مدخل
أثارت مذكرة التفاهم التي وُقّعت مؤخرًا بين تركيا والعراق الجدل بشأن الدور المستقبلي لأنقرة في شمال العراق، ففي حين تروج الحكومتان للاتفاق بوصفه خطوة تاريخية نحو تحسين العلاقات الثنائية، تتزايد المخاوف من زيادة النفوذ التركي -أو حتى الضم المحتمل- في المنطقة؛ ما يجعل السؤال الأهم هو: هل تخطط تركيا لسحب قواتها من الأراضي العراقية على نحو حقيقي؟ فمع أن مذكرة التفاهم تشمل مكافحة الإرهاب، ومنع الجريمة عبر الحدود، فإنها لا تنص صراحة على انسحاب القوات التركية من البلاد.
وفي ضوء هذا، اتفقت الجارتان على إعادة تعريف الوجود العسكري التركي في العراق، وسوف تظل القوات التركية في الدولة الواقعة في الخليج العربي، ولكن بمهمة جديدة؛ ألا وهي تدريب القوات العراقية، ولا يمثل هذا التطور تحولًا كبيرًا في العلاقات الثنائية بينهما فحسب؛ بل يعكس أيضًا الديناميكيات والأولويات المتغيرة بسرعة في غرب آسيا.
بدأت رسميًّا سلسلة من التفاهمات السياسية بين بغداد وأنقرة، بالزيارة التاريخية الأولى للرئيس التركي رجب طيب أردوغان للعراق، في 22 أبريل (نيسان) الماضي، وهي الرحلة التي أرست الأساس لمسار التعاون الثنائي الجاري، وأعلن فيها رئيس الوزراء العراقي محورية التعاون الأمني بين البلدين، مؤكدًا أن “أمن العراق وتركيا كلٌّ لا يتجزأ”، وعلى الرغم من إبرام 27 اتفاقية تهدف إلى تعزيز التعاون في مختلف المجالات، فإن مذكرة التفاهم بشأن التعاون الأمني كانت غائبة على نحو ملحوظ خلال تلك الزيارة.
غير أن الاجتماع الرابع لآلية الأمن الرفيعة المستوى بين العراق وتركيا، المنعقد بأنقرة في 15 أغسطس (آب) المنصرم مثّل لحظة محورية في العلاقات بين بغداد وأنقرة، فقد جمع الاجتماع كبار المسؤولين من كلا البلدين، وتوج بتوقيع مذكرة تفاهم بشأن التعاون العسكري والأمني، ومكافحة الإرهاب، أنهت به العراق وتركيا عداءهما القديم لإطلاق مسار نحو التعاون الإستراتيجي المكثف، وبموجب هذه الاتفاقية، اتُّفِق على نقل قاعدة بعشيقة العسكرية، حيث يتمركز الجنود الأتراك، إلى القوات المسلحة العراقية، وإنشاء مركز تدريب وتعاون مشترك بين تركيا والعراق هناك.
لطالما كانت العلاقات بين تركيا والعراق متوترة، حيث اتسمت بفترات من التعاون طغت عليها النزاعات، وخاصة بشأن وجود حزب العمال الكردستاني في المناطق الجبلية في شمال العراق؛ ما جعل بغداد تدين وجود القوات التركية التي تقاتل الانفصاليين الأكراد على أراضيها بوصفه انتهاكًا غير قانوني لسيادتها، وكان قرار الحكومة العراقية حظر حزب العمال الكردستاني، وحل الأحزاب السياسية المرتبطة به، بمنزلة تنازل كبير لتركيا، يهدف إلى تخفيف التوترات، وتعزيز التعاون بين البلدين، لكن هذه الخطوة لم تكن خالية من العواقب، فعقب مذكرة التفاهم مع أنقرة، خاطرت بغداد بتنفير الجماعات الكردية داخل حدودها، وتأجيج الاستياء بين أولئك الذين ينظرون إلى وجود حزب العمال الكردستاني بوصفه مقاومة مشروعة ضد العدوان التركي.
إن التحول في مسار العلاقات التركية العراقية لا يشكل مجرد تحالف إستراتيجي جديد؛ بل يعكس الأولويات المتغيرة لأنقرة وبغداد، ويأتي في مقدمتها ما يلي:
1- التحدي الأمني: تواجه الجارتان تنامي تهديدات الفصائل السياسية والعسكرية الكردية بوصفها تحديًا مشتركًا؛ ما يحفز التعاون الأمني بين بغداد وأنقرة، غير أن رفض العراق تصنيف حزب العمال الكردستاني تنظيمًا إرهابيًّا حتى يُجنب نفسه استهداف الحزب للبلاد، واكتفى بإعلانه تنظيمًا محظورًا، واعتبار عناصره لاجئين تحت رقابة الدولة والأمم المتحدة، كان أقل مما تطمح إليه تركيا؛ وعليه فإن أنقرة ستضطر إلى شن عملية عسكرية هذا الصيف بمفردها ضد معاقل الكردستاني، وقد تساعدها بغداد بموجب مذكرة التفاهم على احتواء العناصر الهاربة، ووضعهم في مخيمات للاجئين.
