وصلت العلاقات الهندية مع نيبال إلى أدنى مستوياتها في التاريخ الحديث. ورغم زيارة رئيس وزراء نيبال، بوشبا كمال داهال (المعروف باسم براشاندا) للهند خلال عام 2023، لتكون هذه زيارته الرابعة للهند بصفته رئيسًا للوزراء، وأول زيارة خارجية له منذ توليه منصبه المرة الثالثة أواخر عام 2022، فإن خطوط الصدع ما زالت مُستمرة بين الجانبين. ويرجع ذلك إلى النزاع الحدودي المستمر، وتحفظ نيبال بشأن مواصلة تجنيد الجورخا النيباليين في الجيش الهندي مدة محددة، تبلغ أربع سنوات، بموجب مخطط أجنيباث (جنود النار) المثير للجدل.
تتكون نيبال من ثلاثة عوامل جغرافية رئيسة تؤثر في حياتها الثقافية والسياسية والاقتصادية:
وفي الشمال، هناك نحو (18) ممرًا بين نيبال والتبت، أبرزها كيرونج وكوتي، التي يبلغ ارتفاعها نحو 14000 قدم، في حين أن الممرات الأخرى أعلى، وتظل مغطاة بالثلوج معظم أيام العام، لكن تتدفق الأنهار الأربعة الرئيسة في نيبال (جزء من نهر الجانج)، من الأنهار الجليدية في الشمال إلى السهول الجنوبية، ثم إلى الهند، لتروي جزءًا كبيرًا من السهل الجنوبي، الذي لا يصلح للزراعة منه سوى (20 %)، ولكن زراعته توفر ما يقرب من (40 %) من الناتج المحلي الإجمالي لنيبال، و(80 %) من العمالة.
حتى أوائل القرن العشرين، كانت نيبال قادرة على الاحتفاظ بالاتصال مع التبت، بل حتى بالسيطرة العسكرية على طرق التجارة المؤدية إلى التبت، والوصول إليها من خلال الممرات الجبلية فيما يعرف الآن باسم سيكيم، التي كانت تتمتع بنفوذ سياسي عليها. لكن منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، عندما أصبحت تحت تأثير كل من الصين والاستعمار البريطاني، أصبحت سيكيم مستقلة سياسيًّا عن وادي كاتماندو، ولكنها متكاملة ثقافيًّا معه. وبسبب عجز القوات الإمبراطورية البريطانية عن إخضاع المتمردين النيباليين في القرن التاسع عشر، ظلت نيبال مستقلة سياسيًّا عن الهند البريطانية. وبناءً على ذلك، اضطر البريطانيون إلى الاحتفاظ بنيبال بوصفها منطقة عازلة بين الهند والتبت، وهي ممارسة إستراتيجية احتفظت بها الهند بعد الاستقلال. وبغض النظر عن ذلك، فإن جغرافيا نيبال غير الساحلية تجعلها تعتمد اقتصاديًّا على سهل نهر الجانج الهندي، الذي يتصل أيضًا بكلكتا، أقرب ميناء بحري للتجارة الدولية. وهذه الجغرافيا الصعبة فرضت على نيبال هدفين متناقضين:
في أعقاب استيلاء الصين الشيوعية على التبت عام 1950، وخوفًا من امتداد النفوذ الشيوعي إلى نيبال (أو حتى احتلالها)، وقعت حكومتا الهند ونيبال اتفاقية السلام والصداقة لعام 1950، التي كانت تهدف إلى الدفاع المشترك، وسوف تضمن الهند قدرة نيبال على البقاء اقتصاديًّا من خلال حدود مفتوحة- إلى حد كبير- حيث يستطيع النيباليون الهجرة والتجارة عبرها بدون تأشيرات، أو رسوم جمركية. كما تمر التجارة الدولية لنيبال (مع أي دولة ثالثة) عبر الهند، وذلك لأسباب جغرافية إلى حد كبير. بالإضافة إلى ذلك، ضمنت المعاهدة احتفاظ نيودلهي بنفوذها على سياسات نيبال الخارجية والدفاعية؛ فلا تستطيع كاتماندو اتخاذ إجراءات دولية أو سياسات موجهة نحو الدفاع دون استشارة دلهي، ويتعين على كل منهما إبلاغ الآخر بالإجراءات المتخذة فيما يتعلق بالأمن الإقليمي.
كما عقدت الهند مع نيبال اتفاقية كوسي لعام 1954، واتفاقية جانداك لعام 1959 بشأن آليات إدارة المياه بين الطرفين. وتتدفق جميع الأنهار الأربعة الرئيسة في نيبال (ماهاكالي، وكارنالي، وغانداكي، وكوسي) وخمسة روافد صغيرة (باباي، وغرب رابتي، وباجماتي، وكامالا، وكانكاي) من شمال نيبال إلى الهند، وتوفر هذه الأنهار (47 %) من إجمالي تدفق النهر في حوض الجانج، و(71 %) من تدفقه الجليدي، ويأتي الباقي من طبقات المياه الجوفية. وكلتا الاتفاقيتين المتعلقتين بالمياه منحت الهند في الأساس أغلبية الفوائد، ففي حين ستمول الهند بناء قناطر حدودية لإدارة الفيضانات، ومع أن لديها القدرة على ري 1.5 مليون فدان من الأراضي النيبالية، فإن نيودلهي ضمنت السيطرة على الأراضي النيبالية لضمان أمن المياه. ومع أن بعض البنود الأكثر إثارة للجدل عُدِّلت في الستينيات، فإن المظالم النيبالية ظلت قائمة بسبب أن الهند ستظل تسيطر على الأراضي النيبالية التي تتدفق عليها المياه من أجل ولاياتها الواقعة أسفل النهر (تحديدا ولاية بيهار الهندية).
خلال فترة السبعينيات، أدت حالة انعدام الأمن في نيبال إلى تغير جذري في العلاقات مع الهند، لا سيما بعد انفصال بنغلاديش، بتحريض هندي، في حرب عام 1971 مع باكستان، والتجربة النووية الهندية عام 1974، وتمرد الناكساليين الموالي للصين في ولاية البنغال الغربية، المتاخمة للحدود النيبالية، فضلًا عن استيعاب سيكيم بوصفها ولاية هندية عام 1975، وهذا التطور الأخير تحديدًا أثار مخاوف نيبال من إمكانية أن تحتلها الهند.
وكان لاستيعاب سيكيم تأثير واضح في تصورات الأمن القومي النيبالي ضد الهند. وقد تأكدت الأهمية الجيوإستراتيجية لهذه المملكة الصغيرة الواقعة في جبال الهيمالايا من خلال ممر “ناثو لا” الذي كان حلقة وصل جغرافية أساسية بين جنوب آسيا وهضبة التبت، والذي مكّن التجار والغزاة النيباليين تاريخيًّا من احتلال والاحتفاظ بالسيطرة السياسية على جزء كبير من جنوب التبت. والواقع أن هذه الإمكانية هي التي أرغمت الهند على السعي إلى دمج سيكيم في الاتحاد الهندي، فمع اندلاع الاحتجاجات الشعبية ضد الملكية السيكيمية، خشيت نيودلهي أن تتمكن الصين من استغلال عدم الاستقرار للمطالبة بسيكيم كجزء من جنوب التبت وضمها. أرسلت دلهي الشرطة الاحتياطية على نحو استباقي لتهدئة الوضع، وأجرت استفتاءً ألغى النظام الملكي السيكيمي، وحوّل الإقليم إلى ولاية هندية.
ومع ذلك، ظلت مملكة سيكيم تحت نفوذ كاتماندو- عدة قرون- وأُدمِجَت سياسيًّا في المملكة النيبالية. لكن عندما تم استيعاب سيكيم ذات الأغلبية العرقية النيبالية في الهند عام 1975، شعرت كاتماندو أن ذلك يشكل خطرًا وجوديًّا. وردًا على ذلك، اقترح ملك نيبال “بيرندرا بير بيكرام شاه” (1945-2001) إعادة تنظيم معاهدة السلام والصداقة مع الهند، والاعتراف بنيبال بوصفها “منطقة سلام”، حيث يتضاءل النفوذ الهندي في نيبال، مع الاحتفاظ بعلاقات ودية مع الصين.
خلال التسعينيات، وعلى الرغم من تأسيس نظام ديمقراطي بقيادة حزب المؤتمر النيبالي، فإن أزمة سياسية اندلعت بين أعضاء التحالف ذوي الميول اليسارية إلى حد كبير. وبحلول عام 1996، بدأ تمرد حرب العصابات الماوي من جانب كوادر الحزب الشيوعي النيبالي (الماوي)، الذي استهدف المؤسسات الحكومية في غرب نيبال، وانتشر لاحقًا في كثير من المناطق الريفية من البلاد. في يونيو 2001، قُتل الأمير ديبندرا، كما انتحر وريث العائلة المالكة النيبالية؛ مما خلق أزمة هددت شرعية الملكية نفسها. تولى الملك جيانيندرا العرش في أعقاب أعمال القتل، وشكّل قوة الشرطة المسلحة لقمع التمرد الماوي. ولكن عندما فشلت القوات المسلحة النيبالية في قمع حالة عدم الاستقرار، جُنِّدَ الجيش الملكي النيبالي أيضًا للقتال؛ مما أدى إلى رفع مستوى العنف، وجلب مقاومة شعبية أكبر للنظام الملكي الذي تدعمه الهند.
