مع أن الجهات الفاعلة الدولية الغربية لم تهتم كثيرًا بآسيا الوسطى فيما مضى، فإن الوضع قد تغير الآن منذ دخول دول الإقليم المشهد الجيوسياسي، إذ أصبح بؤرة اهتمام الجغرافيا السياسية في المنطقة الأوراسية، خاصةً بعد أن أدى الانسحاب المفاجئ للولايات المتحدة من دولة أفغانستان المجاورة عام 2021، إلى جانب التنافس الروسي الصيني في المنطقة، إلى خلق سياقات لتحالفات جديدة في آسيا الوسطى، فلم يعد الإقليم منطقة منسية؛ بل أصبح ساحة صراع على بسط النفوذ من القوى المختلفة.
أولت دول آسيا الوسطى أهمية لتطوير التعاون مع مختلف الجهات الفاعلة في القضايا السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية منذ حصولها على استقلالها، ومن هذا المنطلق، نجحت دول المنطقة في تطوير التعاون مع مختلف دول العالم من خلال اعتماد نهج متعدد الاتجاهات في سياساتها الخارجية، وهكذا زادت مكاسب دول المنطقة بالعلاقات التي أقامتها في إطار منطق الربح للجميع، وفي ضوء هذا، رحبت دول آسيا الوسطى بالتحالفات الجديدة، بعدما تبنت في سياستها الخارجية الاستقلال النسبي عن روسيا، وعدم التنمية غير المتوازنة للعلاقات مع الصين، والابتعاد عن الغرب بسبب خطر عدم الاستقرار؛ لذا رأت هذه الدول في تطوير العلاقات مع دول الخليج ضمانًا للحفاظ على التوازن والتعددية في سياستها الخارجية تجاه الشرق الأوسط، حيث توفر هذه البلدان رأس المال، والتكنولوجيا، والاتصالات، والوصول الجغرافي السياسي إلى المنطقة، التي تشكل منصة مثالية لآسيا الوسطى؛ لتدشن شبكة معقدة من المصالح الإستراتيجية مع دول الخليج على المستويات كافة، وتحديدًا على الصعيدين الأمني والاقتصادي، ومن هنا تطرح هذه الدراسة سؤالًا محوريًّا مفاده: هل يمكن لدول الخليج أن تقدم بديلًا للوجود الروسي والصيني والغربي في منطقة آسيا الوسطى؟
نشأت في السنوات الأخيرة علاقات عميقة بين دول آسيا الوسطى ودول الخليج، تضمنت أبعادًا اقتصادية واجتماعية ومصالح مشتركة للطرفين، حيث تنطلق العلاقات بين دول الخليج وآسيا الوسطى من قاعدة اقتصادية يمكن التأسيس عليها لشراكة ممتدة؛ إذ بلغ حجم التجارة بين الجانبين نحو 3.1 مليار دولار عام 2021، ما يمثل 0.27 % من إجمالي حجم التجارة السلعية لدول المجلس، كما بلغ حجم الصادرات الخليجية إلى آسيا الوسطى 2.06 مليار دولار، مقابل واردات بقيمة 1.03 مليار دولار في نهاية عام 2023.
ومن هذا، تحتاج دول آسيا الوسطى إلى استثمارات اقتصادية للوقاية من الاضطرابات الاجتماعية، وتحرص أن تكون تلك الاستثمارات دون اشتراطات سياسية باهظة، خاصة من الجار الصيني؛ لذا تعد دول الخليج الجهة الاستثمارية الأمثل في هذا السياق، خاصة في ظل تحرك دول الخليج لتنويع مصادر سلاسل الغذاء والإمدادات نتيجة تأثرها دوليًّا وإقليميًّا بجائحة كوفيد 19، وبالحرب الروسية- الأوكرانية التي قيّدت خياراتها الاقتصادية.
لذا ترغب دول آسيا الوسطى في تطوير علاقاتها مع دول الخليج وتعميقها؛ لأنه بالنظر إلى الخصائص الاقتصادية للدولتين في المنطقتين، يلاحظ أن الفاعلين يتمتعان بصفات متكاملة، ومما لا شك فيه أن كون المنطقتان الجغرافيتان غنيتين بموارد الطاقة هو أمر مهم يسهم في تطوير التعاون. ومن ناحية أخرى، يبدو من اجتماعات الحوار الإستراتيجي بين المنطقتين أن العلاقات تكتسب بعدًا هيكليًّا ودائمًا أكثر، حيث تعمل العلاقات المتطورة مع دول الخليج على تعزيز فهم السياسة الخارجية المتعددة الاتجاهات لدول آسيا الوسطى، خاصة بعد أن تغيرت نظرة دول آسيا الوسطى التقليدية- تدريجيًّا- إلى دول الخليج، وربطها بالجماعات الإسلامية المتشددة.
في المقابل، تطمح دول الخليج إلى الاستفادة من الموقع الإستراتيجي لمنطقة آسيا الوسطى، الذي يربط بين الصين والبحر المتوسط، وتدخل ضمن النطاق الجيوسياسي لمنطقة أوراسيا، كما تشكل دول آسيا الوسطى ممرًّا لأنابيـب الغاز والنفط مـن الشرق الأوسط، وبحر قزويـن باتجـاه الصيـن، أو باتجـاه البحـر الأسود وتركيـا والبحـر المتوسـط؛ ومن ثم تعمل كحاجز يُجهض أي محاولة للصدام المباشر بين القوى الآسيوية الإقليمية، فضلًا عن أن معظم دول المنطقة تطل علـى بحـر قزويـن الغنـي بالنفـط والغـاز، الذي تتعدى احتياطياته أكثـر مـن 150 مليار برميل مـن النفـط، كما تُقـدر احتياطياتـه مـن الغـاز الطبيعـي بأكثـر مـن 75 ألـف مليـار متـر مكعب.
فضلًا عن هذا، فإن منطقة آسيا الوسطى تزخر بمصـادر تعدينيـة أخـرى، مثـل الذهـب، والحديد، واليورانيوم، حيث تحتل كازاخستان المرتبة الأولى في العالم في احتياطي معادن التنجستن، والثانية في احتياطيات اليورانيوم وخام الكروم، بالإضافة إلى احتياطيات المنغنيز والفضة والزنك والرصاص في مرحلة الاستكشاف والتطوير، ويمثل قرب البلاد من الأسواق الصينية المزدهرة فرصة استثمارية ممتازة لدول الخليج، حيث يمكن لكازاخستان تقديم أكثر من 100 نوع من السلع المنتجة في مختلف المجالات، من الحديد والصلب إلى المواد الغذائية والزراعة.
ولا يقتصر النظر الخليجي إلى منطقة آسيا الوسطى على المنظور الاقتصادي؛ بل يمتد إلى المنظور الأمني، حيث تسعى دول الخليج إلى محاربة الإرهاب في الأُطر الحيوية الجغرافية لها، وهو ما يعني توسيع مجال الأمن الخليجي جغرافيًّا ليتجاوز الأطر التقليدية المتمثلة في دول الجوار إلى أخرى أبعد، ولكنْ لها تأثير محتمل في خططها الاقتصادية.
ترجع العلاقات التاريخية والثقافية بين دول مجلس التعاون الخليجي ودول آسيا الوسطى إلى قرون عدة، حيث كانت هذه المنطقة الجغرافية الواقعة في قلب القارة الآسيوية، محط اهتمام العرب والمسلمين، مع وجود روابط بين الثقافة العربية والإسلامية وثقافات دول آسيا الوسطى التي عرفت في التاريخ الإسلامي ببلاد ما وراء النهر، وكان لها تأثير كبير في الثقافة الإسلامية، وتأسست العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين بعد استقلال دول آسيا الوسطى عن الاتحاد السوفيتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، لكن نتيجة للرؤية السياسية والاقتصادية والأمنية الطموحة التي تسعى معظم دول الخليج إلى تنفيذها بحلول عام 2030، تبنت دول الخليج توجهًا خارجيًّا مختلفًا مع دول آسيا الوسطى، معتمدةً على عدد من الآليات، لعل من أبرزها:
1 ـ مأسسة التعاون الجماعي من خلال الأطر التنظيمية المعنية
يمكن في هذا الصدد ملاحظة اقتراب دول الخليج من آسيا الوسطى من خلال منظمة المؤتمر الإسلامي، فهناك توافق على أن تكون المنظمة منصة تلتقي عليها دول آسيا الوسطى مع الدول الإسلامية بصفة عامة، والدول الخليجية بصفة خاصة، لتعريف المصالح المشتركة، لا سيما أن المنظمة تتبنى برنامجًا للتعاون الاقتصادي بين مجموعة دول آسيا الوسطى ومنظمة التعاون الإسلامي، يعرف الاحتياجات، ويبلور مشروعات محددة من شأنها أن تربط دول الإقليم وجيرانه بشبكة من الطرق البرية والحديدية، إضافة إلى تعزيز التقارب والتعاون في شتى المجالات، حيث إن المنظمة تتبنى الفكرة التي بادرت بها كازاخستان لإنشاء منظمة للأمن الغذائي تحت مظلة منظمة التعاون الإسلامي؛ بهدف تحقيق تكامل الإنتاج الزراعي بين الدول، وسد الثغرات، وتفادي حدوث نقص أي إمداد غذائي لأي سلعة غذائية أساسية.
2 ـ التركيز على الأبعاد الاقتصادية
يعد التعاون الاقتصادي أحد المداخل المهمة التي تؤدي دور القاسم المشترك في العلاقات بين دول الخليج ودول آسيا الوسطى، سواء خلال الأزمات، أو لدعم برامج التنمية. في هذا السياق، يبدو أن هناك توجهًا منذ عام 2014 من دول الخليج لدعم التعاون الاقتصادي على أساس ثنائي مع دول آسيا الوسطى، بما يحقق مصالح كل الدول المعنية، حيث عقدت اللجنة السعوديةـ الكازاخستانية المشتركة اجتماعات الدورة الرابعة على المستوى الوزاري في الرياض في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014، وجرى خلال الاجتماعات الاتفاق على زيادة التبادل التجاري والاستثمار في قطاعات الصناعة والتعدين والزراعة والبيئة، وتوسيع وحماية التكنولوجيات والتنمية المستدامة والاتصالات السلكية واللاسلكية وتكنولوجيا المعلومات، والسياحة والإسكان والبنية التحتية، وتبادل المعلومات التفصيلية عن الفرص الاستثمارية والمشروعات القائمة من خلال وكالة كازاخستان الوطنية للتصدير والاستثمار، والهيئة العامة للاستثمار بالمملكة، وتنظيم فعاليات تهدف إلى تعزيز التجارة والاستثمار، وتبادل الخبرات في التجارة والاستثمار، واستكمال المفاوضات بشأن اتفاقية تشجيع الاستثمارات بين حكومة المملكة وحكومة كازاخستان وحمايتها.
من ناحية ثانية، يمكن القول إن التوجه نحو الاقتصاد الإسلامي أو الصرافة الإسلامية يشكل قاعدة مهمة للتقارب الخليجي- الآسيوي في هذا السياق، لا سيما أن التوقعات تشير إلى أن قطاع التمويل الإسلامي سيتضاعف لتصل قيمته إلى 3.4 تريليون دولار في السنوات الخمس المقبلة، وتعد دولة الإمارات من أبرز الفواعل في هذا الصدد، حيث تسعى دبي أن تكون عاصمة للاقتصاد الإسلامي على صعيد المنطقة والعالم، ويتضح أهمية هذا التوجه في ضوء ما تؤكده التقارير المعنية من وجود اتجاه قوي داخل أغلب دول منطقة آسيا الوسطى للتوسع في استخدام أدوات الاقتصاد الإسلامي وتطبيقها. وفي هذا السياق، يبرز دور دولة قطر في المجال نفسه، وهذا ما تأكد مع إرسال وفود قطرية إلى دول آسيا الوسطى للبحث في إمكانية بدء الإجراءات الفعلية لافتتاح فروع للمصارف والبنوك الإسلامية؛ بهدف سد الحاجة والطلب المتزايد على الصيرفة الإسلامية، وتلبية احتياجات كثير من المستثمرين والأفراد في تلك المناطق، أما البحرين فيأتي تحركها في هذا السياق من خلال بعض الكيانات المصرفية ذات الطابع الإسلامي، مثل مجموعة البركة، التي يتوقع أن تدلف إلى أسواق دول آسيا الوسطى عبر فروعها في تركيا المشتركة بالإرث، واللغة، والعلاقات الوطيدة مع دول آسيا الوسطى.
3- تفعيل مسار العلاقات المشتركة عبر تعزيز المصالح الإستراتيجية
شكل الاجتماع الوزاري المشترك الأول للحوار الإستراتيجي بين مجلس التعاون لدول الخليج العربية ودول آسيا الوسطى الخمس، الذي عُقد في سبتمبر (أيلول) 2022، في مقر الأمانة العامة لمجلس التعاون بالعاصمة السعودية، تطورًا بالغ الأهمية في مسيرة العلاقات بين هاتين المنطقتين الحيويتين من العالم، وجهود دولهما لتحقيق التنمية المستدامة والمصالح المشتركة، لا سيما في ضوء ما يتوافر لهما من إمكانات ضخمة، حيث نوقشت خلال اللقاء القضايا الراهنة، كما نوقشت الخطوات الواجب اتخاذها في مجالات الأمن الإقليمي، والتجارة والاقتصاد والاستثمار، والتعاون الثقافي. وفي هذا السياق، نوقشت قضايا مثل سلاسل التوريد، وروابط النقل، والأمن الغذائي والمائي، والطاقة، وتطوير الطاقة الخضراء، والتحديات البيئية، وتغير المناخ، وتطوير آليات التجارة والاستثمار، وتمثلت أبرز مخرجات الحوار في اعتماد خطة العمل المشتركة 2023-2027، التي تغطي مجالات مثل السياسة، والأمن، والاقتصاد، والنقل، والموارد المائية، والطاقة، والتعليم، والصحة، والثقافة، والشباب والرياضة.
وفي السياق نفسه، جاءت القمة الخليجية مع دول آسيا الوسطى في جدة في يوليو (تموز) 2023، لتؤكد مكانة دول الخليج الدولية وقدرتها على اختراق مناطق كانت مركزًا للتنافس الدولي، إذ إن قرار تعزيز العلاقات الإستراتيجية بين الجانبين، يؤكد الرؤية الخليجية لأهمية المنطقة إستراتيجيًّا، ودلل على هذا البيان الختامي للقمة الخليجية مع دول آسيا الوسطى، الذي تضمن 20 بندًا يكشف عن وجود تصور مشترَك بين الجانبين لدعم العلاقات الإستراتيجية بينهما لتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، لا سيما أن الفترة التي سبقت القمة شهدت عددًا من الزيارات الرفيعة المستوى بين دول مجلس التعاون ودول آسيا الوسطى، ووُقِّعَت اتفاقيات ثنائية في عدد من المجالات، ففي يناير (كانون الثاني) 2023، أجرى الرئيس الكازاخستاني زيارة رسمية إلى الإمارات اجتمع خلالها برئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد لترسيخ التعاون في مجالات الطاقة، في حين أجرى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في يونيو (حزيران) 2023 جولة آسيوية شملت 4 دول؛ هي: أوزبكستان، وقرغيزستان، وكازاخستان، وطاجيكستان؛ بهدف إعطاء الأولية لتلك الدول في التعاون الاقتصادي مع الدوحة.
في السنوات القليلة الماضية، برزت معالم النقلة النوعية التي انتهجتها دول الخليج تجاه منطقة آسيا الوسطى. ونتيجةً للثروات التي تزخر بها دول آسيا الوسطى، تنافست دول مجلس التعاون الخليجي فيما بينها على بسط نفوذها في المنطقة، وكان النصيب الأكبر لتلك الاستثمارات لصالح دولة الإمارات، وخاصة في كازاخستان وتركمانستان؛ الدولتين الرئيستين اللتين لهما موانٍ على بحر قزوين، ما يجعلهما دولتين مهمتين للممرات الإقليمية التجارية؛ لذا تمثل هدف أبو ظبي في التركيز على هذين البلدين في الرغبة في اكتساب مزيد من النفوذ في آسيا الوسطى، بالإضافة إلى الحد من النفوذ الإيراني هناك، ويختلط ذلك بمستقبل أسواق الغاز الطبيعي، ومصالح الطاقة، وطرق النقل، ومن هنا تنظر أبو ظبي إلى كازاخستان على أنها ركيزة رئيسة لإستراتيجيتها في منطقة وسط آسيا، حيث يوجد أكثر من 200 شركة إماراتية تعمل في كازاخستان، وهذه الروابط التجارية تصاحبها أهداف سياسية تضعها الإمارات على رأس أولوياتها هناك.
ومن ثم وقعت الإمارات في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، اتفاقية بقيمة 6.1 مليار دولار مع كازاخستان، تشمل 21 مشروعًا في مجالات التجارة، والنقل، والمواصلات، والاتصالات، والخدمات اللوجستية، والزراعة، والبناء، والبتروكيماويات، والفضاء، والسياحة، وفي عام 2021، وُقِّعَت اتفاقية جديدة بين أستانا وأبو ظبي لاستثمارات تزيد على 6 مليارات دولار لتنفيذ مشروعات مشتركة في قطاعات الطاقة، والزراعة، والصناعة، والنقل، والخدمات اللوجستية، والأدوية، والمالية، وأهم ما ميز هذه الاتفاقية هو تأمين إقامة شراكة إستراتيجية طويلة الأمد بين الطرفين، وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2022، وقّع الطرفان اتفاقية استثمار جديدة بقيمة 900 مليون دولار.
وأهم من ذلك، هو أن الإمارات لها رؤية واضحة في الوصول إلى المواني كجزء من محور عالمي، ويمكن رؤيتها في استحواذ دبي على منطقتين اقتصاديتين خاصتين في كازاخستان على بحر قزوين، وقد اشترت “موانئ دبي” حصة بقيمة 51 % في منطقة خورغوس الاقتصادية الخاصة، ولها مساهمة بنسبة 49 % في منطقة أكتاو، التي منحت حقوق الإدارة والحوكمة لـ”موانئ دبي العالمية”. وتعد كازاخستان حلقة مهمة في طريق الحرير الجديد، ومن المؤكد أن “موانئ دبي العالمية” تركز على تطوير البنية التحتية الصلبة واللينة التي تدعم روابط النقل المتعددة الوسائط التي ستكون أساسية في طريق الحرير؛ لذا وُقِّعَت اتفاقية منفصلة بين شركة مبادلة وصندوق الثروة السيادية الكازاخي لهذا المشروع، الذي من المقرر أن يُشَغَّل بحلول عام 2025. وبالإضافة إلى ذلك، من المقرر المضي قدمًا في خطط لإنشاء صندوق استثماري مشترك بين كازاخستان والإمارات العربية المتحدة، بمبلغ إجمالي قدره 500 مليون دولار.
وفضلًا عن كازاخستان، توظف أبو ظبي استثماراتها لأغراض سياسية في تركمانستان، حيث تستثمر أبو ظبي في مشروعات البنية التحتية، مع التركيز على دور عشق آباد المستقبلي كمصدر حقيقي للغاز الطبيعي عن طريق خط أنابيب “تابي”. وبالإضافة إلى ذلك، بدأت أبو ظبي في تنفيذ رؤية الدفاع والأمن في تركمانستان على غرار سياستها الخارجية في اليمن والقرن الإفريقي. وفي العام الماضي، زودت شركة توباز للطاقة والملاحة، التي تتخذ من دبي مقرًا لها، السفن لشركة دراغون أويل، الشريك الرئيس لشركة بترول الإمارات الوطنية؛ لتطوير موارد هيدروكربون بحرية في تركمانستان، وتبلغ قيمة العقد 100 مليون دولار، لمدة خمس سنوات، وتشغّل شركة توباز أيضًا السفن في منطقة تشليكن، التي تتكون من حقلي نفط وغاز بحريين. وفي الأشهر القليلة الماضية، سرّعت دولة الإمارات العربية المتحدة سياستها الاستثمارية نحو تركمانستان بطريقة إستراتيجية، حيث زار الرئيس التركماني قربان قولي بيردي محمدوف أبو ظبي، ووقع اتفاقيات مهمة مع شركة مبادلة للاستثمار في البنية التحتية في عشق آباد.
وعلى نحو مماثل، تعمل السعودية على تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع آسيا الوسطى، ففي أغسطس (آب) 2022، انعقد مجلس الأعمال السعودي الأوزبكي بين المملكة العربية السعودية وأوزبكستان، وأُعلِنَ خلال اللقاءات توقيع 13 اتفاقية بقيمة 14 مليار دولار، ووعدت السعودية أوزبكستان بالإنتاج السخي للغاز الطبيعي في أوزبكستان الغنية بموارد الغاز، وكذلك التزمت السعودية بزيادة هجرة العمال الأوزبكيين للعمل في السعودية، في حين كانت أهم صفقة وقعها الرئيس الأوزبكستاني شوكت ميرضيائيف هي مشروع بناء أكبر مزرعة ريحية في العالم في أوزبكستان، من المتوقع أن تزود 1.65 مليون منزل بالطاقة، في وقت تعاني فيه البلاد نقصًا مزمنًا في الطاقة. كما دعم الصندوق السعودي للتنمية حكومة أوزبكستان بقروض تنموية عدة، حيث قدم الصندوق 11 قرضًا تنمويًّا للمساهمة في تمويل تنفيذ 11 مشروعًا في قطاعات الصحة، والتعليم، والطرق، والري، ومياه الشرب، والإسكان، بقيمة تجاوزت 85 مليون ريال سعودي.
وحولت الرياض اهتمامها إلى تركمانستان، المتاخمة لإيران، ومنحتها قروضًا لبناء خط أنابيب تركمانستان- أفغانستان- باكستان- الهند (TAPI)، كما عقدت السعودية عدّة اتفاقيات تعاون مع تركمانستان، منها اتفاقيات تعاون أمني، واتفاقيات رياضية، وفي الخدمات الجوية، ومذكرات تفاهم بشأن تمويل مشروعات في تركمانستان بين حكومة عشق آباد وصندوق التنمية السعودي، بالإضافة إلى مذكرة تفاهم تتعلق بالمشاورات السياسية.
أما طاجيكستان، فقد أدى خلافها مع إيران خلال السنوات الماضية إلى توثيق العلاقات مع السعودية، حيث إن أهم دافع للنفوذ السعودي في طاجيكستان، هو إضعاف موقع إيران في أقرب دولة لها من الناحية الثقافية واللغوية؛ لذا سارعت السعودية إلى تمويل كثير من مشروعات البنى التحتية في هذا البلد، ومنها محطة للطاقة الكهرومائية، ودعم صندوق التنمية السعودي مشروعات الرعاية الاجتماعية، لا سيما في مجال التعليم. وبالإضافة إلى ذلك، قدم البنك الإسلامي للتنمية في السعودية الموارد اللازمة لبناء طريق سريع جديد في الجزء الشرقي من طاجكيستان.
واتبعت قطر خطى الإمارات والسعودية في آسيا الوسطى، ولحقت بقطار التنافس على بسط النفوذ في المنطقة حيث أنهى أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في 8 يونيو (حزيران) الماضي، زيارة إلى أربع دول في آسيا الوسطى؛ هي: كازاخستان، وقرغيزستان، وأوزبكستان، وطاجيكستان، بدعوة من قادتها، وكان ضيف الشرف في منتدى أستانا الدولي في كازاخستان، وتأتي هذه الزيارة بعد عام فقط من زيارته العام الماضي لتركمانستان، في يونيو (حزيران) 2022، وكازاخستان في أكتوبر 2022، وسبقتهما زيارته لكازاخستان في 2017، وتركمانستان في 2016. وفي الاتجاه المقابل، زار عدد من قادة دول آسيا الوسطى الدوحة عدة مرات خلال الأعوام القليلة الماضية، فقد زارها رئيس أوزباكستان، شوكت ميرضيايف، في 2021، وزارها رئيس تركمانستان، قربان قولي محمدوف في 2020، وزارها رئيس كازاخستان، قاسم توكاييف، ورئيس قرغيزيستان، سورونباي جينبيكوف، وزارها رئيس طاجيسكتان، إمام رحمون، ورئيس كازاخستان، نور سلطان نزارباييف في 2018، وتدل تلك الزيارات الرسمية المتبادلة على المكانة المهمة للعلاقة بين الطرفين في سلم مصالحهما الوطنية.
انطلاقًا من الأهمية الإستراتيجية لمنطقة آسيا الوسطى، أصبحت المنطقة محل صراع بين القوى الكبرى، وعلى وجه الخصوص روسيا، والصين، والولايات المتحدة، فبينما تعد روسيا اللاعب الأبرز في المنطقة بحكم الجوار والعلاقات التاريخية والثقافية في إطار الاتحاد السوفيتي سابقًا، تشغل ثلاث دول من آسيا الوسطى (كازاخستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان) عضوية منظمة الأمن الجماعي التي تعد بمنزلة ناتو مصغر تقوده روسيا، كما تملك موسكو قواعد عسكرية في قرغيزستان وطاجيكستان؛ لذا تعتبر موسكو منطقة آسيا الوسطى جزءًا من المجال الحيوي الطبيعي لروسيا. ومنذ وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة، مطلع عام 2000، عادت روسيا بقوة إلى المنطقة، وأبدت اهتمامًا واضحًا بها، وبإحياء العلاقات الوثيقة معها، مع احترام استقلالها السياسي، وسيادتها على أراضيها. ورغم المنافسة الشديدة التي تواجهها روسيا من جانب الولايات المتحدة والقوى الإقليمية التابعة لها، فإن حجم النفوذ الروسي ما زال قويًّا في ضوء المصالح المتبادلة، والارتباط الوثيق مع هذه الدول.
لكن هذا النفوذ الروسي لم يمنع الصين من تعزيز حضورها في المنطقة؛ إذ تمكنت بكين من تحقيق نجاحات تجارية واضحة وكبيرة في المنطقة، من خلال تعزيز علاقاتها التجارية والاستثمارية الثنائية مع دول المنطقة، إذ تعد الصين من بين أكبر خمسة شركاء تجاريين لكل دولة من هذه الدول، مما يعد مؤشرًا على طموحاتها الجيوسياسية في المنطقة. ومع انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا، بدا أن بكين تخطط لتوسيع نفوذها في المنطقة ليشمل الجانب الأمني، حيث أكدت في مايو (أيار) الماضي خلال قمة جمعت الرئيس الصيني شي جين بينغ بنظرائه في آسيا الوسطى، استعدادها لمساعدة دول آسيا الوسطى لتعزيز أمنها وقدراتها الدفاعية.
وفي المقابل، بدأت القوى الغربية تتخوف من زيادة الاندماج بين آسيا الوسطى وروسيا والصين، وتجسد هذا بوضوح في اجتماع الرئيس الأمريكي جو بايدن في القمة الأولى مع قادة دول آسيا الوسطى سبتمبر (أيلول) 2023 على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وتم التحذير من التقارب مع روسيا والصين، والتلويح بفرض عقوبات اقتصادية وسياسية غربية عليها، ومطالبتها بالموافقة على نقل الأسلحة من بعض الشركات الأمريكية في الدول الاسيوية إلى أوكرانيا، والابتعاد عن النهج الروسي في كثير من المنظمات الدولية، مثل شنغهاي، وبريكس، والاتحاد الأوراسي، ومنظمة الأمن الجماعي، ما يشير إلى أن هذا اللقاء شكل لحظة تاريخية في تاريخ العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول آسيا الوسطى، فمع أن صيغة الحوار الدولي لمجموعة (C5+1) كانت موجودة بالفعل منذ عام 2015، فإنها كانت دائمًا ما تتم على مستوى وزارات الخارجية فقط.
شجع هذا التوجه الجديد للولايات المتحدة بدء دول آسيا الوسطى الانفتاح على القوى الغربية، وتحديث بعض دول المنطقة اقتصاداتها وبناءها على الطراز الرأسمالي الغربي، حيث أجرى الرئيس الأوزبكستاني في عام 2018 زيارة تاريخية أولى إلى البيت الأبيض، إيذانًا بما وصفه الجانب الأمريكي آنذاك بأنه حقبة جديدة من الشراكة الإستراتيجية بين البلدين. كما قطعت كازاخستان، أكبر دولة في آسيا الوسطى من حيث المساحة والإنتاج الاقتصادي، خطوات واسعة في إصلاحات السوق، وأظهرت اهتمامًا واضحًا بأن تصبح شريكًا إستراتيجيًّا للولايات المتحدة، على الرغم من علاقاتها الوثيقة مع موسكو. أما طاجيكستان، فعلى الرغم من انغلاقها اقتصاديًّا، واعتمادها الكلي على الصين وروسيا، فإنها أظهرت انفتاحًا سياسيًّا وأمنيًّا على واشنطن.
ومن هذا يمكن القول إن الحرب على أوكرانيا قد تسرع من توجه دول آسيا الوسطى إلى الغرب، فدول آسيا الوسطى قد تقلل الاعتماد على الدعم الأمني الروسي، وستعتمد أكثر على الرخاء الاقتصادي الذي تمنحه الوعود الخليجية والأمريكية، وسيجعل الإنهاك الروسي في الحرب مع أوكرانيا دول آسيا الوسطى أقل خشية من موسكو، وأوسع حرية في الاقتراب من الغرب، والبحث عن شركاء في مجالات إستراتيجية متعددة. كما ستستغل الصين هذا الفراغ للتمدد في آسيا الوسطى، وجعلها سوقًا لمنتجاتها، ومجالًا لنفوذها، وجسرًا إلى أوروبا، وفي المقابل، ستحصل دول آسيا الوسطى على مشروعات اقتصادية كبرى.
يمكن في هذا الصدد أن تتطور العلاقات الخليجية المطّردة مع دول آسيا الوسطى بشكل أكثر فاعلية، بما يحقق مصالح مختلف الأطراف، عبر بعض الآليات التكميلية التي تسهم في مزيد من الفهم المتبادل، من خلال إجراء مأسسة الحوار الإستراتيجي بين منطقتي الخليج ووسط آسيا؛ للبحث عن أفضل الطرق لتعميق العلاقات بين المنطقتين، من خلال التحرك تحت مظلة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، فضلًا عن أن هناك اعتبارات تستوجب علاقات قوية وشراكات إستراتيجية بين دول مجلس التعاون الخليجي وجمهوريات آسيا الوسطى التي ترتبط بروابط تاريخية قديمة منذ بداية الفتوحات الإسلامية، وبدء الهجرة والهجرة المعاكسة من شبه الجزيرة العربية وإليها منذ القرن الهجري الأول، وما ترتب على ذلك من تقارب ثقافي، وانصهار بين القبائل والجماعات في المنطقتين.
ومن هذا، فإن محصلة القول هي أن الديناميكيات الراهنة تدفع إلى مزيد من توثيق العلاقة بين دول الخليج ودول آسيا الوسطى، حيث ستزداد أهمية آسيا الوسطى الاقتصادية مستقبلًا، سواء لزيادة الطلب المتوقع على المواد النادرة التي توجد فيها، أو على موارد الطاقة، أو للنشاط الاقتصادي الناتج عن خطة الحزام والطريق الصينية، أو للاهتمام الأمريكي المتزايد بالإحاطة بالصين وروسيا لمنعهما من مزاحمتها على قيادة العالم؛ لذا تشير معادلات القوى السياسية والإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط إلى أن التقارب بين دول الخليج العربية ودول آسيا الوسطى يخلق واقعًا أكثر توازنًا، لا سيما أنه سيدعم فرص موازنة قوة اللاعبين الإقليميين الصاعدين مثل إيران وتركيا، كما أن هذا التعاون سيدعم جهود دول المنطقة، والمجتمع الدولي بصفة عامة، لمكافحة الإرهاب، في ضوء تشابك العلاقات بين التنظيمات المتطرفة العابرة للحدود في تلك المنطقة.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.