مع استعداد الرئيس المنتخب دونالد ترمب لتولي منصبه في يناير (كانون الثاني) 2025 بعد فوزه في الانتخابات الأمريكية عام 2024، تتكثف المناقشات العالمية بشأن تداعيات ولايته الثانية. وقد أثار فوزه ردود فعل حادة؛ إذ يرى المؤيدون زعامته عودةً إلى القوة الوطنية، في حين يثير المنتقدون مخاوف بشأن قضايا مثل الهجرة، والسياسات التجارية، والعلاقات مع الصين. ومن المتوقع أن تجلب رئاسة ترمب الجديدة، التي تركز بقوة على سياسات “أمريكا أولًا”، تغييرات كبيرة، ليس فقط داخل الولايات المتحدة؛ ولكن على المشهد العالمي الأوسع أيضًا.
لقد تحسنت العلاقات بين الهند والولايات المتحدة كثيرًا على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، بعد أن كانت مشحونة بعدم الثقة والتوتر خلال الحرب الباردة. وشهدت العلاقات الثنائية تحولًا كبيرًا عندما وافقت الولايات المتحدة لأول مرة على تحقيق التعاون الكامل في مجال الطاقة النووية المدنية مع الهند في يوليو (تموز) 2005. وقد منحت مجموعة موردي المواد النووية الهند تنازلًا لبدء التجارة النووية المدنية في سبتمبر (أيلول) 2008، كما تم التوصل إلى اتفاقية التعاون النووي المدني بين الهند والولايات المتحدة (“اتفاقية 123”) في العام نفسه؛ مما أدى إلى تحول في العلاقة الثنائية.
وكانت زيارة الدولة التي قام بها ترامب خلال فترة رأسته الأولى إلى الهند في أواخر فبراير (شباط) 2020 رمزًا لهذه العلاقة الثنائية المعززة، وأهمية التعاون الدفاعي داخلها. وفي حين كانت هذه الزيارة بمنزلة إعادة تأكيد أن الولايات المتحدة هي الشريك الأمني الرئيس الشامل للهند، في ظل تزايد مخاوف الهند بشأن الوجود الصيني المتزايد في جنوب آسيا والمحيط الهندي، وسعي الولايات المتحدة أيضًا إلى مواجهة النفوذ العالمي المتنامي للصين، فقد وصلت الهند والولايات المتحدة إلى مستوى متزايد من التقارب الإستراتيجي بشأن الحاجة إلى مواجهة الصين في منطقة المحيط الهادئ. ويتجلى هذا على نحو أوضح في مجال الدفاع والأمن، وخاصة في ظل حكومتي ناريندرا مودي ودونالد ترمب.
تعد الولايات المتحدة هي رابع أكبر مصدر للأسلحة للهند بعد روسيا وإسرائيل وفرنسا، ومنذ عام 2000، ارتفعت التجارة الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة ارتفاعًا ملحوظًا من (200) مليون دولار أمريكي إلى أكثر من (20) مليار دولار أمريكي. والعامل الرئيس في هذا النمو هو قرار واشنطن اعتبار الهند “شريكًا دفاعيًّا رئيسًا” عام 2016، وشهدت الفترة بين عامي (2016 و2019) توقيع ثلاث اتفاقيات للتعاون الدفاعي؛ لذا من المحتمل أن تكون عودة ترمب مُحفزًا لنيودلهي على شراء معدات عسكرية أمريكية إضافية؛ فقد منح ترمب الهند الموافقة على شراء (24) طائرة هليكوبتر حربية مضادة للغواصات من طراز (MH-60R Seahawk)، بتكلفة تقدر بـ(2.6) مليار دولار أمريكي، وهذا يشمل أيضًا نقل التكنولوجيا من شركة لوكهيد مارتن إلى الهند. وتعود أصول هذا المطلب إلى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما بدأت البحرية الهندية برنامج طائرات الهليكوبتر المتعددة المهام، واختارت الهند في نهاية المطاف طائرات (Sikorsky S-70B Seahawk) عام 2014، لكن ذلك فشل عندما لم يتمكنوا من الاتفاق على السعر.
ووقعت الهند أيضًا عقد توريد مع الولايات المتحدة لبيع ست طائرات هليكوبتر هجومية إضافية من طراز (AH-64E Apache Guardian)، بتكلفة تبلغ (930) مليون دولار أمريكي. هذا بالإضافة إلى العقد الذي تبلغ قيمته 3 مليارات دولار بين الهند وبوينغ لشراء (22) طائرة هليكوبتر من طراز أباتشي، و(15) طائرة هليكوبتر من طراز شينوك.
