم والأمن يشكلان شرطين أساسيين لتحقيق تطلعات الشعوب الإفريقية في الرخاء.
اختتم المؤتمر الوزاري الثاني لمنتدى الشراكة الروسية- الإفريقية أعماله بتأكيد جملة من النتائج والتوافقات التي من شأنها إعطاء دفعة جديدة للعلاقات بين الجانبين. وقد شملت هذه المخرجات الاتفاق على خطوات عملية لزيادة حجم التبادل التجاري والاستثماري بين روسيا وإفريقيا، وتسهيل نفاذ المنتجات الإفريقية إلى الأسواق الروسية، وتعزيز التعاون في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا والصناعات، فضلًا عن تكثيف التنسيق السياسي في قضايا السلم والأمن. وقد اتفق المشاركون على خطة عمل مشتركة للفترة من 2023 إلى 2026 بهدف متابعة تنفيذ ما اتُّفِقَ عليه في قمة سانت بطرسبورغ الأخيرة، مع تأكيد أهمية صياغة خطة عمل جديدة للفترة من 2026 إلى 2029 تُقَرّ في القمة الروسية- الإفريقية الثالثة المنتظرة عام 2026. وشدد البيان الختامي للمؤتمر على التزام جميع الأطراف بمواصلة تعزيز الشراكة الإستراتيجية بين إفريقيا وروسيا على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. وتم تأكيد أن هذه الشراكة لا تقوم على المصالح الاقتصادية فحسب؛ بل تتأسس على رؤية مشتركة لمستقبل أكثر أمنًا وعدالةً وتنميةً لجميع الشعوب. كما اتفق المشاركون على مواصلة التنسيق والتعاون في مواجهة التحديات العالمية المشتركة، مثل تغير المناخ، وذلك عن طريق دعم مبادرات الطاقة المتجددة، وتعزيز جهود التكيف مع الآثار السلبية للتغيرات المناخية في إفريقيا. ومن المنتظر أن تواصل فرق العمل الفنية واللجان المشتركة المنبثقة عن المنتدى اجتماعاتها خلال المرحلة المقبلة لمتابعة تنفيذ التوصيات والمشروعات المتفق عليها، بما يضمن تحويل التعهدات إلى واقع ملموس يشعر به المواطن الإفريقي في حياته اليومية. بهذا الاختتام الناجح لمؤتمر القاهرة، تكون الشراكة الروسية- الإفريقية قد قطعت خطوة جديدة على طريق ترسيخ آلية منتظمة للحوار والتعاون بين الجانبين. كما رسّخ استضافة مصر لهذا الحدث موقعها كحلقة وصل جوهرية تربط تطلعات القارة الإفريقية بالدعم الدولي، مؤكدةً ريادتها في الدفاع عن أولويات إفريقيا وتعزيز تعاونها مع مختلف القوى العالمية. ومما لا شك فيه أن استدامة هذه الآلية ونجاحها في تحقيق الأهداف المرسومة سيكونان عاملًا حاسمًا في رسم ملامح مستقبل القارة الإفريقية وعلاقاتها الدولية، بما يعود بالمنفعة والنماء على شعوبها. في المحصلة، مثّل المؤتمر الوزاري الثاني تجسيدًا عمليًّا للإرادة السياسية لدى كل من الدول الإفريقية وروسيا لتعميق العلاقات، وتوسيع نطاق التعاون إلى آفاق أرحب. وبينما تستعد القاهرة لرفع توصيات هذا المؤتمر إلى القمة الروسية- الإفريقية المقبلة، يحدو الجميع أملٌ كبير في أن تؤتي هذه الجهود المشتركة ثمارها في صورة مشروعات وإنجازات ملموسة تسهم في ازدهار إفريقيا، وتعزيز حضورها على الساحة الدولية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير