تقدير موقف

العلاقات الأوكرانية- الإسرائيلية.. “تحالف كامل ضد روسيا والفلسطينيين”


  • 20 مايو 2024

شارك الموضوع

التصعيد الجديد للحرب في أوكرانيا منذ فبراير (شباط) 2023، وضع القيادة الإسرائيلية أمام خيار صعب. فمن ناحية، طالبت واشنطن والرأي العام التقليدي المعادي للروس في إسرائيل بمنح كييف الدعم العسكري والسياسي الكامل؛ ومن ناحية أخرى، لدى تل أبيب وموسكو علاقات اقتصادية وثيقة، بجانب وجود الجيش الروسي في سوريا، الذي يمكنه اتخاذ تدابير جديدة لحماية المجال الجوي السوري من الهجمات الإسرائيلية. كما مرت إسرائيل بالتجربة غير السارة المتمثلة في الحرب الأرمنية الأذربيجانية عام 2020، عندما اشتبك الأرمن الذين يعيشون في القدس في الشوارع مع المهاجرين اليهود من أذربيجان، ولم ترغب السلطات في رؤية اشتباكات بين مؤيدي روسيا وأوكرانيا[1].

بالعودة إلى 2 مارس (آذار) 2023، أشار دانييل راكوف، الخبير في معهد القدس للدراسات الإستراتيجية، في مقابلة مع الصحافة اليهودية الأسترالية إلى أن: “النهج المُقيد وشبه المحايد [تجاه الصراع في أوكرانيا] لا يزال يمثل الإجماع لدى معظم الكتل السياسية في إسرائيل”. وفي حين أن خطر الإضرار بسمعة إسرائيل في الغرب لا يزال قائمًا، فإن الجدل مستمر بشأن مدى خطورة هذا الأمر[2]. تعالت دعوات الحياد في إسرائيل منذ الأيام الأولى للصراع، وكما كتب الكاتب إلياكيم هايتزني، في صحيفة يديعوت أحرونوت: “لقد حان الوقت لمناشدة صناع القرار عدم الاستسلام للإغراءات، والبقاء على الحياد التام بأي ثمن”[3]. ووفقًا لعالم السياسة الإسرائيلي بيني بريسكين، فإن “إسرائيل حافظت على الموقف نفسه تقريبًا طوال الصراع الأوكراني، ولا أعتقد أن الأمر سيتغير في أي وقت قريب. إسرائيل مستعدة لمساعدة أوكرانيا إنسانيًّا، لكنني لا أعتقد ذلك فيما يتعلق بإمدادات الأسلحة، بشكل مباشر، أو غير مباشر”[4].

ومع ذلك، لا ينبغي المبالغة في درجة الحياد الإسرائيلي. تبيّن أن المخاوف الأولية من ظهور لوبي مؤيد لروسيا في إسرائيل كان مبالغًا فيها. وفقًا لاستطلاعات إحصائية، فإن الأغلبية المطلقة، 76% من الإسرائيليين، ومنهم المهاجرون من الاتحاد السوفيتي السابق، يؤيدون أوكرانيا. كما تعرضت تل أبيب لضغوط خطيرة من الولايات المتحدة، التي طالبت بالقيام بدور أكثر فاعلية في مساعدة كييف، وتطبيق العقوبات المناهضة لروسيا[5]. كما أُرسِلَ متطوعون ومستشفى عسكري وإمدادات ذخيرة تابعة للجيش الأمريكي من إسرائيل إلى أوكرانيا. في بداية عام 2023، اعترف السفير الإسرائيلي لدى ألمانيا رون بروسور، بأن بلاده تساعد أوكرانيا بنشاط، وحجم هذه المساعدة أكبر بكثير مما يبدو من الخارج. “نحن نساعد، ولكن خلف الكواليس، وأكثر بكثير مما هو معروف. وفي ذلك الوقت، ظلت هذه الاتصالات سرية بسبب الوجود العسكري الروسي في سوريا، والجالية اليهودية الكبيرة في روسيا. هذان هما السببان الرئيسان وراء بقائنا بعيدًا عن الأنظار” [6].