عام 2020، وسّعت الولايات المتحدة وأستراليا تعريفاتها الجغرافية “للمحيطين الهندي والهادئ” لتتناسب مع تعريفات الهند واليابان. ويأتي ذلك في أعقاب الحوار الثلاثي الذي تم تحديثه بين الهند واليابان والولايات المتحدة، والحوارات الرباعية بين الهند واليابان والولايات المتحدة وأستراليا، وإقامة حوار “2+2” بين وزراء الخارجية والدفاع في الهند والولايات المتحدة، وأول مناورة عسكرية ثلاثية الخدمات بين الهند والولايات المتحدة عام 2019.
أصبحت “شبكة النقطة الزرقاء” التي تقودها مجموعة السبع، والتي تركز على المعايير المشتركة لتطوير البنية التحتية العالمية استجابة لمبادرة الحزام والطريق الصينية، سمة جديدة معلنة للتقارب مع رؤية الهند لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ومع ذلك، تختلف الهند والولايات المتحدة بشأن جوانب التحدي الصيني، مع وجود اختلاف رئيس يتمثل في أن الصين في نظر الهند هي جارتها المباشرة التي تفصلها جبال الهيمالايا فقط، حيث تستمر التوترات بشأن حدودهما البرية المتنازع عليها؛ لذلك سعت الهند إلى إشراك الصين من خلال مزيج من التعاون والمنافسة في جوارهما المشترك؛ لذلك تظل هناك تساؤلات عما إذا كانت مجموعة “الرباعية” التي تضم الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان ستجتمع في سياق سياسي فقط، أم سيكون لها أبعاد عسكرية في ظل ولاية ثانية لدونالد ترمب.
الولايات المتحدة هي أكبر شريك تجاري للهند، حيث بلغ حجم التجارة الثنائية بين البلدين ما يقرب من (120) مليار دولار في السنة المالية 2024 -وهو ما يزيد قليلًا على تجارة الهند مع الصين. ومع ذلك، على عكس الصين، فإن العلاقات التجارية بين الهند والولايات المتحدة مواتية؛ مما يجعل الولايات المتحدة مصدرًا حيويًّا للعملة الأجنبية. وعلى الرغم من محاولات تنويع الصادرات، فقد تزايد اعتماد الهند على الولايات المتحدة على مدى العقد الماضي. ووفقًا للبيانات الرسمية لعامي (2022 و2023)، تمثل الولايات المتحدة (18%) من صادرات الهند، مقارنة بنحو (10%) في عامي (2010 و2011). وتتمتع سلة صادرات الهند إلى الولايات المتحدة بتنوع جيد، وهو ما يعود بالنفع على الصناعات التي تتراوح من المنسوجات إلى الإلكترونيات والهندسة.
في أثناء الحملة الانتخابية وصف ترمب الهند بأنها “مُعتدٍ كبير على التجارة”، وهو ما يشير إلى أنه قد يجدد التوترات التجارية التي سادت خلال ولايته الأولى، ويفرض تعريفات جمركية أعلى على صادرات هندية إلى الولايات المتحدة تزيد قيمتها على (75) مليار دولار. ولم يتراجع الميل نحو الحماية والعزلة التجارية اللذين اتسمت بهما إدارة ترامب الأولى، فقد عرقل ترامب عملية حل النزاعات في منظمة التجارة العالمية، واستشهد بأحكام التجارة في زمن الحرب لإطلاق صراعات تجارية مع شركاء تجاريين رئيسين، ومنهم الهند.
عام 2019، فقدت الهند حق الوصول المعفي من الرسوم الجمركية بموجب برنامج نظام الأفضليات المعمم الذي استمر عقودًا من الزمن، والذي كانت أكبر المستفيدين منه. وقد استفادت الهند من الإعفاء من الرسوم الجمركية ما يقرب من (5.7) مليار دولار من صادراتها إلى الولايات المتحدة؛ لذا وإن كانت رئاسة ترمب ستؤثر في الصين، لكن الفوائد التي ستعود على الهند ربما تكون “محدودة”، حيث قد تتعرض لضغوط تعريفات جمركية متجددة، والتضخم الناتج عن الحواجز التجارية قد يعطل مسار خفض أسعار الفائدة المتوقع؛ مما يؤثر في استهلاك الطبقة المتوسطة في الهند.
وقد تواجه صادرات الأدوية الهندية إلى الولايات المتحدة انتكاسات، وقد تنخفض أرباح شركات خدمات تكنولوجيا المعلومات بسبب التشديد المحتمل بشأن تأشيرات (H-1B)، حيث من المتوقع زيادة حالات الرفض. كما أن السياسات الضريبية ستؤثر في التدفقات النقدية للشركات، ومن المرجح أن تشهد الروبية بشكل عام خفضًا للتصنيف بسبب زيادة التضخم، وبقاء الأسعار مرتفعة فترة أطول.
على مر السنين، ابتعدت الولايات المتحدة تدريجيًّا عن نظام التجارة العالمية الليبرالي الذي ساعدت على تأسيسه بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة منذ أصبحت الصين عضوًا في منظمة التجارة العالمية عام 2001. ولم يؤد انضمام الصين إلى التحرير الاقتصادي المتوقع؛ بل أدى إلى انتشار رأسمالية الدولة، مما أثر في أسواق العمل بالولايات المتحدة. وردًا على ذلك، امتنعت الولايات المتحدة عن توقيع اتفاقيات تجارة حرة جديدة، حتى مع تزايد الدعوات الحزبية إلى انسحابها بالكامل من منظمة التجارة العالمية.
وبسبب إحباطها من أحكام النزاعات التجارية غير المواتية، وعجزها عن إدارة الممارسات التجارية الصينية من خلال منظمة التجارة العالمية، عطلت إدارة ترمب وظيفة حل النزاعات في منظمة التجارة العالمية من خلال منع تعيين القضاة. وخلال فترة ولايته الأولى، استشهد ترمب بأحكام الأمن القومي لفرض تعريفات جمركية بنسبة (25%) على الصلب، و(10%) على الألومنيوم من الهند ودول أخرى، متخليًا عن ممارسة عدم استهداف الدول الصديقة.
كما نمت الحمائية الأمريكية في عهد بايدن أيضًا مستشهدًا بممارسات تجارية غير عادلة، وزادت الولايات المتحدة الرسوم الجمركية على المركبات الكهربائية الصينية من (25٪) إلى (100٪) في وقت سابق من هذا العام، وارتفعت الرسوم الجمركية على بعض منتجات الصلب والألومنيوم من (7.5٪) إلى (25٪). ولم تؤثر هذه الزيادات تأثيرًا مباشرًا على الهند، ولكن الرسوم الجمركية التي وعد بها ترمب ربما تستهدف الصين في المقام الأول؛ بسبب اختلال التوازن التجاري الأوسع نطاقًا. وقد تستفيد الهند من جولة جديدة من الحروب التجارية بين الولايات المتحدة والصين من خلال إبعاد الاستثمارات والتصنيع عن الصين.
إن سياسات ترمب بشأن الهجرة، وفرض الضرائب على الواردات، والجهود الرامية إلى تقويض استقلال بنك الاحتياطي الفيدرالي، من شأنها أن تؤدي إلى ارتفاع كبير في أسعار المستهلك. والتضخم، الذي من المتوقع أن يبلغ (1.9%) في عام 2026، قد يرتفع إلى ما بين (6%) و(9.3%) إذا نفذ ترمب مقترحاته الاقتصادية؛ ما قد يؤثر في الصادرات الهندية من السلع التي تتطلب عمالة كثيفة، مثل المنسوجات والأحجار الكريمة والمجوهرات والمنتجات الجلدية؛ ما يعني ضياع ملايين الوظائف. إن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة يضر بالهند على نحو غير متناسب، حيث تمثل الولايات المتحدة ما يقرب من (20%) من إجمالي الصادرات الهندية.
يعتبر قادة البلدين (ترامب ومودي) مسؤولين عن العلاقات الثنائية في مقام الأول، لا سيما أن الاستعداد “للاتفاق على الاختلاف” مع الشركاء من سمات السياسة الخارجية الهندية في عهد مودي، التي يمكن أن تخدم العلاقات بين الولايات المتحدة والهند جيدًا. وعلى الرغم من استمرار الخلافات في العلاقات التجارية، فقد يُحرَز تقدم نحو اتفاقية تجارة أمريكية- هندية تحقق مصالح الطرفين. كما ستواصل نيودلهي إدارة علاقتها مع الصين وروسيا في ضوء سياستها غير المنحازة انحيازًا مباشرًا لواشنطن، لكن هذا لا يعني أن الصين لن تشكل عاملًا رئيسًا في التقارب بين الولايات المتحدة والهند لسنوات مقبلة. ومن المتوقع أن تعزز نيودلهي وواشنطن اعتمادهما على بعضهما البعض في منطقة المحيطين الهندي والهادئ الأوسع، دون اعتبار العامل الصيني مركزيًّا في العلاقات الثنائية بين الطرفين.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.