وبحلول عام 2006، كان الحزب الشيوعي النيبالي (الماوي) قد اكتسب السيطرة العسكرية والسياسية على جزء كبير من نيبال، وأُطيح بالنظام الملكي، وجاء تحالف سياسي ماوي إلى السلطة. وقد أثار صعود الماويين في نيبال مخاوف الهند بسبب شن حرب عصابات، حيث حافظ الماويون النيباليون على روابط تكتيكية وثيقة مع نظرائهم الهنود، من الناكساليين وغيرهم من المتطرفين اليساريين، في ولاية البنغال الغربية الهندية، وتشاتيسجاره. وكجزء من هدفهم المتمثل في الاحتفاظ بالحكم الذاتي عن الهند، ظل الماويون قريبين سياسيًّا من الصين. ومع ذلك، بدءًا من أوائل عام 2010، أعاقت الأزمة السياسية قدرة الماويين على الحكم، ولم يتمكن الماويون من تفعيل أجندتهم، أو إعادة كتابة دستور جديد، أو حتى الاحتفاظ برئيس الوزراء فترات طويلة، فقد انقسمت الأحزاب الماوية إلى جماعات متعارضة، في حين أُدمجت أجنحتها المسلحة من حرب العصابات- ببطء- في المؤسسة العسكرية النيبالية.
وفي الوقت نفسه، منذ عام 2000، زعمت الهند أن منطقة تيراي في جنوب نيبال استُخدمَت نقطةَ انطلاق لهجمات وكالة الاستخبارات الباكستانية على الهند. وبدأ السياسيون والمواطنون النيباليون في مساعدة عصابات الجريمة المنظمة الباكستانية لتهريب الأفراد والبضائع عبر الحدود الهندية، وبدأ انتشار شبكات مدارس عسكر طيبة، وحركة الجهاد الإسلامي بين المسلمين الذين يعيشون في جنوب نيبال؛ مما يهدد الأمن القومي الهندي.
الآن، أصبح الصراع بين الهند والصين أكثر وضوحًا على الساحة النيبالية. ومع أن جبال الهيمالايا كانت ذات يوم تشكل حدودًا حاسمة- إلى حد ما- بين نيبال والصين، فإن النمو الاقتصادي في التبت، والمخاوف الصينية بشأن الأنشطة السياسية التي يمارسها التبتيون في الشتات، لا سيما في نيبال، كانت سببًا في تقرب بكين من كاتماندو. ومع أن جبال الهيمالايا تمنع انتشار أي قوة عسكرية صينية كبرى في نيبال، فإن الطرق التي تُنشَأ من الممكن أن تمنع الهند من استخدام ورقتها الوحيدة المتمثلة في الحصار الاقتصادي على كاتماندو. وإذا كانت الصين قادرة على توفير السلع الأساسية التي تتلقاها نيبال من الهند- خاصة البنزين والديزل والكيروسين- فإن نفوذ نيودلهي على كاتماندو سوف يكون محدودًا.
عام 2015، أصدرت نيبال دستورًا جديدًا بدعم من أكثر من ثلثي الجمعية التأسيسية. ومع ذلك، فإن مجموعة من ممثلي طائفة الماديسي كانوا غير راضين عن بعض أحكام الدستور الجديد، مثل تقسيم الولايات بموجب مشروع قانون الجنسية الجديد. كما أزعج الدستور الجديد الهند، خاصة أنه صدر دون مراعاة مخاوف نيودلهي بشأن إقليم ماديش المتاخم للهند. وقد اتخذت نيودلهي إجراءات عقابية؛ من خلال إغلاق نقاط التفتيش الحدودية، ووقف نظام الإمداد اللوجيستي والتجاري بكامله؛ مما أدى إلى أزمة إنسانية كبيرة في نيبال بسبب نقص الوقود، وغاز الطهي، وأدى هذا الوضع إلى إضعاف صورة الهند في المجالات السياسية والمدنية في نيبال، وتصاعد أهمية الصين من خلال المعونات، والمساعدات.
كما تسبب إلغاء أوراق نقدية محددة بالعملة الهندية عام 2016 في مزيد من التوتر في العلاقات الثنائية. وقيل إن البنوك والمؤسسات المالية والأفراد النيباليين يحتفظون بأكثر من 7 مليارات روبية هندية (نحو 108 ملايين دولار أمريكي) من الأوراق النقدية الهندية المحظورة، وقد حثت نيبال الهند- مرارًا وتكرارًا- على السماح بتبادل هذه العُملات، ولكن لم يُحرز أي تقدم، وقد أدى هذا إلى تشويه صورة الهند في نيبال.
وبعد إلغاء المادة الـ(370) من الدستور الهندي عام 2019، التي أنهت الوضع الخاص لجامو وكشمير، حدّثت الهند خرائطها السياسية لتشمل في داخلها الأراضي المتنازع عليها مع نيبال، وتفاقمت قضية الحدود الطويلة الأمد عندما فتحت الهند طريقًا مهمًّا إستراتيجيًّا يربط ممر ليبوليخ (الذي تطالب به نيبال) مع دارتشولا، وكلاهما في ولاية أوتاراخاند الهندية. ووفقًا لنيبال، فإن هذا “العمل الأحادي الجانب” ينتهك اتفاق البلدين بشأن حل قضايا الحدود. وخلال عام 2020، ردت نيبال بنشر خريطة سياسية جديدة شملت المنطقة المتنازع عليها أيضًا.
أما الأزمة الأخيرة التي تخيم على العلاقات الهندية النيبالية، فتتعلق بتجنيد الجورخا النيباليين في الجيش الهندي. وقد استمرت هذه الممارسة الفريدة سبعة عقود حتى أوقف مخطط أجنيباث الهندي هذا في عام 2022. وبموجب المخطط، سيُجنَّد الجنود دون رتبة ضابط مدة محددة، تبلغ أربع سنوات، على أساس عقد في جميع فروع قوة الدفاع، وينطبق هذا المخطط على المواطنين النيباليين المنتمين إلى مجتمع جوركا. وفي حين أن الخدمة الطويلة الأجل تمنح الأفراد العسكريين النيباليين من جوركا فوائد على قدم المساواة مع زملائهم الهنود، فإن المجندين الجدد سيكونون مقيدين بالخدمة الثابتة أربع سنوات بموجب هذا المخطط، ولن يحصلوا على معاش عسكري، أو مزايا ضمان اجتماعي طويلة الأجل. منذ إطلاق مخطط أجنيباث، لم يُجنَّد أي جوركا في الجيش الهندي؛ لأن نيبال غير راغبة في إرسال مواطنيها للخدمة أربع سنوات فقط، لكن الحكومة النيبالية لم تتخذ بعد قرارات ملموسة بشأن مخطط أجنيباث.
أسفرت زيارة براشاندا إلى الهند عن نتائج ملموسة، وسُمح لنيبال بتصدير الكهرباء إلى ولايات هندية أخرى بالإضافة إلى ولاية بيهار، وهي بداية واعدة في خفض العجز التجاري مع الهند. وشهدت هذه الزيارة أيضًا مراجعة معاهدة التجارة والعبور؛ مما سمح لنيبال بالوصول إلى الممرات المائية الداخلية للهند، بالإضافة إلى استمرار الوصول إلى كثير من المواني الهندية للتجارة الدولية، ووُضِعَت الأسس لخط نقل بوتوال- جوراخبور بقدرة (400) كيلوفولت، ووُقِّعَت مذكرة تفاهم لمشروع تطوير الطاقة الكهرومائية فوكوت- كارنالي الطموح بقدرة (480) ميغاوات، واتفاقية لتطوير مشروع الطاقة الكهرومائية لوار آرون بقدرة (669) ميغاوات.
وتخطط الهند لاستيراد عشرة آلاف ميغاوات من الطاقة الكهرومائية من نيبال على مدى السنوات العشر المقبلة، وهو وضع مربح للجانبين. ورحبت نيبال أيضًا بصفقة الكهرباء الثلاثية الأولى المرتقبة بين نيبال وبنغلاديش والهند. وتعد هذه الاتفاقيات مهمة للازدهار الاقتصادي في نيبال؛ لأنها تساعد على تقليل عجزها التجاري مع الهند. وأهم من ذلك هو أن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي وافق على حل النزاع الحدودي من خلال المفاوضات، وهذه هي المرة الأولى التي يعترف فيها رئيس الوزراء الهندي- رسميًّا- بحل قضية الحدود بحضور نظيره النيبالي.
إن العلاقات الهندية النيبالية عالقة في دائرة من عدم الثقة؛ فكما ترى الهند أن نيبال مجرد دولة عازلة، إما ترتعد خوفًا من القوة الهندية، وإما تعض جاحدةً اليد التي تطعمها من خلال تمكين الصين أو باكستان من الوصول إلى أراضيها للقيام “بأنشطة تخريبية ضد الهند”، ترى نيبال أن الهند هي “الأخ الأكبر” المستبد الذي يستخدم نفوذه الجغرافي على كاتماندو لتقييد التنمية النيبالية، والحفاظ على السيطرة الهندية؛ لذا تواجه نيودلهي الآن مقاومة شرسة تهدد بتآكل هذا النفوذ.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.