2- الطموحات الاقتصادية: يمثل مشروع الممر الاقتصادي الهند- الشرق الأوسط- أوروبا، برعاية الولايات المتحدة، محفزًا جديدًا لتوثيق العلاقة بين العراق وتركيا، لمواجهة المشروع الذي يهدف إلى تقويض الممرات التجارية الإستراتيجية التي تعمل البلدان على إنشائها. وفي المقابل، دعت أنقرة وبغداد إلى طريق التنمية بوصفه مشروعًا مضادًا من شأنه أن يعزز الاتصال بين العراق وتركيا وأوروبا. وفي هذا الصدد، يهدف مشروع طريق التنمية، الذي يمتد على مسافة 1200 كيلومتر من الحدود التركية إلى الخليج، إلى تنشيط الاقتصاد العراقي من خلال تطوير البنية التحتية للطرق والسكك الحديدية، ويعد المشروع حجر زاوية لاقتصاد غير قائم على النفط، ويسهم في دمج العراق مع جيرانه، ويسهم في الاستقرار الإقليمي.
وبالفعل، نجح طريق التنمية في جذب استثمارات كبيرة، لا سيما من دول الخليج العربي، وتحقيق فوائد اقتصادية كبيرة، منها تحسين البنية التحتية، وخلق فرص العمل، وتوفير خطوط نقل الطاقة والاتصالات، ومع ضم ميناء الفاو الكبير في العراق، أصبح يُنظر إلى المشروع الآن على أنه عنصر حاسم في الإستراتيجية المشتركة بين العراق وتركيا للبقاء كلاعبين مركزيين في المنطقة.
3- التعاون العسكري
تنص مذكرة التفاهم الموقعة بين العراق وتركيا على التزام الدولتين باتخاذ تدابير تعاونية، منها التدريب العسكري المشترك، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وجهود مكافحة الإرهاب، فضلًا عن إنشاء مركز مشترك للأمن والتنسيق في بغداد، تحت قيادة العمليات المشتركة، حيث يوفر منصة للتعاون المستمر، ولعل المادة الأبرز في تلك المذكرة أنها تؤكد أهمية احترام سيادة كل منهما على أراضيه؛ ما يعني إصرار العراق على رفض العمليات العسكرية التركية على أراضيه.
بعد سنوات من الخلافات بشأن موارد المياه، وصادرات النفط، ووجود حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، يمكن القول إن عصرًا جديدًا قد بدأ بين تركيا والعراق، غير أن ركائز هذا العصر لن تكون سهلة، فمشروع طريق التنمية الذي يعد عماد هذا التعاون يواجه منافسة شرسة من جانب كثير من المبادرات الجيوسياسية والجيو- اقتصادية الواسعة النطاق، ومن بين المنافسين مبادرة الحزام والطريق الصينية، والممر الاقتصادي الهندي- الشرق الأوسط- أوروبا، المدعوم من الولايات المتحدة، وخطط إيران الطموحة لتحويل موانيها إلى مراكز مركزية للتجارة بين شرق آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا وأوروبا، ومن غير المرجح أن يقف هؤلاء المنافسون جانبًا ويسمحوا بنجاح مشروع طريق التنمية دون مواجهة.
ومن ناحية أخرى، لا يحتل العراق مكانة مهمة في خطط الطرق الصينية، فالطريق الذي تقترحه بكين يمر عبر آسيا الوسطى وتركيا، وليس العراق. فضلًا عن ذلك، فإن أولوية أنقرة هي أن تكون ممرًا رئيسًا مباشرًا بين الصين وأوروبا؛ ما يجعل تركيا ترى في طريق التنمية فرصة لزيادة التجارة مع منطقة الخليج والشرق الأوسط بدلًا من آسيا، ومن المرجح أن تشهد اختلافًا في الغرض مع العراق في هذا الصدد، ولعل التحدي الأكبر يتمثل في انعكاس مشروع طريق التنمية على تقويض سياسة إيران في الشرق الأوسط، ونفوذها الإقليمي على نحو كبير، فضلًا عن التأثير سلبًا في تجارة دول الخليج.
لقد أبدت أنقرة تاريخيًّا اهتمامها بالعراق، وخاصة مناطق كالموصل، وكركوك، ودهوك، مستشهدة بمطالبات تعود إلى العصر العثماني؛ لذا تظل الحكومة العراقية ذات الأغلبية الشيعية حذرة من مناورات أنقرة؛ بسبب العلاقات تركيا مع الأقلية السنية، وتحالفاتها مع مختلف الفصائل العراقية، في حين تراقب إيران هذه التطورات عن كثب، ارتباطًا بمصالح طهران المتعددة في المحافظات الشمالية، وخاصةً في كركوك وسنجار، حيث تمارس نفوذها من خلال الميليشيات والتحالفات السياسية؛ لذا قد يُنظر إلى الوجود التركي الموسع بوصفه تهديدًا للعمق الإستراتيجي لإيران في العراق، وهو ما قد يؤدي إلى تصعيد التوترات بين أنقرة وطهران في ظل المستجدات الإقليمية.
الخاتمة
مجمل القول أن العراق يواجه الآن تحدي الموازنة بين رغبته في التعاون الأمني مع تركيا والحاجة إلى حماية سيادته؛ لذا فالبلدان يقفان عند مفترق طرق قد يشكل علاقتهما سنوات مقبلة، وسوف يعتمد النجاح في العبور من هذا المفترق على رد بغداد، وحكومة إقليم كردستان، والجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى، وعلى رأسها إيران؛ ومن ثم فإن القضايا المعلقة فيما يتصل بالسيادة والسلامة الإقليمية قد تؤدي إلى تفاقم التوترات في المنطقة، لا سيما مع إصرار تركيا على الحفاظ على وجودها العسكري في العراق، إلى جانب التزامات الانسحاب الغامضة؛ ما يشير إلى أخطار طويلة الأمد، ليس على تركيا والعراق فحسب؛ بل على أمن المنطقة أيضًا.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.