تم تأكيد المعلومات التي تفيد بأن المساعدة الإسرائيلية لأوكرانيا تتجاوز نطاق “الدعم الإنساني” في الخريف الماضي، عندما انتشرت على الإنترنت لقطات للمدربين الإسرائيليين الذين دربوا القوات الأوكرانية، وبعد هجوم حماس تم استدعاؤهم إلى وطنهم[7]. ومع أن الكرملين أعطى- تقليديًّا- أهمية كبيرة، ومبالغًا فيها، لقدرة إسرائيل على تحسين علاقاته مع الغرب، فإن هذا النشاط العدائي لم يمر دون أن يلاحظه أحد، وتسبب في خيبة أمل كبيرة لموسكو.

أدت أحداث 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إلى تسريع التقارب بين تل أبيب وكييف، وأسهمت في زيادة فتور العلاقات مع موسكو. بعد هجوم حماس مباشرة، أعلن الرئيس الأوكراني زيلينسكي دعمه غير المشروط لإسرائيل، قائلًا إن: “الأخبار الواردة من إسرائيل صادمة، تعازيّ لجميع عائلات الذين قتلوا في الهجمات الإرهابية، ونأمل أن يعود السلام، ويُهزَم الإرهابيون؛ لأن الإرهاب ليس له مكان في العالم، وسيظل دائمًا جريمة ضد الإنسانية والعالم أجمع. إن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس لا شك فيه” [8].

وعلى هذه الخلفية، فإن موقف روسيا، الذي أعرب عن رغبتها في أن تصبح وسيطًا بين الإسرائيليين والفلسطينيين، واستقبال وفد من حماس، وتسهيل تبادل بعض الرهائن في بداية الصراع، فُسِّرَ في إسرائيل على أنه “مؤيد للفلسطينيين”، بل “موالٍ لحماس”، وأثارت هذه المواقف الروسية حالة من الهستيريا في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي الإسرائيلية. وزعم المدونون أن “هجوم حماس تم توقيته ليتزامن مع عيد ميلاد بوتين”، وأن “الأنفاق في غزة حفرها عمال مترو موسكو” [9].

وقد انتقل خطاب المؤامرة هذا تدريجيًّا من صفحات الشبكات الاجتماعية إلى الأروقة الدبلوماسية. ومع مرور الوقت، أصبحت المناوشات بين الدبلوماسيين الإسرائيليين والروس أمرًا شائعًا. في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، قال مندوب إسرائيل الدائم لدى الأمم المتحدة، جلعاد إردان، إنه: “من المضحك أن نسمع من المندوب الروسي حديثًا أخلاقيًّا عن إسرائيل بشأن حقوق الإنسان والقانون الدولي. ممثل دولة طُردت من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يناقش الأخلاق، روسيا هي آخر من يعطينا دروسًا في هذا المجال”[10]. في الوقت نفسه، ذكرت وسائل إعلام روسية- نقلًا عن صحيفة تايمز أوف إسرائيل- أن مسؤولين وعسكريين أوكرانيين كبارًا زاروا إسرائيل: “زار وفد من كبار المسؤولين العسكريين الأوكرانيين إسرائيل الأسبوع الماضي؛ في محاولة لتأمين المساعدة الدفاعية”. وبحسب ما ورد “كان الأوكرانيون حريصين على المضي قدمًا في نظام التحذير الصاروخي الذي زُعم أن إسرائيل وعدت أوكرانيا ببنائه”. كما أُشير إلى أن كييف دعت تل أبيب- مرة أخرى- إلى “تنظيم توريد الأسلحة للحرب مع روسيا” [11].

بعد وقت قصير من بدء الغزو الإسرائيلي لغزة، زار الرئيس الأمريكي جو بايدن إسرائيل، وقارن بين الحرب في شرق أوكرانيا والأزمة في غزة، وقال: “إن أوكرانيا وإسرائيل كانتا ضحيتين لعدوان من جيران معادين للديمقراطية”. وقد دعم وجهة النظر هذه رسميًّا كلٌّ من رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لين، ورئيس أوكرانيا زيلينسكي. وفي إطار المواجهة العالمية الناشئة بين الغرب والتحالف الروسي الإيراني، يحدث هذا المنطق بالتأكيد، ولكن كما سنرى أدناه، فإن المشاركين في الصراع أنفسهم لا يرغبون فيه [12].

انتشرت المشاعر المؤيدة لإسرائيل على نطاق عريض في أوكرانيا. ووفقًا لاستطلاعات الرأي التي أجراها المعهد الدولي لعلم الاجتماع في كييف، بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول)، أيد 69 % من الأوكرانيين إسرائيل، و1 % الفلسطينيين، والباقون لم يقرروا بعد موقفهم. وكما أشار نائب مدير المعهد أنطون خورشيتسكي: “من الواضح أن الحكومة يجب أن تحافظ على إطار دبلوماسي معين مع الدول الإسلامية، ولكن حقيقة أن الأوكرانيين أكثر دعمًا لإسرائيل تمثل خيارًا أخلاقيًّا، وهذا الخيار هو عالم ديمقراطي حر، وليس عالم الرعب على طراز القرون الوسطى، لقد تعرضنا للهجوم تمامًا كما تعرضوا هم أيضًا لهجوم مماثل”[13] .قال أحد سكان كييف في مقابلة مع قناة الجزيرة: “كان الهجومان مخيفين، ومثّلا طعنة في الظهر”. وقال رومان زيليابينكو، الذي فر من مدينة بيرديانسك التي تحتلها روسيا: “لقد ساعدت روسيا حماس على بدء هذه الحرب؛ لأن بوتين يريد صرف انتباه العالم عن حربنا” [14].

كما أطلقت سلطات كييف العنان للقمع على ذلك الجزء من المجتمع الأوكراني الذي يتعاطف مع فلسطين. وفي نهاية أبريل (نيسان) من هذا العام، نشرت الصحافة التركية وثائق تسلط الضوء على كيفية تجسس أجهزة المخابرات الأوكرانية على رئيس الإدارة الدينية لمسلمي أوكرانيا (دوما)، أحمد تميم. هاجر المفتي إلى الاتحاد السوفييتي عام 1976، قادمًا من لبنان للدراسة في معهد كييف للفنون التطبيقية. وبعد زيارة قصيرة إلى وطنه لدراسة اللاهوت، عاد تميم إلى أوكرانيا، وفي عام 1994 اختير مفتيًا للبلاد. وحتى اللحظة الأخيرة، لم يكن هناك سبب لاعتباره غير مخلص للدولة الأوكرانية. ولكن من سوء حظه أنه خلال رحلة إلى الولايات المتحدة في العام الماضي، انتقد الوحشية الإسرائيلية في قطاع غزة، داعيًا “المؤمنين إلى التوحد”، و”تنظيم حملة لمساعدة” الفلسطينيين المضطهدين. وقد نقلت أجهزة المخابرات الأمريكية هذه المعلومات إلى السفارة الأوكرانية في واشنطن، وأبلغ الدبلوماسيون الأوكرانيون على الفور السفارة الإسرائيلية وجهاز الأمن الأوكراني بتصرفات المفتي.

بعد ذلك مباشرة، بدأ نظام زيلينسكي بممارسة الضغط ليس فقط على مفتي أوكرانيا، ولكن أيضًا على الهياكل الإسلامية في البلاد- الإدارة الدينية لمسلمي أوكرانيا، والجامعة الإسلامية في كييف. صدرت أوامر لهيئة المراقبة المالية الحكومية في أوكرانيا بتعليق المعاملات المالية للأفراد والكيانات القانونية “التي قد تكون مرتبطة بالإرهاب الإسلامي في فلسطين”، في إشارة إلى انتقاد الإبادة الجماعية في فلسطين [15].

وتجدر الإشارة هنا إلى تصريحات بايدن ورفاقه بأن الصراع في فلسطين ومنطقة دونباس مترابطان، وأن الخطاب العدواني المؤيد لإسرائيل من قبل الدعاية الأوكرانية يقوض موقف كييف، ويشوه سمعتها في عيون دول المنطقة، وبلدان الجنوب العالمي، الذين يعتقدون أن إسرائيل تنفذ سياسات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في غزة. وتنتشر في العالم الإسلامي صور كثيرة لجنود إسرائيليين من أصل أوكراني وهم يرسمون أعلامًا صفراء وزرقاء، وشعارات عنصرية باللغة الأوكرانية على أنقاض المنازل في غزة، وهو موقف مماثل لما عليه نظام كييف أيضًا.

بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، دعت وسائل الإعلام الإسرائيلية، المناهضة بشدة لروسيا ، إلى البدء بتقديم الدعم العسكري الأكثر نشاطًا إلى أوكرانيا، وأصبح خطاب السياسيين الإسرائيليين تجاه موسكو أكثر صرامة. لكن اليوم، بعد ستة أشهر، اضطر المحللون والصحفيون الإسرائيليون- مع الأسف- إلى الاعتراف بأن تل أبيب ليست في عجلة من أمرها من الناحية العملية لإعلان نفسها حليفًا لكييف، وبدء إمدادات عسكرية ضخمة لزيلينسكي. كقاعدة عامة، يُفسَّر ذلك- مرة أخرى- بالقلق على مصير الجالية اليهودية في روسيا، ووجود القوات الروسية في سوريا، ولكن هناك نقطة مهمة أخرى يصمت عنها الخبراء الإسرائيليون: ما الموارد العسكرية الحقيقية التي يمكن لنتنياهو نقلها إلى كييف في الوقت الحالي؟

من الواضح اليوم أن إسرائيل غير قادرة على القيام بعمليات عسكرية بشكل مستقل ضد الفلسطينيين ووحدات حزب الله دون دعم واشنطن. ومن المشكوك فيه أنه في هذه الحالة، حتى لو تولت أكثر الحكومات الإسرائيلية المناهضة لروسيا، لن يكون بمقدورها إرسال فائض الأسلحة والمعدات العسكرية إلى زيلينسكي، التي يبدو أن الإسرائيليين أنفسهم يفتقرون إليها. إذن، ليس من المستغرب في هذه الحالة أن يفضل الإسرائيليون عمومًا الالتزام بخط الحياد المؤيد لأوكرانيا، وعدم إثارة غضب الكرملين مرة أخرى.

لتلخيص ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من اهتمام الجانبين بالتعاون المشترك، لم تتمكن أوكرانيا وإسرائيل من تحويل تعاونهما إلى تحالف عسكري كامل. في البداية، سعت القيادة الإسرائيلية إلى الحفاظ على الحياد؛ لأسباب سياسية واقتصادية، وبعد أحداث 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، انخرطت تل أبيب نفسها في الأعمال العدائية النشطة، مطالبة بجزء من المساعدة العسكرية الأمريكية التي كانت مخصصة سابقًا لكييف.

من الصعب جدًّا تقييم التعاون الأوكراني الإسرائيلي، الذي يعد سريًّا بطبيعة الحال، ولكن هناك من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أنه يتجاوز نطاق “المساعدة الإنسانية”.

المشكلة الأكثر خطورة لكل من كييف وتل أبيب هي حقيقة أن الطرفين يؤكدان- بنشاط- تضامنهما، ويربطان بين أهداف العملية العقابية في غزة وغاياتها والحرب في دونباس. وتحظى وجهة النظر هذه بدعم ونشر كبير من السياسيين في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الذين ينظرون إلى الحربين على أنهما جزء من مواجهة عالمية مع روسيا وإيران والصين. ومن ناحية أخرى، ونظرًا إلى الرفض العالمي المتزايد للممارسات الإسرائيلية في قطاع غزة، فإن التضامن مع تل أبيب يقوض- بوضوح- موقف كييف في عيون دول الجنوب العالمي. كما أن المشاعر المؤيدة لأوكرانيا في إسرائيل تؤدي أيضًا إلى تفاقم العلاقات الروسية الإسرائيلية؛ ونتيجة لذلك، فإن كلا الجانبين لا يتمتع بالمزايا التي قد يوفرها تحالف عسكري كامل، لكنهما يعانيان خسارة كبيرة لصورتهما في نظر المجتمع الدولي.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع